أحلم وأنا بجوارك” خصوصية الرؤية وإبداعية الغزل

 

يتشكل العالم الروائي للروائية زينب عفيفي بعيدا عن صخب التشوه الذي يجتاح الحياة اليومية لعالمنا، حيث تذهب إلى حيوات نقية وشفافة تقيم بين ظهرانيها وتمارس حياتها بنقاء وشفافية فريدة، وينعكس هذا العالم على سردها ولغتها وتجليات مخيلتها.

 وفي روايتها الأخيرة “أحلم وأنا بجوارك” الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية تنسج سيرة وعلاقة جمعت بين أم فقدت بصرها في مطلع شبابها لكنها لم تفقد شغفها بالأدب والموسيقى والفن، وابنتها التي ورثت عنها هذا الشغف حتى باتت حياتها تتقاطع مع حيوات وأفكار شخصيات الأعمال الروائية وكتابها، تقيمان في ضاحية المعادي التي تتميز بهدوئها وجمال تخطيطها العمراني، وفي بيت عامر بالكتب والأعمال الموسيقية الشهيرة.

تسرد عفيفي روايتها بروح شاعرية تؤمن بقيم الجمال والحب والإنسانية، ويتجلى ذلك على مفردتها المنتقاة بعناية وبنية جملتها الناعمة والراقية في كافة أحوالها، والتي تتحاور وتشتبك مع عوالم ومخيلات وكتابات روائيين وكتاب مختلفي أساليب السرد والرؤى والأفكار، دون أن تفقد خصوصية نسيج بنيانها اللغوي.

تغزل عفيفي خيوط عالم روايتها بذكاء وهدوء ودون تعقيد مغلبة الإشارات والإيحاءات في انتقالاتها بين الواقع المعاش والحلم والذاكرة، هذا الثلاثي المتصارع داخل شخصياتها المتأججة بالمشاعر والأحاسيس، والمفتونة بالمعرفة والإبداع، والذي يشكل الحب مركزه الدرامي الرئيسي. فالحب هنا هو البطل الفاعل والمحرك لمسار الرؤية بكل ما يتوهج داخله من أحلام وتخيلات وآمال وتحديات، هو مركز الدائرة منه تتوالد الخيوط التي يتم غزلها، ودونه لا يمكن أن نرى لملامح الشخصيات وما يعتمل بداخلها. هذه الشخصيات التي تتشظى ملامحها في ثنايا الحكي ولا يمكن الوقوف عليها مكتملة إلا بعد الانتهاء من الرواية.

الرواية حافلة بالمعرفة والثقافة ليس على مستوى تماس نسيجها مع الكثير من كبار الروائيين وأعمالهم الإبداعية الشهيرة، ولكن أيضا على مستوى توظيف هذا التماس في بنية الشخصيات والتحليلات والحوارات والتصاعد الدرامي للأحداث

حددت عفيفي الزمن والمكان، فالزمن هو الحالي المعاش وإن تخلله أزمنة أخرى ترتبط بذكريات الشخصيات، والمكان هو بيت عتيق في حي المعادي بني من أحجار بيضاء ويضم حديقة صغيرة بشجرتين ياسمينة بيضاء وارفة ونخلة سامقة بلا طرح “كرمز للأم الحنونة والابنة التي لم تتزوج” ويحتوي البيت علي مكتبة زاخرة بالكتب من رواية وفكر وعلم نفس “إرث الابنة عن جدها”، أما الزمان والمكان فكلاهما يحمل بعدا ودلالة مناقضة لبعد ودلالة الآخر، فالزمن المعاش زمن مشوه بفوضى زحام المارة والسيارات وعلامات المرور المعطلة والعبور بالاتجاه المعاكس، زمن لا يحتفي بالثقافة والمعرفة، أما المكان فإن تركيبته تؤكد على أصالة ما يحتضن من وجوه الجمال والفن سواء فيما يتعلق بعمارته أو الشخصيات الكائنة فيه أو احتفائه بالثقافة والفن.

الشخصية المحورية التي تروي عفيفي روايتها على لسانها وتنسج خيوطها من خلالها هي “مي عبدالحميد” الابنة العاشقة للقراءة عامة وقراءة الروايات والقصص والحكايات خاصة، حيث ترى أن “الروايات بإمكانها أن تشفينا من أوجاعنا وتساعدنا على فهم الحياة، وبعضها قادر على تنويرنا ومنحنا حياة أرحب”، تحلم بالزواج عن حب فـ “الزواج الذي لا يأتي عن حب من الأفضل ألا يأتي أبدا”، وعلى الرغم من أنها تحلم كل ليلة بالأمير الذي يمتطي حصانه الأبيض ليمنحها قبلة الحياة لكي تصير أميرته، إلا أن طريقة حياتها المثالية والمنضبطة، والتي تتمحور حول رعاية أمها “راجية” وقضاء احتياجات البيت، والقراءة والعيش في حيوات الروايات والذهاب إلى مكتبة الحي لمتابعة الجديد، تحول بينها وبين الاحتكاك المباشر مع الصخب المتشوه الذي طال العالم من حولها، لذا ما أن تمر وتلمح الكاتب والصحفي “سليم علوان” بينما يوقع روايته الأخيرة “سأحبك للأبد” في أحد المولات، حتى تغرم به.

 تشتري الرواية لتبدأ العيش مع بطلتها وترى أنها تشبهها حد التطابق بل إنها هي، حتى لتذهب لاستحضاره ـ سليم علوان ـ في حلمها ومخيلتها تحاوره وتناقشه، وتتساءل “كيف استطاع أن يصف أحاسيسي بهذه الدقة وكأنه يعرفني؟ هل كتب الرواية من أجلي؟ أم أنه كتبها لامرأة تشبهني؟”.

أما الشخصية الثانية فهي الأم “راجية منصور” التي حلمت أن تكون كاتبة لكن صدمتها في حبيبها وخيانته لها دفعها مضطرة إلى أن تتزوج من رجل آخر، والتي تفقد بصرها في الثلاثين من عمرها رويدا رويدا بينما ابنتها الوحيدة لا تزال صغيرة، والتي تشعر بخيانات زوجها “زير النساء”، لكنها لا تحاول البحث وراءه وإثبات ذلك وتفضل التزام الصمت، وتعكف على تربية ابنتها معتبرة إياها محور حياتها، فتمنحها محبتها للكتابة والأدب والفن والموسيقى، وتتواصل معها بكامل حواسها الجسدية والروحية والنفسية حتى لا نكاد نرى فقدانها لبصرها في ردودها وحركتها مع هذه الابنة، تقول لابنتها بينما تستعد الأخيرة للقاء “سليم علوان” الحبيب الذي غدر بها “لا أريد شيئا، كل ما في الأمر أنني أحببت أن تكوني أنت ولست أنا”، وتقول الابنة بينما تقلب رسائل وصور أمها التي تخص علاقتها بـ “سليم علوان” “من المؤكد أن بصيرتها ظلت مضيئة في أعماقها لتعايش ذلك الحب الذي لم تنطفئ جذوته”.

الشخصية الثالثة هي شخصية الروائي والمثقف والمفكر الشهير سليم علوان المحسوب على الدولة، والذي يبلغ من العمر سبعين عاما، آخر أعماله رواية “سأحبك للأبد”، يكتب الرواية التاريخية والقصص والمقال، ويشوب تاريخه الروائي الانتقادات والشكوك، حتى ليتهم بسرقة إحدى رواياته، يرتبط بعلاقة حب مع الأم “راجية” أثناء المرحلة الجامعية ويتبادل معها الرسائل والتقاط الصور التذكارية.

 ما إن تراه “مي” الراوية والشخصية المحورية حتى يتجسد لها في كل غفواتها وخيالاتها وأحلامها، تعيشه بكل مشاعرها، تناقشه وتحاوره وتتمناه، حتى تعترف الأم لها تحت الضغط والإلحاح في الحديث عنه ولقائه. إنه الحبيب الذي غدر بها، لكن “مي” تواصل لقاءه حتى ليقع في غرامها ويطلبها للزواج، ويتجرأ بالقول لها “أحببتك في “راجية منصور” كما أعيد حبي لـ “راجية منصور” فيك أنت” دون أن يعلم أنها ابنة راجية نفسه!

بخلاف هذه الشخصيات الثلاثة لا تشكل الشخصيات الأخرى في الرواية سوى مجرد جسور وصل، كشخصية الأب “عبدالحميد شعبان” الذي يموت إثر حادث أليم، و د. علي بسيوني مدير مكتبة المعادي، لكن تظل شخصية “محمد متولي” أمين المكتبة التي تستعير منها “مي” الكتب هي الشخصية الأكثر حضورا وفعلا بعد الشخصيات الرئيسية، هو رجل ستيني قارئ ومتابع جيد لأحدث الاصدارات، تنسجم تركيبته الفكرية مع القيم الإنسانية الراقية التي تدور في فلكها الرواية، وتتمثل علاقته وحواراته مع “مي” بعلاقة أب مع ابنته، يجد لها وظيفة في مكتبة المعادي “قارئة روايات”، الأمر الذي يفتح لها الطريق إلى اللقاء وجها لوجه مع “سليم علوان”.

الرواية حافلة بالمعرفة والثقافة ليس على مستوى تماس نسيجها مع الكثير من كبار الروائيين وأعمالهم الإبداعية الشهيرة، ولكن أيضا على مستوى توظيف هذا التماس في بنية الشخصيات والتحليلات والحوارات والتصاعد الدرامي للأحداث. إنها رواية بديعة في عمقها الإنساني والجمالي، كتبتها زينب عفيفي بصفاء ونقاء ووعي ثقافي ومعرفي ثري وذلك دون افتعال أو تعال.

يذكر أن زينب عفيفي كاتبة صحفية ـ مدير تحرير أخبار اليوم، صدر لها روايات “شمس تشرق مرتين”، و”أهداني حبا”، و”أحلم وأنا بجوارك” روايتها الثالثة، ولها مجموعة قصصية “خمس دقائق”، ترجمت بعض أعمالها إلى اللغة الانجليزية ولها مقال أسبوعي تناقش فيه شئون الأدب والثقافة.

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى