«الجـماعـة» ومصـر… والـنـظـام الـعــربـي (جميل مطر)

جميل مطر

 

قدّرتُ أن الأزمة الدبلوماسية الناشبة بين حكومة «الإخوان المسلمين» وحكومة دولة الإمارات لن تسوى بسرعة أو ببساطة، وكانت لدي أسباب ومعلومات وراء هذا التقدير. قدّرتُ أيضا أن الأزمة، وإن اشتعلت في البداية بين جماعة دينية ـ سياسية في دولة من جهة، وحكومة أجنبية من جهة أخرى، أي بين طرفين غير متساويين، إلا أنها كما أتصور، أزمة مرشحة لأن تتصاعد فتصبح أزمة بين دولتين، وتتصاعد أكثر فتجذب إلى ساحتها أطرافا أخرى، وخاصة أطرافا في منطقة الخليج.
التقيت قبل يومين عددا من أهل الرأي والفكر في العالم العربي، وقضينا ساعات نقلب الأمر على وجوهه المختلفة. توافقنا على أن للأزمة خلفيات لا يدرك حساسيتها، إلا من اقترب جدا من مراكز صنع القرار الأمني في الدولتين ودول أخرى. بدأت عواصم عربية، حسب رأي واحد من أهل الاطلاع، تتحسس خطرا قادما من مصر تحديدا، تدعمه وتزيد من خطورته انبعاثات ايديولوجية صادرة من تونس. ضاعف الشعور بالقلق، أن دولة من دول الخليج تقدم دعما ماديا وحفزا سياسيا وإثارة دينية، هذه الدولة قررت أن تؤدي دورا، ربما بتصور ما زال غير واضح تماما للمراقب من الخارج ولكثير من صناع السياسة والقرار في الدول الشقيقة ودول الجوار. هناك آخرون، وأنا واحد منهم، يعتقدون أن بعض القلق مصدره حقيقة بسيطة هي أن عددا متزايدا من قوى السياسة والدين في العالم العربي، وفي دول الجوار، يحاول أداء دور في عملية صوغ مستقبل جديد أو في إحباط هذه العملية.
ثورة أو أكثر من ثورات الربيع، سواء تلك التي نشبت في تونس أو في مصر أو في سوريا أو في اليمن، هدّدت حال «الاستقرار المثالي» الذي تمتعت به منطقة الخليج لسنوات طويلة. كان يمكن أن يمتد أجل هذا الاستقرار لو تأخر نشوب الثورات، أو انطفأت فور اشتعالها بفعل فاعل خارجي أو بفعل داخلي أو خانها أبناؤها فقصروا في حقها.
أتصور أنه خطر على أذهان البعض في دولة أو أكثر من الدول العربية، التي فاتها إعصار الربيع، أنه ربما كان ممكنا الجمع بين الاثنين: تحصين الوضع الداخلي وتأمين الاستقرار السياسي في هذه الدول التي لم تنشب فيها ثورات بتوفير زيادات في الأجور والمنح، وفي الوقت نفسه العمل على تغيير طبيعة الثورات في دول الربيع، بحيث يمكن التأثير في مساراتها بالتدخل المباشر عن طريق دعم الفئة أو الجهة القادرة على قيادة التغيير أو بالتوجيه الإعلامي والدعوي بثا من الخارج وتجنيدا من الداخل. وبالفعل، فقد اهتدت إحدى هذه الدول إلى فكرة تشجيع التيارات الدينية التي شاركت في الثورات في مرحلة أو أخرى، لتتولى القيادة والحكم وإن على حساب دوافع وأهداف الطليعة التي أطلقت الشرارة الأولى. هكذا كنا، في مصر وتونس، على الأقل، شهودا على دعاة وفقهاء دين معروفين يتقدمون الصفوف ليتولوا بأنفسهم مقاليد السياسة. ترك أكثرهم أمور الدين ورعاية منظومة الإيمان التي تخصصوا فيها وبرزوا لينتبهوا إلى أمور الدنيا واختاروا من هذه الأمور أكثرها ابتعادا عن تجاربهم وخبراتهم وأخلاقهم، اختاروا السياسة.
تطرح الأزمة الإماراتية المصرية ثلاث مجموعات من الأسئلة تشغل الآن تفكير مثقفين وسياسيين في أنحاء الشرق الأوسط. المجموعة الأولى من الأسئلة، تركز على المواقف العاجلة التي يمكن أن تنتهجها بقية الدول العربية عموماً، والخليجية خاصة، لتسريع عملية التمشيط التي بدأت في عدد من الدول بغرض التأكد من حجم وعدد التنظيمات والخلايا التي أقامتها جماعة الإخوان في كل دولة، وتحديد طبيعة وكثافة شبكة الاتصالات والعلاقات التي تربط بين فروعها في أنحاء العالم العربي وخارجه و بين هذه الفروع والقيادة في مصر.
المجموعة الثانية من الأسئلة، تلاحق التوتر الواضح الذي يلحظه المراقب الخارجي على الساحة العربية عموما والخليجية خصوصا، وحال الالتباس في فهم بعض المسؤولين العرب لطبيعة العلاقة التي يمكن أن تقوم في المستقبل بين أي دولة من دول المنطقة وهذه الجماعة، سواء بقيت قيادتها تحكم مصر أم عادت إلى موقع المعارضة، ولكن بقوة وبمنهج أو مناهج مختلفة من العمل السياسي والدعوي.
المشكلة هنا كما حددها أحد هؤلاء المسؤولين أمامي، تكمن في نوع وطبيعة العلاقات المراسيمية والأمنية، بمعنى آخر هل ستتحمل «الدولة المصرية» ذات المصالح والتعهدات المتنوعة مسؤولية أي تصرفات سياسية غير قانونية تمارسها جماعة «أهلية» مصرية على أرض أجنبية. يقول المسؤول الكبير: «في بلدي لم نلحظ من قبل، من جانب هذه الحكومة أو حكومات أسبق، اهتماما مناسبا بشؤون رعاياها في الخارج، الأمر الذي يجعلنا وغيرنا من المسؤولين الخليجيين أشد حرصا وعجلة لمضاعفة الجهد لوضع أسس لعلاقة من نوع فريد ستفرض نفسها علينا وعلى مصر».
ويضيف انه لم تجر العادة في علاقات دولنا بالخارج أن تطالبنا دولة أجنبية بالتمييز بين مواطنيها، فنعامل المنتمين للحزب الحاكم أو لجماعة بعينها معاملة تفضيلية عن المنتمين لأحزاب أو جماعات أخرى أو للرعايا العاديين.
المجموعة الثالثة من الأسئلة، تتعلق بموضوع شديد الحساسية. لقد دأبت الدول العربية على التدخل في شؤون بعضها البعض، بل لعلها سمة أصيلة في النظام الإقليمي العربي مارستها الدول العربية الأكبر والأصغر على حد سواء في مرحلة أو أخرى من مراحل تطور النظام. إلا أنه في كل المراحل وكل الأحوال لم يكن مسموحا أو مستساغا حتى في حالات الصداقة أو التحالف، أن تطلب سوريا أو العراق مثلا تخصيص علاقة متميزة لخلايا حزب البعث الناشطة في دولة عربية أخرى. الشيء نفسه كان محل مراعاة عندما بدأت جماعات دعوية معينة تنشط سياسيا في مصر وبعضها ارتكب أخطاء يعاقب عليها القانون، فلم تتدخل الدولة العربية الداعمة معنويا أو ماديا، ليحصل أفراد هذه الجماعات على معاملة متميزة، أو لعلها تدخلت سراً ولم نعلم.
الجديد في هذا النوع من التدخل في شؤون الدول الأخرى، هو أن تقوم دولة تدعم جماعة دينية تعمل في دولة ثانية بالطلب إليها أن تكلف أنصارها أو فرعها في دولة ثالثة بأداء المهام نفسها وقد يكون من بينها تنظيم خلايا سرية او تهديد الاستقرار. هكذا لا تظهر الدولة المتدخلة في الصورة ويحل محلها وكيل من دولة أخرى.
يتعلق أغلب ما جاء في السطور أعلاه بالتوتر المتوقع أن يتفاقم في العلاقات بين الدول العربية إن استمرت جماعة الإخوان المسلمين في تصعيد جهودها لتحقيق أهدافها الخاصة على حساب أولويات الدولة المصرية ومصالحها الحيوية العاجلة، وعلى حساب التوازن القائم حاليا في النظام الإقليمي العربي. إذا شاءت الجماعة وغيرها من أفرع التيار الديني الاستمرار في العمل السياسي فعليها أن تطلب من جماهيرها فترة سماح تتدرب خلالها على «عمل الدولة» من مواقع بعيدة بعض الشيء عن بؤر صنع القرارات الحيوية والمصيرية كالدفاع والسياسة الخارجية والاقتصاد. عندئذ ستكتشف بنفسها أن البيت الأبيض مثلا لا يمالئ الحزب الديموقراطي على حساب التزامات أميركا الخارجية، وستكتشف أن 10 «داوننج ستريت» لا يعطي أولوية لحزب المحافظين على المملكة المتحدة.

صحيفة الشروق المصرية

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى