«الضبطية» للمواطنين .. والجيش «لن يكون شرطياً» مصـر: الأمــن للميليشـيات؟! (وائل عبد الفتاح)
وائل عبد الفتاح
ـ1ـ
«الكارو»…
العربات التي تجرّها الحمير والبغال تخترق شوارع وسط القاهرة تحمل الموظفين والطلاب. ليست عنصراً في مشهد من فيلم عن الاربعينيات، وإنما «ردة» إلى ما قبل حضارة البخار واحتراق الوقود، تماثل «ردة» النقاشات السياسية في بعض الاحيان الى ما قبل ميلاد الدولة الحديثة .
إضراب «السرفيس» اضفى على المشهد القاتم كوميدياء سوداء، ومنح مشاعر الرعب والخوف تجسيداً ساخراً، بعدما قضت القاهرة سبتاً أسود تروي فيه حكاية الصبي ابن التاسعة الذي دفن جزء من مخه في ميدان التحرير، لكن رفاق الميدان عندما بحثوا عنه في المستشفيات والمشرحة لم يجدوه، وكأنه ذاب في عتمة المدينة حين اغلقت كل اضواء المصابيح، ولم يعد حاضراً الا اصوات المولوتوف وقنابل الغاز وطلقات الخرطوش والرصاص الحي وسير مدرعات الامن في جولات تبحث فيها عن صيد او تحاول حماية وزير الداخلية ليصل الى مكتبه، وطبعاً صرخات وصيحات ولعنات تعقب سقوط شهيد جديد قادم من بني سويف بسنواته السبع عشرة، والرصاصات المستقرة في رقبته تثير الغضب من منطقة اضافية: «تقتلوننا بنفس الطريقة وتكذبون»، كما قال شاب لخص حالته (بين الغضب والاكتئاب) في انها بسبب اعادة انتاج النظام الامني لحسني مبارك، ويضاف إليها القدرة على الكذب المتواصل.
اصبح محيط جسر قصر النيل موقعاً لمناوشات يومية، تحوّل معها العنف إلى امر اعتيادي، وعرض لا يفهمه الجمهور الواسع ولا الخبراء… لكنه مستمر.
عنف من اجل الرد على خروج الشرطة من مكامنها، ومحاولتها ترميم آلتها القمعية الكبيرة. ما حدث في الليلة السوداء تعدى غضب «التراس» الأهلي المرتبك في حكم مجزرة بورسعيد، حيث بالنسبة إليهم لم يكتمل القصاص بعد براءة معظم ضباط الشرطة.
لكن شرارة الغضب التي يمكن ان تخرج من اي قطاع او جماعة يمكنها ان تحرك قوى تقف في خط المواجهة الأول مع قوات الامن، وتبدو مدافعة عن معنى حياتها الذي كسبته بعد الثورة، ومن دون وعي. هذه الجسارة المهووسة بالوقوف في وجه السلطة تحملها مجموعات من اطفال شوارع ومراهقين وشباب لا ينتمون إلى تنظيمات سياسية، لكنهم ينتمون إلى «الثورة» بوعي يبدو سائلاً ضد السلطة، وذلك بمعان مجردة ومواجهات تشبه ألعاب الـ«بلاي ستيشن» حيث لا تراجع ولا استسلام الا بعد قتل الوحش.
ـ2ـ
هل تريدون الداخلية ام لا؟
هكذا تصور وزير الداخلية اللواء محمد ابراهيم انه سيحسم الهجوم على اداء الشرطة بإرجاع الامر للشعب لكي يرى هل يريد ان تعمل الداخلية ام تنسحب من المشهد؟ تصور ينتمي إلى عقل «الكارو»، ويبدو ان هذا رد فعل على الشعور بالأزمة او الكارثة عند مسؤولين ما زال تفكيرهم ينتمي إلى انواع منقرضة، كما يظهر في قرار النائب العام بمنح المواطنين حق الضبطية القضائية للقبض على اي مشتبه في ارتكابه جرائم وتسليمه للشرطة، وهي محاولة لسد عجز الشرطة، او مبرر لعمل ميليشيات حزبية، او «عزل» ناشطي الحركات الثورية عن المجتمع باعتبارهم «مثيري شغب» في مواجهة «شعب». وهذا ما يمكن وصفه بهوس مستوحى من تجارب فاشية استدعي فيها المواطنون ليكونوا اداة قمع اضافية، وهو ما سيؤدي إلى «حرب اهلية» في رأي كلاسيكي، او يعيد بناء الدولة القمعية بعد ادماج عناصر من ميليشيات اخوانية، او اسلامية عموماً، تحلم بلعب دور البوليس بعد سنوات القمع.
يسمونها لجاناً (او شرطة) شعبية، ويستوحون فيها تجارب «الباسيج» الايراني عند مهووسي الخوف من اعلان دولة الفقيه بنسخة مصرية. لكن هذه الرغبات ليست حلا او خطة لعبور ازمة الامن في مصر، بل جزء اساسي من الازمة، فالدولة عند هذه الجماعات مفهومها ملتبس، فهم يحلمون بدولة الخلافة، وتوقف تفكيرهم عند القرن الخامس الميلادي، بينما يريدون ركوب الدولة الحديثة كما يركبون اخر طراز من السيارات الفخمة .
انه استعراض قوة من نجوم التنظيمات السلفية، الارهابي السابق منهم (مثل عاصم عبد الماجد)، او الظاهرة الاجتماعية (مثل حازم ابو اسماعيل) بـأنهم سيحمون «الشرعية» او سيوقفون الجيش اذا اراد إنهاء حكم مرسي. كل هذا لا يعدو كونه تخبطا في الوصول الى هدف «السيطرة على مفاصل الدولة»، وعلى رأسها الجناح الامني .
لكنها مصر التي يعبد (او يكاد) سكانها الدولة، المعجزة الكبرى، والهرم الافتراضي الذي يعيشون في حمايته وينامون في نعيم هندسته الاجتماعية.
التحول تدريجي، ولا يتم من خارج «الهرم»، وعلامته الكبرى في اجهزة الامن، حين تتحول «الدولة» بالكامل الى ادارة مصالح مجموعة ضيقة، لا يعرف سوى اصحابها اتجاهات مصلحتها، والمسافة تتلاشى ليحكم جهاز الامن، ويتحول مع الزمن الى جهاز ادارة المصالح، بينما تتم الحماية عبر طبقات او مستويات من اجهزة امنية غير رسمية، ستسمى اعلامياً عصابات، ويطلق على قادتها اسم البلطجية، وهم في الحقيقة جزء من اللعبة، يقومون بما لا يستطيع جهاز الامن القيام به. انهم اللاعب السري، او الجزء البعيد عن الاضواء من جسم الامن الذي يحمي المافيا التي هي الدولة بعد قليل جدا.
الاخوان ارادوا الحكم بنفس الطريقة، وتصوروا انهم قادرون على اقامة تحالف بين مافيا (مبارك او بقاياه) المهزومة، ومافيا تعفنت في حضانات التربية الرشيدة (مافيا تحلقت حول خيرت الشاطر، وخاض بها معاركه الصغيرة، وتصور بانه سيوزع مفاصل الدولة غنيمة لها).
المافيا المهزومة خرجت لتستدعي سلاحها من العصابات السرية، لكنها تواجه ايضا برغبة من خريجي الحضانات الاخوانية في الحكم. كلاهما بائس، لكنهما في استعراضات مشتركة يحاولون فيها اعادة الناس الى احضان الخوف القديم لتتشكل مافيا جديدة، شرطها الاول التخلص من «الشعب» الجديد.
ـ3ـ
لن نلعب دور الشرطة.
هذا ما قاله قائد الجيش الثاني الميداني وهو يتجول في بورسعيد، بعد ساعات من الحكم في مذبحة بورسعيد.
القائد العسكري كان عاطفيا وهو يكاد يهتف: «لم نسمع صوت سيارات الاسعاف منذ تسلمنا المدينة (بعد انسحاب الشرطة عشية صدور الحكم).
القائد ارسل رسالة «نحن جيش مقاتل، ولسنا قوات امن»، وهذا ما يعني ان هناك نزعة في الجيش للوقوف على مسافة من الاحداث والاطراف، في استقلال يمكن المؤسسة الاضخم من ترميم علاقتها بالمجتمع.
وتبدو النبرة المستقلة جزءا من ترتيب المواقع في شركة الحكم، وهي تربك محمد مرسي الذي اعلن التلفزيون الرسمي عن خطاب له ليلة امس الأول، لكن الرئاسة عادت ونفت، فيما يبدو ان هناك ما كان سيرد عليه لكن حركة معاكسة حدثت واجلت الرد او ألغته.
يبقى هنا ان عودة الشرطة هي في الاساس عودة الى طبيعتها المتحولة في سنوات مبارك الاخيرة. فبالرغم من انها جهاز مدني مهمته حماية المجتمع الا ان نظام مبارك نزع الى عسكرتها بعد الانتصار على الجماعات الارهابية (1994). ووقتها كان الحل امام مبارك ان يحول الشرطة إلى «جيش» خاص، يحمي نظامه الذي تحول مع طول سنواته إلى «مافيا».
التحوّلات تمت على فترات كان خلالها الطابع العسكري يتضخم ومعه الميزانية (لتتفوق بعد التسعينيات على ميزانية الجيش)، وطبيعة الملتحقين بجهاز الشرطة، حيث اصبحت هناك مصفاة اجتماعية تتحدد بالقدرة على دفع الرشوة، او بالرغبة في تأكيد مكان في شبكة السلطة الجديدة، او حجز مكان في مصاعد الطبقات العليا.
ضابط الشرطة لم يعد ذلك الشخص المتميز بدنياً والقادر ذهنياً على فكرة الحماية والامن، لكنه الطامح الى تتويج قدراته بهيبة «الباشوية» التي تعني ان ضباط الشرطة طبقة مميزة اجتماعياً وسياسياً وشخصياً، وهذا ما يجعلهم فعلا يشعرون بأنهم «اسياد البلد» بحكم انهم تحولوا مع تغير دور الشرطة موقعهم في المجتمع الى «طبقة» من طبقات المافيا الحاكمة، دورها الحماية من المجتمع، او من طبقاته المتمردة (الطبقة الوسطى) او الغاضبة (الفقراء). وهنا فإنّ الدخول في «الطبقة» يعني الدخول الى وعي كامل يندرج تحته «الضابط الصالح» و«الضابط الفاسد»، «المتوحش» و«الطيب»، وكلهم يتصورون ان حمايتهم للمافيا الحاكمة هي حماية للبلد، وان المواطن المثالي له شكل، وان هيبة الشرطة هي هيبتهم الشخصية، وان الشرطة بيت مغلق على اصحابه.
وهذا هو الوعي الزائف الذي تستطيع به دائرة القيادات ان تتحكم به في العناصر «الطيبة» او «النبيلة»، فيبدو ان الجميع يتحول عندما دخل في مجال «الجهاز»، سواء كان بارتداء البدلة، او بالتورط في الدفاع عن الشرطة كأنها مؤسسة خارج المجتمع أو فوقه بما انها تكفل له الحماية.
الشرطة هنا لا تمنع الجريمة لكنها تدير عالمها، او تتحكم فيه، والضابط لا يتعلم مهاراته المهنية في البحث الجنائي، او علوم مكافحة الجريمة، لكنه يتعلم منذ اللحظة الاولى ان يكون «وحشاً ضارياً لكي يعمل لا بد ان يكسر ارادة باقي الوحوش»، وهذا مفهوم آخر غير الشرطة بمفهومها الحديث، مفهوم ينتمي الي عصور بدائية (اقربها فكرة الفتوة). لكن الضابط هنا أرقى من الفتوة في وعيه بارتباط مصالحه بطبقة اجتماعية كاملة لن يظل يعمل في خدمتها، لكنه شريكها ، واحيانا «سيدها».
وهنا فإن تعبير مثل «اسقاط الداخلية» هو تعبير يستخدم للخداع السياسي والاجتماعي، لأنه يتصور ان الصراع الدائر في الشارع الآن بين الثورة (بمعناها الواسع وحالتها السائلة) والتحالف القائم تحت اتفاق وقفها او حصارها، فالثورة لا تريد اسقاط الداخلية لكنها تريد اسقاط الدولة، التي تجعل «الداخلية» بهذا الوضع السلطوي القبيح، الذي يحولها الى ميليشيا مرتزقة تدافع عن «المافيا الحاكمة»، باعتبارها جزءا منها، او شبكة عضوية لا يصلح لأي مافيا قادمة ان تستمر من دونها.
لا يمكن لمافيا الاخوان المتحفزة للحكم او للسيطرة، ان تعمل بدون شرطة من هذا النوع او دولة من هذا النوع المافيوزي.
وخيال الاخوان ليس لديه الا الاحلال والاحتلال، بمعنى ان كل شخص كان يلعب دوراً في نظام مبارك له الآن شخصية احتياطية، وسيلعب ذات الدور والمهمة، فالوزير الحالي للداخلية هو حبيب العادلي أو من ارتضى ان يلعب دوره، كما ان في كل موقع شخصية تبحث عن لحظة تمكنها من ادوات مفاتيح نظام – مافيا مبارك (احمد عز وصفوت الشريف وزكريا عزمي وفتحي سرور).
المطلوب إذاً اسقاط دولة المافيا التي تجعل الداخلية مجرد ميليشيات، والمافيا من الاساس هي التي امتصت الدولة (بمعناها الحديث) واسقطتها. هذا للعلم والاحاطة حتى لا نستمر في سماع خطابات الترويع اليومية التي تروج كلها لقبول المصريين بمبدأ «الامن مقابل الكرامة».
صحيفة السفير اللبنانية