«لا شيء أكثر من هذا الثلج» وامتلاك اللغة (لينا هويان الحسن)

 

لينا هويان الحسن

جديد إسكندر حبش.. القبض على اللحظة الشعرية

تتشعّب احتمالات تأويل «الثلج» في نصوص اسكندر حبش بكتابه النثري «لا شيء أكثر من هذا الثلج»، الصادر حديثاً عن دار التكوين، دمشق. وكأن الخيار الوحيد المتاح أمام «ثلوجه» أن تنداح من دون أن ترضخ لحسابات الفصول، ولقوانين الطبيعة، إنها قدرات اللغة اللامحدودة التي تمنحنا الحق بنثر ثلوجنا وقت نشاء، حق الشعراء وحدهم، واسكندر كشاعر وناثر، يتقن استثمار هذا الحق، ويعرف أصول الاستيلاء اللغوي على ما قد يستهوينا من مفردات تُكسب «النصوص» فرادتها.
كعزف منفرد على سوناتة «الثلج»، تبدو النصوص التي تتضمن جماليات شعرية ملتقطة بعناية، وبالوقت نفسه متخففة من زخرفات اللغة الشعرية، تماماً، كما يُفترض بالنص الشعري. كلمات تتألق على مهل بين سطور متحررة من الوزن والإيقاع لمصلحة الفكرة الذهنية المتحالفة مع الصورة الشعرية، ليخاطب الحبيب الغائب، البعيد، المجهول (ها أنت تعود الآن إلى الصفحة السابقة. كثيف هو الدرب الموصل إليها. تعود مثل مسافر انتظر كثيراً على الرصيف. تعود من الكتب بعد أن تركت الكلمات فيها. لم تحمل معك سوى لطخة حبر على أصابعك. تعود كفكرة مفككة. تعود من ذلك الزمن الذي اعتقدت أن الأزرق فيه ليس بحاجة إلى نور).
«الشعر جوّاب آفاق»، العبارة الشهيرة التي قالتها يوماً الناقدة الاسبانية «ماريا ثامبرانو»عن الشعر، تنطبق على اسكندر حبش في نصوصه هذه بالذات، يبدو مثل سائح يضع «الكاميرا» بينه وبين شيء مميز يصادفه. ويلتقط الصورة: ( لم أعد بعد. ما زلت في ثقل هذا الزمان. ما زلت بين هذه العبارات التي لم تتوقف يوماً عن الكلام. كأنني الآن في أرض براح. كأنني في هذه اللحظات التي جاءت من بعيد، من هذه البلاد الواقفة ما بين الشجر والأمواج).
تعتمد «شعرية» نصوص «لا شيء أكثر من هذا الثلج»، على براعة اختيار اللحظة المخاتلة. فالشعر بطبعه، مخاتل، متملّص، مراوغ، مناور، بغية إمساك «اللحظة الشعرية».
«الكلمات»، مفردة تتردد مرات عدة، متربصة، ببداية النص أو ممسكة بنهايته: (حتى الكلمات، ببطء تأتي، حين نرافقها إلى آخر القصيدة).
امتلاكنا اللغة، أمر بحد ذاته يبيح لنا اقتحام العوالم التي تغرينا بتهشيم تخومها، واسكندر حبش، يعلم ذلك جيداً: (وكل هذا الألم ليس سوى تنويعات على اللغة التي حفظتها. واللغة قد تكون قصيدة. واللغة قد تكون قاتلاً. لكنك في ذلك كله، لن تستطيع دعوة الأموات كي ينهضوا مجدداً).
بوضوح نلمس العلاقة السرية بين الشعر والنثر النصي، وتحضرنا العبارة النقدية الشهيرة: «النثر شقيق الشعر الخفي». إنه الخفاء المعتم، الغامض، السحيق، الذي يمكن لكل كلمة في اللغة امتلاكه، ويمكن لاسكندر حبش سحب معناها الخفي من العتمة إلى النور: (فراغ كهذه الروح التي تتهدم.. ها هي عتمتي الآن. وأحيا كألم الأشياء التي ننساها).
لا يتردد، حبش، باستملاك مفردات تُعتبر نقيضاً حقيقياً للثلج، كالرمل والصحراء والسراب: (لنقل إنه «مديح السراب»، أي مثل هذه الأشجار التي تُخبرنا، كيف يتقدم المطر، صوب تلك الهضاب، صوب هذه الحياة التي تركناها خلفنا، حين قرأنا الليل في كتاب قديم وجدناه في مستودع مهجور).
إنه دغل الذكريات الشائك الذي يدخله اسكندر حبش أعزل إلا من اللغة. يقبض على مفردة «ثلج» ليزرعها في غالب النصوص الموجودة في الكتاب. كمسافر في غابة مجهولة، يترك علاماته السرية وراءه كغجري يحول الثلج إلى برقيات خاطفة، يمكن لكل من يعثر عليها أن يقرأها على طريقته.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى