أبو خليل القباني وسعد الله ونوس| المسرح العربي الحديث سرابا ويقينا
لو سألني أحدهم عن مسرح عربي لأجبته بما قاله أمبرتو إيكو عن ابن رشد. فهو يرى أن الفيلسوف العربي سبق أن لامس تجربة المسرح مرتين. وأنه حاول استيعابها دون أن يفهمها: “أمر مؤسف.. لقد كان يملك إطارا نظريا جيدا قابلا لتعريف المسرح. أما الحضارة الغربية فقد كانت في القرون الوسطى على النقيض من ذلك: لديها تجربة حقيقية في الأداء المسرحي ولكنها لا تمتلك شبكة نظرية فاعلة تحتويه“.
والحال أن كلامي عن المسرح العربي نصا وأداء استدعته قراءتي لمخطوط: “من دمشق إلى شيكاغو: رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893” بصفتي عضوا في اللجنة المحكمة التي منحت صانعه تيسير خلف جائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات للعام 2017-2018.
هذا المخطوط الذي صدر مؤخرا في كتاب، ليس مثيرا فقد لأنه يفرد مكانا متميزا لأبي خليل القباني كعلم من أعلام مسرح عربي مغيّب، بل لأنه يفجر أسئلة كثيرة تتطلب كتابة تأريخ جديد للمسرح العربي الحديث من جهة، وإعادة موضعة سعدالله ونوس الكاتب المسرحي السوري الذي يستحق المزيد من الفحص والدراسة والتقييم.
ما أعنيه بالأسئلة الكثيرة هو ما يكشفه هذا المخطوط الذي يقوم صانعه بتتبع مسار الرحلة التي قام بها رائد المسرح العربي الشيخ أحمد أبي خليل القباني من دمشق إلى شيكاغو في العام 1893 حيث شارك مع فرقته التي بلغ عدد أفرادها ما ينوف على خمسين فنانا وفنانة في الفعاليات الترفيهية لمعرض شيكاغو، أضخم المعارض العالمية على الإطلاق.
هذا المخطوط لا يكتفي بتصحيح ما قيل عن أن قباني لم يقم بهذه الرحلة، وهو إنكار لا نعرف من أسبابه أكثر من الإشارات غير المقنعة، بل يكشف بالاعتماد على الصحافة العربية والأميركية وعلى الوثائق الرسمية، أسماء أعضاء فرقة القباني والأدوار التي قاموا بها، فضلا عما أثارته هذه الحركة الثقافية من ردود فعل أميركية وعثمانية. وهو بذلك يفند شائعة رسمية غير معللة.
والمثير للجدل وضرورة المراجعة أن القباني لم يكن مؤلف نصوص وأغانٍ فقط بل مخرجا ومعماريا بانيا للمسرح والديكور في الوقت نفسه.
وأنا أرى أن القباني فضلا عن ذلك هو كاتب النص المسرحي، ومطور مفهوم “الفرجة” الشرقي الذي يسمح باشتراك الجمهور في المسرحية، وهو بذلك يحيلنا باستمرار إلى بعض المفاهيم التي طرحها الكاتب والشاعر الألماني برتولت بريخت وإلى مسرحه الملحمي التعليمي. كما يحيلنا إلى تجربة سعدالله ونوس التي يربطها بعض نقاد المسرح بهذا المسرح وما يتصل بذلك من أساليب التأثير كالتغريب defamiliarization effect وإشراك الجمهور بالأداء المسرحي ومخاطبة المتفرجين وإسهامهم في الرقص والغناء.
هذه الأساليب المسرحية أو بعضها على الأقل يحيلنا بدوره على الإطار النظري لمسرح سعدالله ونوس الذي نشر تحت عنوان: “بيانات لمسرح عربي جديد”. هذا الإطار اعتمد على قراءة متأنية لمسرح أبي خليل القباني وإن أغفل الدور الذي لعبه هذا المسرح في بلورة بيانات ونوس والإطار النظري المتصل بها. والحال أن مسرحيات ونوس: “الفيل يا ملك الزمان”، و”سهرة مع أبي خليل القباني” و”الملك هو الملك” على سبيل تعداد القلة لا الحصر، تذكرنا بمفهوم الفرجة الشرقي الذي استعاده القباني وأصله وجعله مسرحيا بقدر ملفت من التمكن والاحتراف. ولكنه مازال غائبا أو ربما مغيبا إلى حد كبير.
ليس غريبا أن هذا المفهوم ينسب إلى “بريخت” الألماني ولا ينسب إلى القباني السوري، وخصوصا فيما يتصل بمسرح سعدالله ونوس الوثيق الصلة، بتجربة القباني، والشديد الصلة (من حيث الترديد والتكرار) بتجربة مسرح بريخت الملحمي التعليمي.
ويبدو أن العلاقة بين المركز والهامش، وخضوع الثاني للأول، ربما تفسر وجود مثل هذا اللبس في النسب، ودراسات أدب ما بعد الاستعمار لا تقدم التفسير المناسب لخطل هذه العلاقة فحسب، بل تؤكد على هجنة الحضارة الإنسانية عموما، كما تفند مفهوم الأصالة الشعبوي من حيث علاقته الوثيقة بالنقائية وليدة العزلة والاعتزال.
في عام 1867 كتب هنري جيمس إلى صديق له، مؤكدا على حضور المزايا الناجمة عن ولادة المرء أميركيا، كتب يقول: “إننا كأميركيين قادرون على التصرف إزاء جميع حضارات الآخرين بحرية. كما أن بوسعنا أن نختار وأن نتمثل وأن نستحوذ على ملكيتها حيثما نجدها”.
هذا هو ما يدعى بـ”الاستحواذ” appropriation أي تملك ما يملكه الآخر، تملك المركز للهامش. ولا شك أن “الاستحواذ” مفهوم يمت بصلة القرابة لمفهوم آخر هو “الاقتباس”. إلا أن الاستحواذ يعني إلغاء الأصل. أما الاقتباس فإنه يقترح التحوير والتعديل دون أن يحدث مثل هذا الإلغاء.
ولكن ما حكم حركة التحوير والتعديل هذه في داخل حضارة محددة..؟ ما حكم العلاقة بين مكونات متماثلة في داخل الهامش العربي؟. ما حكم العلاقة بين الأصل والصورة في داخل المسرح العربي الحديث نفسه؟. وهل ينتمي مسرح ونوس، في بعضه على الأقل، إلى تجربة القباني الفنية، أم أنه مسرح يتشبث بكون معظم نماذجه برختية المنزع بامتياز؟.
في عام 1977 نشر سعدالله ونوس دراسة لافتة بعنوان: “لماذا وقفت الرجعية ضد أبي خليل القباني؟” أعاد فيها التذكير بالمنزع السياسي لمسرح القباني، معلنا بذلك توقفه عن التأثير على الواقع في بلاد الشام، وهو منزع يتصل بموقع الفن المسرحي وملابسات حضوره العسير في الثقافة العربية.
ولكن الإطار الفني والأدائي لمسرح القباني ظل غائبا ومغيبا وراء نزعة شعارية اختزالية التعليل. فهل يظل هذا المسرح شبحا متواريا لا علاقة له بأصل أو بصورة؟..
مجلة الجديد اللندنية