أحمد رامي.. عاشق كتب أغنياته على ضوء النجوم
وُلد الشاعر أحمد رامي في أغسطس/آب من عام 1892 في بيئة تعشق الفن، إذ كان بيت والده في حي الناصرية بالقاهرة، وكان يومئذ ملجأ للموسيقيين والمغنين، وكان والده طبيباً يعشق الترحال، وقبل أن يتم السابعة من العمر انتقلت الأسرة للعيش في جزيرة “طاشوز” بالقرب من مسقط رأس محمد علي، وبعد عامين عادت الأسرة إلى القاهرة، لكن الأب عاوده الحنين للترحال ولم يشأ أن يجوب الآفاق بأسرته، فعهد بابنه أحمد إلى عمته وكانت تقطن بمنطقة “الإمام الشافعي” بالقرب من المقابر.
استوحشت نفس الصبي بعد فراق أبويه، وتذكر جمال الطبيعة في جزيرة “طاشوز” وهو لا يرى إلا شواهد القبور، فازدادت به الوحشة ولزم صمتا أقرب إلى الكآبة، بعد عامين عاد الأب ليضمّ الابن إليه، لكنه لم يلبث أن التحق بالجيش طبيباً وسافر إلى السودان، لكنه هذه المرة عهد بالصغير إلى جده لأمه، وكان مسكنه على مقربة من مسجد السلطان الحنفي، وقد فتنته الإقامة في هذه المنطقة المليئة بالمآذن، إذ حفلت بالتراتيل وتسابيح الفجر الصاعدة إلى السماء في هدوء الليل والكون ساكن.
كان أول كتاب شعر قرأه أحمد رامي هو “مسامرة الحبيب في الغزل والنسيب”، وهو مقتطفات من أشعار الغزل في العصور المختلفة، وقد قرأه رامي في بيت عمه.
•أول قصيدة
وحينما نال الشهادة الابتدائية عام 1907 التحق بالمدرسة الخديوية الثانوية، حيث كان يلقن القصائد الدينية والوطنية ليلقيها في المناسبات المختلفة، وساعده ذلك على تفتق موهبته وبزوغ الشاعر الكامن فيه، فكتب أول قصيدة بعنوان “أيها الطائر المغرد” ونشرها عام 1910 في مجلة كانت تصدر آنئذ بعنوان “الروايات الجديدة”.
وفي عام 1911 حصل على البكالوريا والتحق بمدرسة المعلمين، حيث زامل فيها عدداً من الأدباء الروّاد، ومنهم محمد فريد أبوحديد وأحمد زكي، وعقب التخرّج عكف على أشعاره يجوّدها وينشرها قبل أن يجمعها في ديوان من جزأين، قدم للأول مطران خليل مطران، وللثاني أحمد شوقي.
سافر عام 1922 إلى فرنسا في بعثة دراسية عاد منها بعد عامين ليلتحق بدار الكتب المصرية، وظل بهذا العمل حتى أُحيل إلى التقاعد عام 1945، وقد صنّف رامي فهارس الكتب على أساس الموضوع بدلاً من التصنيف المعتمد أيامها على أساس اسم المؤلف أو اسم الكتاب، وأطلق على هذا الفهرس أيامها “فهرس رامي”، وأهم ما قدّمه رامي من خلال موقعه في دار الكتب هو إخراجه لكتاب “قاموس البلاد المصرية” لمحمد رمزي، ولهذا الكتاب قصة، فقد كان محمد رمزي مفتشاً بالمالية وكان عليه أن يقدر الضرائب فاتخذ من عمله منطلقاً لمعرفة أحوال مدن وقرى مصر، قضى في هذا العمل 25 عاماً يجوب خلالها كل أنحاء مصر، وهو على ظهر حمار وفوق رأسه شمسية، وسجّل معلوماته في 40 كراسة عكف عليها رامي فأخرجها في كتاب من خمسة أجزاء صدر بين عامي 1956 و1957.
•رامي وأم كلثوم
عاد رامي من فرنسا يوم الاثنين 21 يوليو/تموز 1924، وأخبره أحد أصدقائه أن أم كلثوم غنّت له قصيدة هي “الصب تفضحه عيونه”، وكان قد غنّاها من قبل الشيخ أبو العلا محمد ودعاه ليستمع إليها في حديقة الأزبكية مساء الخميس 24 يوليو/تموز 1924، وبتحفيز من صديقه عرفها رامي بنفسه وطلب أن يسمع أغنيته منها فغنّتها، فوقع رامي في حب أم كلثوم بمجرد سماعه للأغنية، وخرج من الحفلة هائماً – كما يؤكد شهود الليلة – وبعد شهرين من تلك الليلة في “البسفور” وكان رامي في الصف الأول فحيّته وغنّت له ثانية: “الصب تفضحه عيونه، وتنم عن وجد شجونه”، ويبدأ في زيارتها وتغنّي له قصائد من دواوينه قبل أن يكتب لها خصيصاً.
ويحكي هو قصة حبه لأم كلثوم في قصيدة “يقظة القلب”:
أيقظت في عواطفي وخيالي ** وبعثت مني ميت الآمال
وأثرت نفسي بعد طول سكونها ** في حين لم يخطر هواك ببالي
حتى حينما كتب للمسرح، أوقف شعره المسرحي على حبها، ففي مسرحية “غرام الشعراء” قال على لسان ابن زيدون:
تعالي نفني نفسينا غراما ** ونخلد بين آلهة الفنون
أرتل فيك أشعاري وأصغي ** إلى ترجيعك العذب الحنون
وحينما تمرض يغنيها:
ياللي جفاك المنام ** عليل أليف السهاد
النوم علي حرام ** وأنت طريح الوساد
•كتابة الأغاني
ويغرق رامي في بحر الحب ويتوقّف تدريجياً عن كتابة الشعر ونشره، فقد أصبح يكتب الأغاني من وحي حبه لأم كلثوم لتغنيها أم كلثوم، وعن ذلك كتب صالح جودت: “لو أن رامي لم يتجه إلى الأغاني، ولم يعرف أم كلثوم ويكلف لها هذا الكلف كله، لكان شاعر هذا الجيل بغير منازع، ولتوالت دواوينه تغمر المكتبة العربية بنفحات تطغى على الكثير من نتاج الخالدين”، لكن دريني خشبة خالفه فرأى أن شعر رامي بعدما أحب أم كلثوم أصبح “أجد ديباجة وأرق نسجاً، وأحفل بالموسيقى الداخلية”.
وترى الأديبة د. نعمات أحمد فؤاد، أن الأدب نفسه أفاد من تحوّل رامي من القصيدة إلى الأغنية، لأن الأغنية الرامية الرقيقة العفة أشاعت الحس الجمالي، وارتفعت بالذوق العام، وترى أن رامي شاعر امتاز بالسلاسة لا بالفحولة، وكان له نظراء كثيرون لكنه في الأغنية مميز متفرد الطابع والأسلوب.
ويرى البعض أن غناء أم كلثوم له أدى إلى شهرته وذيوع صيته، بينما يقول آخرون: ترجم “أوبرا عايدة” لفيردي، وكتب أوبريت “أحلام الشباب” وأوبريت “انتصار الشباب” واللذين تحوّلا إلى فيلمين مثّلهما فريد الأطرش، وترجم 51 مسرحية من أشهرها “النسر الصغير” للشاعر الفرنسي روستان، وكانت آخر مسرحية تمثّلها فاطمة رشدي مع فرقة رمسيس، إذ انفصلت بعدها عن الفرقة، وشارك في 30 فيلماً سواء بكتابة القصة والحوار أو الحوار فقط والأغاني وفي صدارتها فيلم أم كلثوم “وداد” الذي استوحى قصته من ألف ليلة وليلة و”دنانير” و”نشيد الأمل” و”عايدة” و”فاطمة” وغيرها، وهكذا أخذته أم كلثوم إلى السينما، كما أخذته قبل ذلك من الشعر إلى الأغنية، وظل وفياً لها بعد وفاتها إلى أن هاجر إليها في العالم الآخر عام 1981.
ميدل ايست أونلاين