أحمد عزيز الحسين: “فيروز” لمريم جمعة فرج سرديّةُ المُهمَّشِيْن
صدرت مجموعة ( فيروز) للقاصّة الرّاحلة مريم جمعة فرج عن اتّحاد كتاب وأدباء الإمارات في عام 1988، وضمّت ستّ عشرة قصّةً قصيرةً غلب على متنِها اللغويِّ القِصَرُ، والميْلُ إلى التكثيف، والتزمَتْ صاحبتُها عمودَ القصّة الكلاسيكيّة من حيث السّردُ الخطيّ، ووجودُ حبكةٍ تقليديّةٍ، تنهض على لعبة التّشويق، وشدِّ القارئ إلى خاتمة تطهيريّة تستجيب لأفق التّوقُّع لديه.
وما يُلاحَظ على قصص المجموعة أنّها انغرستْ في تربة بيئتها حتّى النّخاع، ولم تكتفِ بملامستها من الخارج، وجسّدتْ همومَ النّاس البسطاء والمُهمَّشين في مرحلة ما بعد اكتشاف النّفط، وغاصتْ إلى أعماقهم، وأفسحتْ لهم في المجالِ لكي يُعبِّروا عن أنفسهم فنيّاً بدلا من أنْ تُخبِر عنهم، كما قدّمتْ شخصيّاتِها من خلال انخراطها في نسيج الفعل السّرديّ، ووضعتْها في حالة الفعل بدلا من أنْ تكشف عن ماهيّتها من خلال الوصف الاستباقيّ، وهكذا أتِيح لهذه الشّخصيّات أنْ تُعبِّر، في الغالب، عمّا تختزنه من مشاعر وأحاسيس ورُؤى تجاه واقعها بدلا من أن تبقى أبواقاً تحرِّكها الكاتبةُ كيفما تشاء قاطعةً علاقتها بالنّسق السّرديّ الذي تتعالق معه.
ويلحظ المتلقّي أنّه يمكن لقصص المجموعة أن تنضوي تحت محاور متعدّدة، ينصرف بعضُها إلى تقصِّي أحوال المُهمّشين في المدينة أوالفريج، ويتناول بعضُها الآخرُ تشظِّي الأسرة الخليجيّة في ظل التّحوُّلات العاصفة التي أصابت البنية التّحتيّة في عقدي السّبعينيّات والثمانينيّات من القرن العشرين، أمّا القسم الثالث فيرصد واقع المرأة الخليجيّة، وآليّاتِ استجابتها للمتغيِّرات التي أصابت الخليج العربيّ كلّه في الفترة نفسها، في حين هجستْ نصوصُ القسمِ الرّابع بثيماتٍ حكائيّة متفرّقة حاولت الكاتبةُ مقاربتها بآليّاتٍ سرديّة متنوّعة.
في قصص المحور الأوّل تقدِّم الكاتبةُ البنيةَ الفسيفسائيَّة للمكان الخليجيّ الشّعبيّ في الثمانينيّات ( الفريج ) من خلال اختراق شخصيّاتِها لفضائه، وتفاعلها معه، ومنهم (بوجمهور) في قصّتها (من الزّوايا المتواضعة).
و(بوجمهور)، في المتن الحكائيّ للقصّة، ليس سوى متسوّلٍ يمثِّل ضميرَ(الفريج) الهاجع، ووعيَه القطيعيّ القهريّ، وحكمته القابعة في الصّدور، والقصّة تجعل المتنَ الحكائيَّ في النّصِّ يُلاحِق تقهقُرَ (الفريج) أمام زحفِ الأبراج الإسمنتيّة، وهيمنةَ القيم الاستهلاكيّة، مُتقصِّيةً التّغيُّراتِ التي طالَتْ بعضَ شخصيّاته المُهمَّشة، وكيف اضطُّرَّتْ إلى اعتناق القيم الوافدة لتستطيع الدّفاعَ عن ذواتها الهشّة في سياق تفاعُلها مع هذه المتغيِّرات، وكيف استجاب الفتى (عواس) للنّزوات الجامِحة التي اجتاحتْ جسده، وقام بضرب أمّه الصّالحة الحنونة، وسطا على راتبها، ودخّن بشراهة، وشفط البترول، وعاشر السّرسريّة، ولم يأنف عن القيام بأيّ عمل يحقِّق له المتعة الحسيّة، في حين أنّ أبناء (بوجمهور) الخمسة أداروا ظهورهم إليه، وامتنعوا عن زيارته مع حاجته الماسّة إليهم في شيخوخته.
كذلك تمحورت قصّة ( القمقم) حول شخصيّة مغتربة عن واقعها تعيش في مدينة كبيرة ملأى بالزُّحام والأًصوات، ولا تعثر على هُويّتها فيها، وتعاني من برودة العلاقات بين النّاس، ومن الافتقار إلى حميميّة التّواصُل. وقد حاولت هذه الشّخصيّةُ تحقيقَ ذاتها من خلال علاقة زواج تنهض على المصلحة، لكنّ الزّواج انتهى إلى الفشل، وهكذا لم يُقيَّض لها استئنافُ حياتِها من جديد، بل توقّفتْ بسبب ما أقدمتْ عليه من اختيارٍ خاطئ أفضى إلى تآكُلِها من الدّاخل، وامّحاءِ شخصيّتها، وتلاشِي كينونتها، وتحلُّلها ” قطرةً قطرةً ” إلى أنْ تلاشتْ (انظر: ص 78).
والمصير نفسه انقاد إليه (بلال) في قصّة (عبّار)؛ الذي يصفه متنُها الحكائيّ بأنّه رجل عجوز قبيح الشّكل يشبه القرد (ص15)، ومع ذلك فقد تزوّج من فتاة صغيرة اسمها (نرجس) سعياً لتحقيق ذاته، وإشباع حاجته الجسديّة، إلّا أنّ الفتاة رفضتْ الاستمرار معه بسبب دمامته، وحين قرّر نيلَها رغم أنفها حاولت الانتحار؛ ثمّ “هربتْ، وتركتْ له البيت”(ص16)؛ وآثرتْ أن تعمل بائعة هوى على أن تبقى معه؛ وهكذا خسرت ذاتها من جديد، ولم يُقيَّض لها الحصولُ على حريّتها، وبقيت في أسفل السُّلم الاجتماعيّ، ولم تستطع الخروج من القاع، أمّا ( بلال) فنكص مُتراجعاً إلى قوقعته، وقبل بالهزيمة، وحين شرع يتأمّل العالم من حوله اكتشف أنّ كلّ شيء حوله قد تغيّر بشكل جذريٍّ، وأنّ التّحوُّلات طالت كلَّ ما كان يتعايش معه، وأنّه أمسى شخصاً نافلا، وأصبح السّبيلُ الوحيدُ لهدْم “الهُوّة القائمة بينه وبين العالم”(ص17) هو أن يتعالى فوقه، وينظَر إليه بازدراء لكي يستطيع تجاوُزَ حالة الوحدة والغربة التي يعيشها.
وكذلك تمحورت قصّة (مسافة ) حول طفلٍ لقيط، تبيعه أمُّه الحقيقيّة بدرهمين خوفاً من أنْ تُرمى بتهمة الزّنا؛ فيصبح منبوذاً من قبل أقرانه، ولكنّ أمّه البديلة تحرِّضه على الصُّمود في وجوههم، وتهدِّده بالقتل إنْ شكاه الأولادُ إليها، فيعيش حالةً من الخوف والرّعب المستمرّ، ويدرك أنّ خير وسيلة للهرب ممّا يواجهه هو أن يعود إلى حيث كان في بطن أمّه.
أمّا في (درويش) فثمّة نقلة باتجاه متن آخر في نوعيّة السّرد وجدنا صدى له في قصص سابقة لكاتب رائد هو عبدالله صقر في مجموعته ( الخشبة)؛ إذ تطرح مريم جمعة فرج، في هذه القصّة، معاناة العمّال في الخليج العربيّ في مرحلة ماقبل الاستقلال، وتُشِير إلى أنّ ثمّة شريحةً خليجيّة استفادت من احتلال الإنجليزله، وتحالفتْ معه ضدّ مصالح شعبها، لكنّ المواطنين البسطاء لم يقفوا على الحياد بل رفضوا الطّأطأة للإنجليز وحلفائهم، وقد اتّخذت الكاتبةُ نموذجاً يمثِّلهم هو (درويش)، الذي نظّم مع غيره من العمال المُهمَّشين مظاهراتٍ وإضرابات ضدّ الإنجليز وحلفائهم “ذوي الكروش الكبيرة، والوجوه المُترهِّلة، والدّشاديش البيضاء”(ص21)، وطالبوا بتحسين أوضاعهم؛ لكنّ الإنجليز وحلفاءهم واجهوهم بالقوّة المفرِطة، وطردوهم من وظائفهم، وهدّدوا من بقي منهم بالسّحل والصَّلب، إلا أنّ درويش لم يستسلم، وظلّ يطالب بحقه، معلناً استمرار معارضته للوجود الإنجليزيّ حتى تحقّق له ما أراد.
أمّا في قصص المحور الثّاني، الذي دار حول تشظّي الأسرة، فنلحظ أنّ الزّوجة في قصّة ( وجوه) تتمرّد على زوجها، وتحصل على الطّلاق، وتتزوّج من رجل آخر، ولكنّ ذلك ينعكس على أبنائها؛ فيُمسِي أحدهم (سرسريّاً )، ويعكف على الخمر، ويُهمِل أداءه لوظيفته، ثمّ لايلبث أنْ يصبح متشرّداً على الأرصفة، ويُبالِغ في شُرب الخمر إلى أنْ يتقيّأ أمام النّاس، ويُنكِر عليه الآخرون ما يقوم به من سلوك، وتتردّد عليه وجوهٌ تذكِّره بمأساته وإخفاقه في الحياة، وكيف أمسى شائِهاً ومرفوضاً، ولا شأن له في المدينة التي يسكنها.
وفي ( بدريّة ) ثمّة متنٌ سرديٌّ مكثَّفٌ ينهض على السّرد المتناوِب، وثمّة امرأة خمسينيّة ذات “جمال شرس” (ص33) تُضطرُّ إلى الزّواج غير مرّة، وتقدِّم جسدَها الفاتنَ لغرباء يلِغُون فيها كلّ يوم، ثمّ يمضون دون أن يكترثوا بمشاعرها، فتضطرُّ إلى الاستسلام لقدرها ومصيرها التّعس، ويُدِير الرّجالُ ظهورَهم إليها لامبالين بأحاسيسها؛ فتذوي قانعةً بوحدتها القاتلة، التي تُمِيت البدنَ، وتُزهِق الرُّوحَ.
وكذلك يتمحور المتنُ الحكائيّ في قصّة ( شعور) حول فتاة اسمها (فاطمة) تستطيع تكوين شخصيّة مستقلّة لنفسها في مجتمعها البطركيّ القهريّ، وتتجاوز خوفها من الرّجال، بعد أن كانوا بالنسبة إليها مجرّدَ غيلانٍ مغتصبين، وتتجاوز خوفها منهم، وتغدو شخصيّةً مهيبة يُحسَب لها ألف حساب.
ومع أنّ الكاتبة عنيت بمقاربة (ثيمة المرأة) في بعض قصصها، إلا أنّها لم تتحدّث عنها من موقع الأنثى المقموعة التي ترى أنّ خلاصها مرهون بالتّحرُّر من الرّجل، فذلك في رأيي نوع من التّزييف أشاعته في حياتنا الفكريّة والثّقافيّة نوال السّعداوي ومثيلاتها من الكاتبات، اللواتي رأيْنَ أنّ الرّجل هو القوّة القامعة للمرأة بدلا من أنْ يريْنَ أنّه قد يكون مسحوقاً أيضاً. وفي ظنِّي أنّ الظُّلم قد يحيق بالمرأة و الرّجل معاً، وأنّ كليهما يخضع لقوّة مهيمنة، ويعاني من الاستلاب، وأنّ تحرُّر المرأة موقوفٌ على تحرُّر البنية الاجتماعيّة من الكوابح التي تعوقها، وتحول بينها وبين تحقيق ذاتها وهُويّتها على أكمل وجهٍ ممكن.
في قصص المحور الرّابع، نجد قصصاً متنوِّعة المتون والمشارب تستقي أهميّتها ممّا تثيره من ثيماتٍ حكائيّة، أو ممّا تتّكئ عليه من آليّات سرديّة في مقاربتها، منها قصّة ( فيروز) التي حملت المجموعةُ اسمَها، وترشح افتتاحيّتُها السّرديّة بوجود مفارقة بين طبيعة الشّخصيّة القصصيّة والسّياق السّرديّ الذي تتناسج معه، فـ (فيروز) يبدو جمرة متأجِّجةً من لهيب متّقد، أمّا الزّمن الذي يتعالق معه فهو”جبل هائل من الثلج”(انظر: ص9). وهو، في بحثه عن ذاته، وشوقه اللاهب إلى حياة متجدِّدة، لايعثر على ما يروي ظمأه للحبّ، ومع ذلك يستمرّ في الجري خلف حلمه، وقد أدرك المحيطون به ما يكتنزه في داخله من توقٍ إلى امرأة تُطفِئ النّار المُستعِرة في صدره، وهمس له شيخُ البلدة الهاشميّ بتؤدة :” نصفُك المفقود في الماء جنيّة تُقِيم مع المردة هناك” اسمها ياسمين ( ص10).
وقد غاص (فيروز) في الماء بحثاً عنها طوال حياته، ولكنّه لم يعثر لها على أثر، وظلّ يلوب في الأزقّة هائماً ومأخوذاً يرافقه”صوتٌ حزين”(ص10) يطارده، ويحثُّه على الاشمئزاز من “النِّساء الخجِلات” أو”القانِعات المستسلِمات”(ص10) اللواتي يلتصقْنَ بالجدران المظلمة، ويخجلْنَ من مقابلة الرِّجال، ولايستجبْنَ لما يختلج في دواخلهنّ من رغباتٍ جامحة؛ ولذلك رأى أهل البلدة فيه خطراً ماحقاً يقضّ مضاجعهم، ويُقلِق سكينتهم، ويطال مفهومهم للمقدَّس الاجتماعيِّ؛ فوصفوه بالمجنون، وطالبوا بإحراقه، واستئصال بذرة الحلم المجنونة القابعة في صدره، خشية أنْ تمتدّ ألسنتُها فتطال (القطيع) الهاجع من حوله، وتعكِّر عليه صفو حياته، لكنّ (فيروز) ظلّ عصيّاً على القولبة القسريّة، والتّنميط الاجتماعيّ القهريّ، وبقي يرمح باتّجاه حياةٍ متجدِّدةٍ، آملا أنْ يجد في ذلك هُويَّته التي يبحث عنها، إلّا أنّ (الثّلج) استمرّ في التّنامي حوله، وظلّ يتعالى إلى أن استطاع طمْرَ معالم الخضرة والنّماء المشرئبّة في داخله؛ وهكذا أُجبِرتْ ألسنةُ النّار المندلعة في صدره على الانكفاء، وانطفأت جذوتُها، واستطاع (القطيعُ) التّغلُّبَ عليه، وإجبارَه على التّراجُع والاعتراف بالهزيمة، وكفّ عن الحلم والغناء، وهتف مخاطباً نفسه في الخاتمة السّرديّة للقصّة، بعد أن تخطّى عتبة الشّباب، وأمسى غير قادر على الجري خلف حلمه :” ماذا دهاك، تجمّد رأسُك حتّى لم تعد لديك قدرةٌ على الحلم، وتجمَّدتْ أطرافُك حتّى لم تعد لديك القدرةُ على الرّكض، وتجمّدْتَ حتّى لم تعدْ قادراً على النُّطق في زمنٍ يتكلّم فيه الحديدُ والثلج” (ص12) .
أمّا في قصَّة (شنق) فيتحوَّل التّاريخُ في المتن الحكائيّ إلى قناع، ويغدو الماضي والحاضر متشابِهين ينوءان تحت ثقل الاستبداد وآليّة القمع، ويحدث نوعٌ من التَّماهي بين الشّخصيّة المحوريّة في القصّة وبين “أبي ذرّ الغفاريّ” الذي رفض الانصياع للظُّلم في القصة، وطالب الجوعى بالتّمرُّد على واقعهم، والثّورة على طُغاتهم، وقال كلمته الشّهيرة ” عجبْتُ لمن لايجد القوتَ في بيته كيف لايخرج على النّاس شاهراً سيفه”. ولا يبدو أنّ الزّمن قد تغيّر في المتن الحكائيّ المسرود؛ ذلك أنّ الوقائع التّاريخيّة المستقاة من (سيرة أبي ذرّ) تبدو متعالقةً فيه مع الوقائع المسرودة في متن القصّة، كما يبدو الحاضرُ تكراراً للماضي، وهكذا فإنَّ ماأصابَ (أبا ذرٍّ) في العصر الأمويِّ لايفتأ يُصِيب نظراءه من الفقراء والجَوْعى في العصر الحديث، كما أنّ السّيف لا يزال يُرفَع في وجوه المُهمَّشين مطالباً إيّاهم بالسُّكوت، والطّأطأة، والانصياع، وقبُول الأمر الواقع كما هو تحت طائلة التّهديد بالموت أوالسّحل .
وكذلك يتعالق المتنُ الحكائيّ، في قصّة (صالح المبارك)، مع الأسطورة والخرافة، ويرشح بهيمنتها على عقول الشّخصيّات التي تبحث عن خلاصها الذّاتيِّ من خلال الاحتكام إلى قوّة مفارقة للكون يُنمذِجها صالح المبارك الذي يؤمن الجميعُ بقدرته على اجتراح المعجزات، ومواجهة الأمراض والأوبئة، والقضاء عليها: “الدّراويش لا يكذبون، قال: إنّه ما بين كذا سنة وكذا يخرج صالح المبارك يرفع الألم عن النّاس”(ص55)، متناسين أنّ الحلّ لا ينبثق إلّا من واقعهم، ومن قدرتهم على فهمه، واستيعابه جماليّاً لامن قوّة مفارقة للكون.
أمّا قصّة (ثقوب) فتصوِّر اندغام شخصيّاتها بالطّبيعة، وكيف أمسى المطرُ والأرضُ رمزَيْن للخصب والتّجدُّد، ثمّ كيف توافق الجميعُ على أنّ حياتهم لا يمكن أن تزدهر أو تنتعش إلّا إذا نزل المطر، واستقبلتْهُ الطّبيعةُ بتوقٍ عارم، فهو رمزُ الانبعاث ووسيلةٌ لتأكيد الذّات، ومن دونه لا حياة للجميع، وليس هناك فارقٌ بين الشّخصيّات في النّظر إلى الطبيعة وعناصرها في المتن الحكائيّ؛ فالجميع يرون أنّها تعني الخير والخصب.
أمّا في قصّة (أشياء صغيرة) فلدينا شخصيّةٌ مهمَّشةٌ تعمل في قطاع البناء، وتلجأ إلى الغناء للتّوازُن مع العالم، وتحتسي القهوة للتّخفيف من آلامها، وتحلم بحياة أفضل، وتعمل من أجل ذلك، ولكنّ الواقع الصّعب الذي تعيشه يغتال أحلامها، ويرميها محطَّمةً تحت الأنقاض (ص95)، وما يُفهَم من المتن الحكائيّ أنّ الشّخصيّة تعيش مغتربةً في بلد آخر، وتعاني من الفقر والتّهميش، وتحاول تحسين حياتها، لكنّها تُخفِقُ في ذلك. ومع أنّ وقائع المتن الحكائيّ ترشح بتهميشها، وإخفاقها، واغتيال أحلامها، إلا أنّ الكاتبة تطلّ أحياناً برأسها من بين السّطور؛ فتكشف عن المستوى الدّلالي للسّرد، و”تضع المعنى عارياً على شفاه كائناتها التخييليّة”(2) بدلا من أن تجعله يتخفّى في ثنايا النّسيج السّرديّ، وفي “الكون التّخييليّ الذي تتحرّك داخله هذه الكائنات”(3)؛ إذ تخاطب الزّوجةُ زوجَها البنّاء قائلةً له:” أحلامُكَ مثل نشارة الخشب كثيرة، ولكنّها تتطاير بسرعة، تحلم كثيراً، ولا تحقّق شيئاً”(ص91)، أمّا الزّوج فيقول لها: ” الدّنيا تغيّرت، وصارت أكثر من أن تحفل بالمساكين”(ص95)، ومن الواضح أنّ المنطوق اللُّغويَّ للشّخصيّة يفتقر في هذين المقبوسين إلى العفويّة، ويرشح بتدخُّل الكاتبة في سياق السّرد والأحداث، وهيمنتها على الملفوظ اللغويِّ لشّخصيّاتها، وتقويلها ما لا تستطيع قوله.
حرصتْ الكاتبة، في مجمل قصصها، على تعمية المكان، وتعويم الزّمان، ولم تترك موتيفاتٍ حكائيّة ترشح باسم المكان الذي تخترقه شخصيّاتها، أوتدور في حيّزه أحداثُها، حرصاً منها على قول ما تريد، ومن خلال الاتّكاء على الآليّات السّرديّة التي رأتها مناسبة لمقاربة متونها الحكائيّة؛ ولذا تصلح قصصها لنمذجة ما واجهه المكانُ الخليجيّ عموماً (المدينة /الفريج) في مرحلة ما بعد الفورة النِّفطيّة، مع حرصها الشّديد على التّكتُّم، وإخفاء مخاتلاتها السّرديّة ورموزها الدّلاليّة في نسيجها السّرديّ، وعدم التّصريح بها على ألسنة كائناتها التّخييليّة إلّا نادراً؛ ولذا نجد أنّ الوصف الخلّاق هو المهيمِن في تقديم هذه الشّخصيّات، من مثل ذكر “الكروش المندلقة، أو الوجوه المترهِّلة، أو الدّشاديش البيضاء”(ص10) التي ترشح بتحدُّر الشّخصيّات من منبت اجتماعيّ معيّن، أو انتسابها إلى فئة اجتماعيّة مهيمِنة، فضلا عن أنّ هذا الوصف أغناها عن الإطناب والحشو، ووفّر لها ميزة التّكثيف والاقتصاد اللُّغويّ، ولم يصادر آليّة التّلقي لدى القارئ إلا نادراً، كما في هذا المقبوس الذي اتكأت فيه الكاتبة على الوصف الاستباقيّ الذي يصادر فعل القراءة، وآليّة التّأويل، ويهيمن على حركة الشّخصيّات، ويقضي على لذّة التّشويق: ” عمُّكَ يعيش لنفسه، عمُّكَ كذابٌ، عمك سارقٌ، عمُّكَ غشّاشٌ، عمُّكَ يستغلُّ الآخرين، عمُّكَ بلاضمير ولا أخلاق” ( ص81).
وقد حرصت الكاتبة على توشية نصوصها بالاستعارات والتّشبيهات التي أفضت إليها تقنيّة الوصف، وفعلُ القصّ، وكانت ضروريّة لتشكيل المبنى الحكائيّ، وصياغة الدّلالة، ولذا تضاءل عددُها في متون النّصوص، من مثل ” تثاءبت الجدران/ الدّار تشهق/ كلّ خصلة من خصلاتها كفلول الخيل عند الجفول إلى ساحة الحلم ” ( انظر: ص 27).
والملحوظ أنّ الكاتبة استقت شخصيّاتها من الواقع الذي عاشته، ولذا رشحت متونها الحكائيّة بالبنية الفسيفسائيّة للمجتمع الخليجيّ، وظهرت شخصيّة الإنسان الآسيويّ في هذه المتون، وهي تعبِّر عن ذاتها بلغة شعبيّة حارّة تعكس مستوى وعيها، من دون أن تصادر الكاتبة لغتها، أو تهيمن على حركتها (انظر: ص16)، كما أنّها استثمرت الرّوائح النّتنة والألبسة القديمة كعناصر سرديّة كشفت من خلالها عن طبيعة الشّخصيّة، ومنبتها الاجتماعيّ، ووظّفتها كعناصر وصفيّة استباقية لإغناء السّرد عن الإطالة، والحشو، والإطناب، وتوفير ميزة التّكثيف، والاقتصاد اللغويّ، وإقامة نوع من المفارقة بين الرّوائح الطّبيعيّة الشّهيّة التي تنبعث من الخبز، وبين رائحة النّتانة المقزّزة التي تفوح من الجسد البشريّ، ومن ذلك قولها: ” تركت وراءها صرير الباب، وامتزجت رائحة الخبز والماء ورائحة جسدها النّتنة” ( ص 74).
وفضلا عن ذلك، وظّفت الكاتبة البذاءة اللّفظيّة في صياغة النّسيج السّرديّ، وكشفت من خلالها عن مستوى وعي الشّخصيّة، ومنبتها الاجتماعيّ، ومستواها القيميّ (انظر:ص 74)، وأحسنت التّخلُّص من المفاتيح اللّفظيّة التي ترشح بارتفاع صوت المؤلِّف وحضوره في سياق السّرد إلا في النّادر؛ هكذا تماهى صوتُ الآخر عندها مع ملفوظ السّارد، واندغم فيه بنجاح (انظر: ص74).
وفي ظنّي أنّ هذه المجموعة تُعدُّ من بين المجموعات الأكثر تميّزاً في مسار القصّة الإماراتيّة القصيرة التي أنتجت في ثمانينيّات القرن الماضي، وهي لهذا تشكِّلُ لبنةً مهمّةً في مدماك هذه القصّة، وقد انضافت بنجاح إلى أنتجه مبدعون آخرون كعبدالله صقر، ومحمد المرّ، وعبدالحميد أحمد، وإبراهيم مبارك، وناصر جبران، وصالح كرامة العامري، في رسم لوحة القصّة القصيرة في الإمارات.
صحيفة رأي اليوم الالكترونية