أدب الربيع العربي.. اندفاع وحماس
أثبت الأدب عبر التاريخ أنه لصيق بالحراك السياسي والاجتماعي، وأنه يحتل في الغالب دورا في التغيير والنقد وكان عبر التجارب واجهة أخرى للأحداث السياسية والاجتماعية التي لم تعكس فقط الروح الفنية للأحداث وإنما ساهم الأدب في صنعها وكان جزءا من خارطتها وتأثر وأثر بها.
في السنوات القليلة الأخيرة شهدت الساحة السياسية العربية أحداثا وثورات وانقلابات تبعتها أيضا متغيرات في المكون الأدبي الذي أنتج بعد هذه الهزات السياسية، وهذه المتغيرات أثبتت التقاطع الكبير بين الإنتاج السياسي والإنتاج الثقافي في حياة الشعوب، فما حدث من متغيرات حلت بالأمة العربية منذ عام 2003 حيث بدأت الهزات السياسية في العراق وتلاها ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي الذي اشتعلت نيرانه بداية في تونس ثم مصر وما تبعها من حركات وإسقاط حكومات ومواجهات مسلحة ومتغيرات سياسية لبعض الحكومات في أغلب الدول العربية، كل هذا جعل الأدب يقف بين فاصلتين وجعل الأديب العربي حاضرا وحائرا أيضا أمام هذا التغيير المفاجيء في الأحداث.
تأثرت الأجناس الأدبية كلها بالمتغير السياسي وإن كانت الرواية حظيت بالتغيير الأكبر لكن الشعر والقصة أيضا استحدثا رؤى ومضمونا وتطلعات جديدة، غير أن الرواية باعتبارها العمل الأضخم والأقدر على احتواء الحدث عبر السرد والحوار والشخوص وعبر المساحة الفنية والشكلية حازت على التأثر الكبير بالأحداث السياسية، وصارت هذه الأحداث المادة الخصبة للروايات للتعبير ورفد الساحة الثقافية بمضامين جديدة وربما كان من المحظور الخوض فيها بالحرية التي تم تناولها فيما بعد الربيع العربي.
في هذه الفاصلة المهمة من عمر السياسة والثقافة حضرت أعمال روائية طرحت أحداث البلاد التي طالها الربيع العربي، تباينت في مستوياتها الفنية إلا أن طرحت نفسها كتجارب جديدة ضمن تجربة سياسية جديدة أيضا، ومن هذه الروايات “ورقات من دفتر الخوف” للتونسي أبي بكر العيادي تحدث فيها عن حياة مثقف تونسي مهاجر يواكب الثورة منذ اندلاعها حتى بدء الاعتصامات لإسقاط مخلفات العهد البائد، ورواية “أجندة سيد الأهل” للمصري أحمد سيد أبو الفتوح التي تناول فيها أحداث 25 يناير وبتفاصيل حقيقية، ورواية “ثورة العرايا” لمحمود أحمد علي، وغيرها الكثير أيضا.
لكن السؤال إذا كانت هذه الأعمال عبرت عن الحدث السياسي بفنية عالية دون أن تتأثر بالمباشرة وسلطة الحدث السياسي على الأسلوبي، وإذا كانت الحماس الكبير الذي كتبت فيه أغلب هذه الروايات قد انحاز للمضمون على حساب الرؤية الفنية.
إن الضبابية والارتباك الذي أحاط بمختلف الثورات السياسية انعكست على الأدب الذي تم إنتاجه فيما بعد، فالفوضى التي خلقتها الأحداث السياسية ألقت بظلالها على الأدب، فالروايات أصبحت مليئة بوصف الخراب والدمار الذي حدث بارتجالية لم تقل ارتجالا عن أغلب التطورات السياسية. فالتجربة السياسية الجديدة لم تعط الخبرة اللازمة للكتاب لإنتاج أدب جديد، فلم تتخمر التجربة الإبداعية بما يخص الحدث السياسي، فصار اغلب الانتاج الادبي محكوما بالحماس والسرعة في مجاراة الحدث على حساب المعمار الفني للرواية، وحتى الشعر فقد غلبته هذه الروح وصار ارتجالات عاطفية سريعة.
فإذا كان الأدب محاكاة للواقع، فإن هذه المحاكاة بما يخص الأدب الذي أنتج بعد الربيع العربي لم يرق حتى الآن لوصفه أدبا خاصا، وهو في أغلبه وصف مباشر ومحاكاة واقعية فيها القليل من البعد الفني والأدبي، إنه أدب الوصف غن جاز التعبير بذلك أكثر من وصفه بظاهرة فنية لها سمات وخصائص تجمع بينها وتؤطرها.
فما حدث في الساحة الثقافية بعد الربيع العربي هو الرغبة الكبيرة لدى الكتاب والشعراء في التعبير عن الحدث، فالكل يريد أن يعبر ويكتب، مثلما كان الكل يريد أن يشترك في الاعتصامات والاضرابات برغبة حقيقية في المشاركة والتفاعل والتأثير، لكن الأمر مختلف بالنسبة للادب، فقد مدت الثورات الكتاب بالمادة الغنية لكنها قصرت عن رفدهم بالرؤية الفنية أو عجز الكتاب أنفسهم بما يحملونه من روح الحماس بتأسيس أدب خاص بعيدا عن فعل الصدمة والتغيير المفاجيء.
ربما ينظر لهذا الادب حتى الآن كضحية من ضحايا الفوضى والارتباك وقصر التجربة السياسية، فأدب هذه الثورات سيتخذ قيمته ووجوده الحقيقي فيما بعد، حين تنضج فعلا هذه التجربة بعيدا عن الاندفاع في المشاركة السريعة بحدث لم يكن في الحسبان.
ميدل ايست أونلاين