‘أرفيوس المنسي’ سيرة روائية للموسيقار ناجي القدسي
لا يمكن لنا ونحن نقرأ رواية “أورفيوس المنسي” للكاتب اليمني علوان مهدي الجيلاني، أن نتحاشى التفكير في روايات البديل الفني، تلك الروايات الروائي العربي لما يزيد على قرن مضى، روايات البديل الفني، هي روايات تجمع بين فني السيرة والخيال الروائي، تبتعد عن حرفية السيرة من خلال إغناء السرد بالحبكات، والانثيالات العاطفية، والاستقراء النفسي، والتصعيد بمستوياته المختلفة، وهي في نفس الوقت ليست رواية خيالية، إذ هي سرد من لحم ودم يعتمد على وقائع حياتيه، لكنه يبنيها بطريقة تخالف قوانين السرد السيري الوقائعي، إذ هو ببساطة يقوم على اقتناص ما لايمكن تصديق وقائعيته، رغم كونه وقائعي تماماً.
البراعة تكمن في ممازجة السرد السيري بالتخييل العالي الذي يضيف الكثير من التفاصيل الصغيرة، ويقدم تحليلات نفسية، وقراءات ثقافية لخلفيات الأحداث وموجهاتها، كما يضيف سمات للشخصيات وللأحداث بمقدار ما يظلل بعض الجوانب تاركاً لإيحاءاتها أن تولد التساؤلات، وتشع الكثير من التشويق.
التركيز على مفاصل الشخصية التي تشكل عقداً سردية متجاورة، يتآزر في السرد مع تقنيات تتمثل في الاشارة إلى حدث ما، أو إيجازه، بطريقة تثير الشوق لمعرفة تفاصيله التي تؤجل لتأتي فيما بعد مجزأة هنا وهناك. بالمثل يتم تقديم حدث مميز على مراحل بشكل بجعله حدثاً سردياً موازياً، يلازم شخصية السرد المحورية. لا يقتصر هذا على الوقائع والأحداث، وإنما على سمات في الشخصية وطبائعها، تظل تنمو وتتعالق بالوقائع والأحداث تؤثر فيها وتتأثر بها.
لكن أكثر ما يميز رواية “أروفيوس المنسي”، هو حرارة السرد، شغف الكتابة نفسه، وهو شغف يصرح به الكاتب الحاضر بنفسه، باسمه وصفاته بوصفه شريكاً في السرد، لكنه يرى أن عبقرية بطل الرواية كمبدع عبقري، وكمظلوم حقيقي هي التي جعلت السرد يتخذ هذه السمة.
يقدم السرد سيرة روائية للموسيقار السوداني اليمني ناجي القدسي (1944-2014م)، وهو واحد من عباقرة الموسيقى السودانية، استطاع خلال أربعة عشر عاماً تبدأ من 1961 وتنتهي بنهاية 1974، أن يصعد صعوداً فنياً خارقاً من خلال عشرات الألحان التي تتميز بالحداثة والتفوق الفني، مقدما مجموعة من الأيقونات، (جسمي انتحل)، (أحلى منك)، (عشت الشقا)، (سلم بي عيونك)، (النظارة)، (ضاع مع الايام) (سلوى)، (العنبة)، (التينة)، (ليلة الميلاد)، (قايك خلاص)، (البنفسج)، (تراتيل) (حمام الوادي) (انتو في وادي)، (الحقيقة)، (قم للمعلم)، (شعبي الحامي أرض النيل)، (خلاص مفارق كسلا)، (كيفن كيفن)، (مهما هم تأخروا)، (الشيخ فرح)، (ياقوت العرش)، (المحكمة)، (معزوفة لدرويش متجول)،(بنيت فردوسي)، إلى جانب عديد المقطوعات الموسيقية (آمال)، (ليالي سنار) (ليالي جدة)، (ليالي بحري)، (ليالي العدين) وغيرها من الألحان التي يتوجها لحنه الشهير (الساقية لسا مدوره)، وهو لحن يمثل ذروة عبقريته الفنية، كما يعتبره معظم المشتغلين بالفن في السودان ذروة الابدعات اللحنية السودانية حتى الآن. لكن نجاحات الموسيقار العظيم تتوقف عند بلوغه سن الثلاثين من عمره، ليبدأ سلسلة من الاخفاقات العاطفية والحياتية والفنية،وهي إخفاقات جاءت بعد استهداف نظام نميري له، على خلفية هتاف المتظاهرين ضد نميري بأحد مقاطع أغنية (الساقية)، وتبدأ معاناته الطويلة مع العزلة والتهميش والفشل.
يتتبع السرد حياة الموسيقار منذ ولادته، وشغفه طفلا بالموسيقى، ومعاناته جراء ممانعة أسرته لطموحاته الفنية، ثم يرصد صعوده الصاروخي في عالم الموسيقى، قبل أن يدخل السجن، ويفقد حبيته ويتخلى عنه أصدقاؤه، ويتعرض لحالة نفسية صعبة، يتبعها محاولته تخطيها بالخروج من السودان متنقلاً بين السعودية والعراق ثم السودان مرة أخرى، قبل أن يستقر في اليمن ليجد نفسه مطحوناً بمعاناة لا تعد معاناته في السودان شيئاً إذا ما قورنت بها.
يتخلل ذلك كله محاولاته الحثيثة المتعاقبة للعودة إلى الأضواء، وهي محاولات تنتهي دائماً بالفشل جراء التنميط السلبي الذي تعرض له، تنميط كانت شخصيته وطباعه تسهم كثيراً في ترسيخه.
مشهد الموسيقار ناجي القدسي، يستدعي تقديم المشاهد الثقافية والفنية والسياسية والاجتماعية في السودان بشكل واسع وعميق، وبدرجة ثانية اليمن ثم العراق والسعودية، مترافقا في الوقت نفسه مع سمات الموسيقار ناجي القدسي بوصفه عبقرية تتسم بخصوصية وفرادة في سلوكياتها المختلفة وثقافتها الواسعه. ومعاناتها المروعة، في ظلام الاقصاء والتجاهل.
الرواية تحتشد بعشرات الأسماء التي تماست فنياً أو حياتياً مع الموسيقار ناجي القدسي، مغنون وملحنون وشعراء وعازفون وممثلون وصحفيون وسياسيون ومثقفون، من السودان: إبراهيم الكاشف، أحمد المصطفى، إبراهيم عوض، محمد وردي، سيد خليفة، حمد الريح، التاج مكي، عبدالكريم الكابلي، صلاح ابن البادية، مصطفى سيد احمد، محمد الأمين، أبوعركي البخيت،عباس بشير، ود الحاوي، البرعي دفع الله، محمدية، أنس العاقب، يوسف الموصلي، زيدان إبراهيم، الجيلاني الواثق، عبده الصغير، السر نايل، الجيلي البادرابي، البلابل، الحوت، محمد الفيتوري، عمر الطيب الدوش، اسحاق الحلنقي، عبدالرحمن مكاوي، محمود محمد مدني، حسين حمزة، محمد أحمد سوركتي، منصور منصفون، حسن ساتي، أبو آمنة حامد، اسماعيل حسن، سيد أحمد الحردلو، مرتضى صباحي، عزالدين هلالي، سعد الدين إبراهيم، عباس الهاشمي، كمال جزولي، يحيى العوضي، هاشم صديق، اسماعيل خورشيد،إبراهيم عبدالقيوم، طلحة الشفيق، التيجاني سعيد، أزهري شرشاب، طارق المكاشفي، صديق محيسي، محجوب شريف، يحيى فضل الله. عكاشة أحمد، عبدالرحمن الزبيرباشا، مزمل حامد. صلاح شعيب، أحمد شادول، عثمان تراث، عادل أمين، عادل السعيد، هذا على سبيل المثال لا الحصر.
ومن اليمن: عبدالعزيز المقالح، حسن اللوزي، علي بن علي صبرة، محمد الشرفي، مطهر تقي، رياض شمسان، عبدالله الكباري، علي الأسدي، عبدالرحمن الغابري، عبداللطيف يعقوب، صبري الحيقي، أحمد الخالدي. يحيى الشلال، عبدالباسط الحارثي، أحمد بن أحمد قاسم، محمد مرشد ناجي، أيوب طارش، علي السمة، محمد حمود الحارثي، فريد الظاهري، خالد البحري عدنان أبوشادي. صالح جميل، نزار غانم، فاطمة العشبي، نبيلة الزبير، جلال الأحمدي، عبدالرحمن غيلان، عبد الرحمن مراد، هشام محمد، عيسى العزب، ورد النهدي، عبدالرقيب الوصابي، زين العابدين الضبيبي. محمد الجيزاني. عبدالرحمن الشيباني وأسماء أخرى.
ومن السعودية والعراق: محمد عبده، سامي إحسان، عمركدرس، فوزي محسون، محمد حسن فقي، طارق عبدالحكيم، محمود خان، سعدون جابر، صلاح عبدالغفور، عباس جميل، حسين نعمة.
السرد يضج بعوالم الموسيقى، موسيقى عالمية، شوبان، بيتهوفن، موتسارت، فيردي، هايدي، فاجنر، رافيل، وموسيقى عربية، سيد درويش، محمدعبدالوهاب، محمد القصبجي، رياض السنباطي، فريد الأطرش، منير مراد، بليغ حمدي، عبدالمنعم عرفة، محمد فوزي، أم كلثوم، عبدالحليم حافظ، شادية، نجاة الصغيرة. الرحابنة وفيروز.
سرد الأمكنة في رواية “أورفيوس المنسي” يعد واحداً من هواجسها الكبرى، بلدان ومدن داخل البلدان وأمكنة داخل المدن، ومثله سرد الأزمنة فداخل كل زمن أزمنة صغيرة. لكن السرد نفسه بجميع مستوياته يمثل شاكلة بحد ذاتها، التناوب بين التسارع والهدأة، الاهتياجات العاطفية والتأمل الفلسفي، الوصف المحايد، تعديد وجهات النظر، المنولوج الداخلي المتسم بالتحدي حيناً وبالألم الممض أحياناً كثيرة، السخاء المعجمي والقدرة على تطويع العبارة، محاولة موازاة العبقرية الموسيقية لناجي القدسي، حساسية موسيقاه، وفلسفتها العالية وابتكاراتها بلغة وصفية تتميز بسعة الخيال والتطويع المعجمي.وبالانفتاح على أساليب الكتابة المختلفة.
ولعل ما سيحسب لهذا العمل السردي المختلف، هو أنه شهاده حارة وفاضحة لأسلوب شغل المؤسسات الثقافية والفنية في البلدان العربية من خلال نموذجي السودان واليمن. الكتاب يعري جوانب كثيرة في حياتنا، ويعري جوانب كثيرة في سلوكنا الانساني، يكشف تبلد الحس تجاه معاناة الآخرين، ويكشف جوانب الأنانية واللامبالاة، كما يكشف غباء بعض المثقفين، وانتهازية بعض المنتمين للتيارات الدينية، ويصور بعيني الموسيقار ناجي القدسي مشاهد مظلمة، لما تحفل به مجريات حياتنا من ظلم وتهور وطغيان، يمارسه الحاكم، وتمارسه المؤسسات، ويمارسه الأفراد كل بطريقته.
وعليك في كل هذا أن تفتش عن السياق الاجتماعي والنسق الثقافي. وساعتها لن يختلف سلوك نميري الذي القى بناجي القدسي في سجن كوبر، عن سلوك المرأة السعودية التي لعنت ناجي القدسي، ولعنت الطائرة التي جاءت به، عن سلوك البعثي الذي أخبر ناجي القدسي أنه ما لم يصنع لحنا يمجد به الزعيم فلا امتيازات ولا رعاية له في العراق، عما حدث له في اليمن، الوزير الذي كسره، رئيس الجامعة الذي خذله، أو وكيل الوزارة الذي واضب عشر سنوات على اضطهاده وإحباط أعماله، أوالجماعة التي كفرته وسعت لاعدامه.
إنها ورطة العبقرية حين يتفارد وجودها في واقع بائس، ورطة غياب المؤسسة، واختلال البيئات الحاضنة. وضياع المبدعين في بلدان يقع الابداع في آخر اهتماماتها.