أركيولوجيا بابل الأصول الاستعماريّة للعلوم الأوروبيّة
حوّلت ممارسات الاستعمار الأوروبي المباشر التقاليد والعادات المرتبطة بسكان المستعمرات إلى أشكال نصيّة ولغويّة ساهمت في ترسيخ سيادة المُستعمر، هذه الجهود النصيّة لتقنين النشاط اللفظيّ المحليّ أدت إلى احتكار الشكل الأوروبي للمعرفة، الذي نجد تأثيره لاحقاً في الدراسات التي تهتم بأصل اللغة وتطورها وعلاقتها بالتاريخ (الفيلولوجيا)، والتي اعتمدت على اللحظة الاستعماريّة، لتحويل العالم إلى نص أوروبيّ، لتغدو قراءة تاريخ وآداب تلك المناطق نابعة من هذه النزعة المركزيّة.
صدر مؤخراً لسيراج أحمد، الباحث في الأدب المقارن، كِتاب “أركيولوجيا بابل- الأسس الكولونيالية للإنسانيات”، عن منشورات جامعة ستانفورد في كاليفورنيا، وفيه يناقش أحمد النهضة الفيلولوجية التي شهدها القرن الثامن عشر، وعلاقتها بالاستعمار البريطاني للهند، وتأسيس شركة الهند الشرقيّة في القرن السابع عشر؛ إذ يرى أن الاستعمار الإنكليزي أعاد إنتاج اللغة والآداب والممارسات اللغويّة المحليّة، ليضمن استمراره، فالتقنيات المستخدمة في التحليل والترجمة في تلك الفترة كانت وليدة رغبات سياسية وثقافيّة، لخلق جوهر أوروبي مركزيّ، وتطوير أشكال الحكم في المستعمرات.
يفترض أحمد أن مفهوم اللغة الهندو- أوروبيّة، الذي ظهر في القرن السادس عشر، ليس إلا وليد جهود استعماريّة، لكسر مركزية اللغات المقدسة الشرقية، كالعبرية والعربيّة، إذ افترض الأوروبيّ أن هناك أصلاً واحداً لكل اللغات، ومن بعدها اختلفت الألسن، ما يعني غياب أصول متعددة تتداخل وتختلف، وتختزن التطور الاجتماعي والثقافي لمجموعة من الناس، بل جوهراً واحداً يتبع ذات القواعد في كل مكان.
ويشير أيضاً إلى أن النشاط الفيلولوجي الاستعماري لترجمة القوانين والأعراف إلى جانب الأدب والنصوص الدينية، ليس إلّا تمكيناً لنزعة المركزية الأوروبيّة، فالتدوين الذي مارسته مؤسسات الاستعمار ساهم في القضاء على التقاليد المحلية الشفهيّة، وأفقدها قيمتها الواقعيّة، كما أن الجهود الأوروبيّة لتأصيل الكلمات والبحث في جذورها، وتقارب هذه الجذور، ليس إلا سعياً لإيجاد المعادل الموضوعي لتلك اللغة الأصيلة المتخيّلة.
الاستعمار والقضاء المحليّ
نقرأ أيضاً كيف قامت شركة الهند الشرقيّة ومترجموها ومستشرقوها بتقويض سلطة القضاة المحليين، والحد من تأويلاتهم اللغويّة التي تعكس خصوصية كل مجتمع فرعيّ، إذ عمدت إلى ترجمة الممارسات اللغويّة الدينيّة، وإنتاج خطاب قانوني مكتوب، لتصبح السلطة النصية الكولونيالية هي المرجعية في الحكم، ما خلق نوعاً من التاريخ النصي-الأجنبيّ، البعيد عن طبيعة العلاقات المحليّة وقوانينها، سواء كانت مرجعيّتها إسلاميّة أو هندوسيّة.
رسخت المؤسسات الاستعماريّة اللغة التي أَنتجتْها، وجعلتها الوحيدة المعترف بها، وحولت التقاليد المحليّة والنصوص المرتطبة بها إلى مرجعيات لا تاريخيّة، إذ جردت اللغة المستخدمة محلياً من وظيفتها الأدائيّة التابعة لسلطة القاضي، وجعلت لغة السلطة المُترجمة الوحيدة التي تمتلك تأثيراً واقعياً، ما أدى إلى اعتبار حُكم القضاة المحليين فاسداً ولا تاريخياً.
اللغة كمساحة للسيادة
تقوم الفيلولوجيا المعاصرة حسب الكتاب على ثلاثة أسس، هي خلقُ قواعدٍ للمقارنة، وتصنيف اللغات إلى عائلات، وإعادة بناء لغات تاريخيّة أصليّة. هذه الأسس نابعة من التاريخ الكولونياليّ، والسعي لترسيخ النموذج الأوروبي، حتى في الدراسات المعاصرة، إذ يناقش أحمدُ شِعرَ حافظ الشيرازي من وجهتي نظر، الأولى هي تحوله في ظل الاستعمار إلى نص “أدبيّ أوروبيّ”، ولم يَعُد نصا يختزن العادات والتقاليد وأشكال الحياة المحليّة، والثانية اعتباره مرجعاً لتكوين القوانين الاستعماريّة، وأن ما يحويه حقيقة تاريخيّة.
ويَذكُر أحمد أيضاً أن الصفة “الأدبيّة” السابقة أدخلت نصوص الشيرازي ضمن الأدبيات الرومانسيّة الأوروبيّة، بوصفها وسيلة للخلاص الأوروبيّ، أو للنضال ضد أشكال الاستعمار، كونها تمثّل شغفاً شعرياً بالحريّة، ليتحول النص الشعري من نص يعكس الأشكال الثقافية المحليّة إلى موضوع ذاتيّ فرديّ، وسعياً لخلق عالم جديد عبر الشعر، إذ يرى أن المنطق الغربيّ قلّص التقاليد الشفوية الشرقيّة إلى أشكال أدبيّة تقع خارج التاريخ.
عملية الترجمة والتدوين التي مارستها السلطة الاستعماريّة شملت أيضاً اللغة العربيّة، سواء عبر إعادة إنتاج نصوص الشريعة الإسلاميّة أو المعلقات الشعريّة، لتصبح موضوعات للاستخدام القانونيّ والأنثروبولوجيّ، ما أخرجها من التداول اليوميّ للبشر، وفقدت وظيفتها كوسيلة لخلق التناغم بين الجماعات المشتركة، وتتحول إلى مصدر للهيمنة الاستعماريّة. والأهم أن الترجمة هدمت أشكال العلاقات التقليدية بين الأفراد، ومع السلطة القائمة، ما اضطرهم إلى إنتاج أنفسهم بصورة جديدة، عبر تبني اللغة الاستعماريّة كي يضمنوا وجودهم، فعمليات “التقنين” السابقة قام بها مستشرقون ورجال قانون، رأوا في ترجمة النصوص وسيلة لخلق التجانس بين الجماعات المختلفة، وإنتاج نصوص قانونيّة تشرعن سلطة الاستعمار محلياً.
سيادة الاستثناء
في نهاية الكتاب يناقش أحمد مفاهيم السيادة والاستثناء، وحضور الأخيرة في المستعمرات، فبالرغم من انتهاء أشكال الاستعمار التقليديّ إلا أن العلاقات التي أنتجها ما زالت موجودة، والنصوص التي تتبنى الحقيقة الاستعمارية بقيت متداولة، بل ويعتبرها البعض تاريخاً حقيقياً. ويضيف أن أشكال السيادة المعاصرة ما زالت تمارس استراتيجيات استعماريّة، عبر احتواء التقاليد الاجتماعية والشعبية، وجعلها جزءا من نظامها السيادي والقانوني، ما يساهم في طمس الممارسات اللغوية والنصية التي ينتجها الأفراد ضمن بيئتهم، واضطرارهم لإعادة إنتاج أنفسهم كـ”مواطنين”.
ويشير إلى مفهومي الطوارئ والاستثناء، وحق الدولة في احتكار السيادة وتطبيق نصوصها، وتشكيل موضوعاتها، ونفي نموذج العلاقات المحليّة، فالاستثناء الذي بدأ مع المستعمرات يمتد حتى الآن ضمن قوانين الطوارئ التي تجعل من لغتها الوحيدة الصالحة، وتبنيها يعني استمرار الحياة وتفادي العنف.
مجلة الجديد اللندنية