أسامة أنور عكاشة على عتبة «الباب الأخضر»
يبدو أنّ جعبة الكاتب المصري الراحل أسامة أنور عكاشة (1941 ــ 2010) لا تزال تحوي الكثير، وما فيلمه «الباب الأخضر» (إخراج رؤوف عبد العزيز ـــ يعرض عبر منصّة «Watch it») إلا أحد الأفلام التي كتبها في ثمانينيات القرن الماضي ولم تر النور حتى اللحظة. عكاشة الذي يعتبر واحداً من أهم كتّاب الدراما العرب بفضل مسلسلاته «ليالي الحلمية»، و«زيزينيا»، و«المصراوية»؛ عاد إلى الواجهة من خلال هذا الفيلم (قصة وسيناريو وحوار الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة، وتصوير وإخراج رؤوف عبد العزيز) الذي انطلق المخرج بتصويره بعد حصوله على موافقة أسرة الكاتب الراحل، وها هو يعرض اليوم على منصة WATCH IT المصرية.
تروي الحكاية قصة الفتاة عيشة (سهر الصايغ) الآتية من قريتها وعلى يدها ابنها ذو الأربعين يوماً في رحلة بحث عن والده. تنتظر الشيخ عوض (أحمد فؤاد سليم)، فتجلس على الباب الأخضر في مقام الإمام الحسين في القاهرة. هناك تبدأ المواجهات. منذ اللحظة الأولى، تقابل ضيف العمل بيومي فؤاد الذي يؤدي دور شيخٍ درويش من «المبروكين» الذين تزخر بهم أعمال عكاشة. ينصحها الشيخ بالعودة من حيث أتت معطياً إياها ربع جنيه، لكنها ترفض. سرعان ما يٌخطف ابنها، ما يودي بها إلى مستشفى الأمراض العصبية التي يديرها الدكتور عباس (خالد الصاوي)، فيما يذهب ابنها، الذي لا أوراق رسمية بعد تربطه بها، إلى ملجأ للأيتام.
من هنا يأخذ الفيلم طابعاً مختلفاً. في المستشفى، تقابل الدكتور شفيع (إياد نصّار) المحاصر من قبل عصابة «خاصة» بعض الشيء. نفهم لاحقاً بأنّ هناك نوعاً من العقار يغيّر عقول البشر وطبائعهم وعاداتهم وحتى يدفعهم إلى نسيان من هم. سرعان ما ينتبه الدكتور شفيع لضرورة حماية عيشة مما يحدث، وبالمصادفة يكتشف بأن والد طفلها، هو صحافي معروف كان يتخفى أمام عيشة تحت اسم أحمد أبو اليزيد (محمود عبدالمغني). تتعقّد الأمور ويكون النقاش الأبرز في الفيلم: ما هو الإنسان إن لم يكن مجموعة من الذكريات التي تكوّنه وتجعله ما هو عليه؟. الذكريات هنا تمحى بواسطة هذا العقار، والدكتور شفيع، يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يقف بوجه هذا المخطط الذي يبسّطه له أحمد أبو اليزيد حين يشرح له بأن هذا العقار هو مكسب، يردع الأشرار و«يجعل الناس مطواعين للأنظمة». يجيبه شفيع بأن الاختيار هو قوة الإنسان، وأن هذا هو القمع بعينه.
قبل الغوص في جوانب العمل التقنية، يجب الحديث عن تقنيات أسامة أنور عكاشة. ككاتب متمرّس، يرسم كل ما يريد قوله منذ بداية الأحداث. يرمي خط الرواية أمام قرّائه/ مشاهديه: يضع أبطاله في مواجهتهم، وفوق كل هذا يضع الحبكة بشكل بارز، فلا مجال لعدم رؤيتها. بعد ذلك، يبدأ بصياغة قصة تجري على محورٍ موازٍ. هذه القصة المتوازية سرعان ما تصطدم بالقصة وبالأبطال الأصليين. هنا يستنتج المشاهد بأنه لم ينتبه لتفاصيل كثيرة كانت ظاهرة وتجعل القصتين متصلتين منذ البداية. مثلاً أحمد أبو اليزيد، أحد أعمدة قصة العقار المهلوس الذي ارتبط بعلاقة مع عيشة، هو السبب في مجيئها إلى القاهرة من الأساس. ولولا فقدان الدكتور شفيع ابنه ومروره بتجربة مشابهة لتجربة عيشة، لما تعاطف معها وتبنّى قضيتها.
أدائياً، لا ريب أنَّ النص المكتوب بعناية يسهّل الكثير على أي مؤدٍ يمتلك حرفة، من هنا كان الأمر بسيطاً على أبطال العمل. إياد نصّار يجيد الأداء بسهولة بالغة، حتى استعماله للهجة المصرية التي بدت كأنها لهجته الأم، فضلاً عن إتقانه استخدام صوته بشكلٍ بديهي. نجح نصّار في أن يتقمّص ذلك الطبيب المنهك المعذّب المكسور، المزيج بين البطل اللامنتمي والـ anti-hero. سهر الصايغ استطاعت ـ عبر تجارب كثيرة ــ أن تكون واحدة من نجمات جيلها، لكن يؤخذ عليها أنها غرقت في الأدوار الدرامية الحزينة/ الكئيبة، مع العلم أنها تجيدها باحترافية، لكن يُخشى أن يحاصرها المنتجون والمخرجون في هذا النوع من الأدوار. خالد الصاوي كعادته، فاكهة أي عمل، يضيف إليه الكثير من المهارة والتقنية، ويجبر المشاهد على متابعة مشاهده مهما كانت قصيرة. الأمر نفسه ينطبق على بيومي فؤاد الذي بمجرد وجود اسمه بين تترات الممثلين، يجعل العمل مستحقاً للمتابعة. أيضاً، تستحق سماء إبراهيم مكاناً بين نجوم الدراما المصريين الحاليين، فهي تؤدي بعفوية خالصة. ومن شاهدها في مسلسل «موضوع عائلي» (يعرض على «شاهد»)، يعرف أن هذه النجمة تمتلك الكثير وأن الدراما المصرية فعلاً ولّادة.
إخراجياً بدا أن رؤوف عبد العزيز الذي عرفه الجمهور مصوراً سينمائياً، يريد أن يقدم صورةً جميلة بالإضافة إلى قصة خاصة. من هنا شاهدنا كادرات جميلة وإن حاول الإبقاء على النص الأصلي من دون «روتوش»، وهذا يُحسب له.
«الباب الأخضر» يستحق المشاهدة، صحيح أنه كئيبٌ بعض الشيء، لكن مجرد مشاهدة أعمال أحد آباء الدراما العرب تخرج إلى النور، هو أمرٌ مفرحٌ ومشجعٌ بحد ذاته. يضاف إلى هذا حرفة كبيرة في الأداء والإخراج.