كتاب الموقعنوافذ

النوم يفسد الانتباه

النوم يفسد الانتباه

“أنا أحيك، على مهل، عثراتي. فلم يبق لي غيرها.”

لم أعد أعرف كيف أصف حالتي في هذه المدينة (دمشق) وفي هذه الأيام (الحربية). حاولت أن أمشي وأفكر. أفكر وأتعب دون العثور على شرح. يمكنك القول “نحن في كارثة”. لكنك لا تشفى من السؤال المتناسل من أجوبة.
وللعثور على شيء ما يشبه حالتي… أعدت التفتيش في بعض الفصول في روايتي “إلى الأبد و…يوم” فوجدت شيئاً شبيهاً بما أنا فيه، وآخر تعريف له ، هذه الجملة:
“المدينة ضيقة. القرية ضيقة. البيت ضيق. غرفة النوم ضيقة. السرير ضيق. الحلم ضيق.”
فاقترحت على نفسي نشر هذا القسم من الرواية المكتوبة عام 2008 .
النص

النوم يفسد الانتباه

“كنت أقول مطئناً لسلامي : “أنعم وسادة في الدنيا هي وسادة الضمير” وكنت أنام كطفل شبعان ونظيف في الدقائق الأولى لوضع الرأس على الوسادة، ومرات عديدة نمت في أسوأ شروط النوم، كالنوم في البرية على الحجارة، والوسادة حذاء أو حجر، أو النوم في الحرب والمدافع تلعلع والرصاص يئز، أو في فنادق من الدرجات الدنيا، مليئة بالحشرات، أو في بيوت الغرباء، أو على أسرّة أغادرها صباحاً للمرة الأولى والأخيرة إلى الأبد. كنت أفسر ذلك لنفسي بأن الضمير المرتاح هو القائد العظيم لجهازنا العصبي، وفي حالتي يضاف الجسد المتعب الذي ينهكه يومياً الركض من مكان إلى مكان، والمشي المتواصل في شوارع وأزقة بدواعي تدريب التقدم في السن على ذاكرة المكان القديم، لقد عشنا في هذه المدن زمناً طويلاً، وتراكمت في خلايانا أحداث،وتحولات، وبشر حتى غدونا جزءاً يشبه خلايا المدينة، أو كأننا ننبض في ليلها البعيد على إيقاع واحد… سريع وبطيء وعميق .
و لأن النوم يفسد الانتباه  كان جسدي يتعب من فرط التوتر في النهار…حيث نلتقي في غبار الحياة، يومياً، بكل الناس المتوترين والنزقين وعديمي الابتسامة. لقد تكاثر البشر تقريباً على نحو عشوائي، في حين تناقصت فرص العيش على هوامش الحد الأدنى، على نحو، هو غير عشوائي…لقد صُعّبت الحياة على الجميع، إنهم يركضون في شكل مبعثر وسريع يتخبطون، ويختلطون، ويتصايحون، ويتآمرون، ويتاجرون، ويسرقون، وينصبون، في عملية تبدو، كاريكاتورياً، أشبه بمجموعة من الأشخاص على مسرح، كل فرد فيها يفعل شيئاً للذي يجاوره. أو كطابور غامض مضطرب ينتظر شيئاً من اتجاه واحد: لقد أصبح العيش غماً… أو كما قال أحد الأدباء: ” العيش هو نوع من الأذى العميق”.
ما الذي حدث هذه الأيام لضميري وجسدي؟ ما الذي حدث لوسادتي الناعمة سواء كانت حجراً، أو حذاء، أو ريشاً؟
ها أنذا، لا أنام، منذ أشهر.
أسهر حتى وقت متأخر ثم أذهب إلى السرير ولا أنام،
آوي مبكراً، فلا أنام. أعد للمئات، وأهدهد جسدي وروحي، مسلياً أعضائي بالوعود، فلا أنام.
فجأة لم أعد أشبه نفسي. صرت غريباً عن جزئيات وتفاصيل عاداتي، وفجأة صرت أفقد هذا السلام الجميل الذي يخدّر، على مهل، رأساً ذاهباً إلى عالم الأحلام العميق الشفاف والبعيد.
ها أنذا أحدق في السقف مثل عاشق خائب، وتاجر خاسر. مثل هارب، مثل خائف من غفلة النوم، مثل وحيد تائه، على أبواب مدينة غريبة .
ها أنذا، أخرج من السرير، أتوجه إلى الصالة. الساعة الآن هي الرابعة. أقرر اكتشاف السبب الذي يجعل النوم عصياً، ويجعل الاستيقاظ في ساعات مضطربة، أمراً يومياً.
أنظر إلى ما حولي: كتب صامتة وتلفزيون صامت، كرسي وطاولة وكتب، صور على الحائط، جرائد على مقعد أحمر، قواقع على رف، وشمعة طويلة في شمعدان أزرق، صورة لدمشق في الليل والثلج يغطيها، نظارات قراءة ومقص وأزهار ذابلة في أصيص.
أنظر من النافذة:
قاسيون، وضوء محطة التلفزيون، أضواء صفراء بعيدة، صمت، مئذنة، نقيق ضفادع، بيوت غافية، غسيل على شرفات مجاورة.
أنظر في داخلي.
وأنت شقيّ لأنك مرتاح إلى ضميرك المرتاح.كنت تفكر بنظافة يدك ولسانك وقلبك، كرجل مؤمن تخلص، بعفته، من غبار الحياة، كناسك في جبل، ومتصوف في صومعة، ورسام في برية.
وأنت شقي، لأنك لا تجد عذراً للحياة، وهي في جريانها، ترتكب المزيد من الأخطاء، فتقرر شكل ابتعادك عنها، في نفور من يتقزز من عبثها حين تُعلي خافضاً، وتخفض عالياً، وتوزع صدأ على فراشات، وذهباً على مزبلة. وحين لا يكون في صبرك ما يكفي لتكرار ما حاولت، سابقاً: ان تتدخل، فتصرخ، كما كنت تفعل، في الوجوه القبيحة والعقول الحجر، والقلوب القاسية، قائلاً بلا ملل، كلما واجهتهم:
أنتم دود وخراء وذاهبون إلى الجحيم.
أنت شقي لأنك بلا حب. لم تعد عاشقاً، كما كنت، حين يرف على قلبك جناح صغير، فيزغرد كل ما فيك كأنك غابة تفتحت على صباح لطيف في طقس مشرق. صرت، مثل الكثيرين، تنظر إلى أردافها أو ما بين نهديها، وإلى احتمالات معارك الأسرّة، ناسياً ذلك الملمس الموجع لأصابع يديها الطويلتين.
ها أنت تبتعد،وتبتعد في زمن يقترب سريعاً من نهاياته القصوى. تفكر، لأن الوقت ضيق، بأفضل الوسائل لوضع الرأس على مخدة النهاية، بأقصر طريق إلى العزلة… حاصل الخيبة والمرارة والخذلان.
لأنك كل ذلك…
لأنك تهرّب الحياة العظيمة من ثغرة حدودك الضيقة، يهرب منك النوم، لأنك لم تعد ضخماً وكبيراً وعالياً ولائقاً وفظاً.
عد إلى فكرة أن تشبه نفسك،
عد إلى الوسادة القديمة، الخالية من التطريز المغشوش ،تلك الوسادة الممتلئة بالأحلام، البيضاء،والمليئة بالأمل.
أملأ دفتر ملاحظاتك بقليل من الحليب الساخن...

وعد الى روح المكان…
إلى أعمق ما في روح المكان
ولسوف تنام.!!

14.06.2014

بوابة الشرق الاوسط_الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى