أفكار لزماننا في «كشكول» أمين الريحاني (لطيف زيتوني)

 

لطيف زيتوني

اكتشف الكاتب جان داية خمسين مقالة مجهولة للكاتب النهضوي امين الريحاني منشورة في جريدة «الهدى» النيويوركية بين العامين 1901 و1904 وكان دأب على نشرها تحت عنوان «كشكول الخواطر» وهو في مقتبل شبابه. هذه المقالات نشرها داية حديثاً في كتاب عنوانه «كشكول الخواطر» (دار فجر النهضة) وكتب له مقدمة ضافية تطرق فيها الى قصة هذه المقالات ومتوقفاً عند خصائصها وموقعها في مسار ادب الريحاني. هنا قراءة في هذه المقالات.
< قبل الحديث عن كتاب «كشكول الخواطر»، وهي بذورُ أفكارٍ ستنمو وتنضج مع الزمن، أرغب في إبداء ملاحظتين. الأولى أن امين الريحاني نشر هذه الخواطر في السنوات الأربع الأولى من القرن العشرين. والثانية أنه كان في الخامسة والعشرين حين بدأ بنشرها.
غاية الملاحظة الأولى هي التنبيه الى جدة الأفكار التي حملتها هذه الخواطر في زمانها، أي بالمقارنة بما كان سائداً في الفكر العربي يومذاك. فقراءة النصوص خارج معطيات زمانها قد تحرمها من جدتها، وقد تغير معناها أو تمنحها أبعاداً لم تخطر ببال كاتبها.
أما الملاحظة الثانية فغرضها توجيه النظر الى الثقافة الواسعة التي حصّلها الريحاني في هذه السن المبكرة. فهو يتوقف عند الداروينية فينتقدها، وعند أعمال تولستوي فيبدي ملاحظاته عليها، وعند أفكار فولتير وكتبه فيعلق عليها، ويستشهد بجان جاك روسو، ويتحدث في السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والتغيير. وهو في كل ذلك يجاهر بانحيازه الى الفكر التنويري الذي زرعه فلاسفة القرن الثامن عشر والذي أنبت ثورة فرنسية قلبت كل المفاهيم الموروثة ورسمت أسس الدولة الحديثة والمجتمع العلماني الحر.
ومن يقرأ «كشكول الخواطر» يجد روح التنوير هذه قد صارت روح الريحاني، وستبقى إياها مع مرور السنين. فقد نضج الريحاني مع العمر، وترقى أسلوبه في البلاغة وتنوّع وتلوّن وقوي في التعبير، لكن روحه بقيت واحدة، يستشفها القارئ في النفَس الذي رافق كتاباته، وفي الخلفية الفكرية التي سندتها، من «كشكول الخواطر» الى «قلب لبنان» – الكتاب الجميل الذي لم يكتمل.
هذه الروح التنويرية لم يبتدعها الريحاني، ولا فلاسفة عصر الأنوار في اوروبا، ما دام جان جاك روسو في كتابه «خطاب في اللامساواة» يقدم التحية الى مفكري عصر النهضة كتاسيت وبلوتارك وغروتيوس. ولعل أبلغ تعريف لها هو قول الفيلسوف كانط Kant في كتابه «ما هي الأنوار»: انها انعتاق الفرد من حالة اللانضج، أي من العجز عن الإدراك من دون توجيه شخص آخر. ويحمّل كانط المسؤولية عن هذه الحالة للفرد نفسه لأنه لا يملك الارادة ليحاول الادراك بمفرده ومن دون الاستعانة بأحد.
روح الأنوار
تتمثل روح الأنوار في «كشكول الخواطر» بمجموعة من المبادئ المبثوثة فيها من غير نظام.
المبدأ الأول هو التفكير النقدي: يستشهد الريحاني في الكشكول بمقدمة كتاب «نقد العقل الخالص»، التي يقول الفيلسوف «كانط» فيها إن القرن الثامن عشر هو «القرن الخاص بالنقد الذي ينبغي أن يخضع كل شيء لأحكامه». ثم يبني على هذا القول قولاً آخر، هو أن سلطة العقل ينبغي أن تعلو على سلطة الدين والدولة. وعليه يصبح العقل هو المرجع الصالح الوحيد للنظر في صحة الشرائع أو خطئها، ومن يرفض حكم العقل يدين نفسه بنفسه.
العقل هو الهادي الى الحقيقة، والشك هو طريقها والمفتاح. لذلك ينصح الريحاني المؤمن بأن يجعله ملحقاً لإيمانه. أما من يرى في الشك وسوسة من الشيطان فنصيحة الريحاني له ألا يعادي الشيطان.
المبدأ الثاني هو الإرادية: وهي الاعتقاد بطاقة الارادة على إحداث التغيير في المجتمع والسلطة والأحداث والواقع. لقد نظر الريحاني الى الواقع فوجده ناقصاً، جامداً، فاسداً أحياناً. فوجد الإخاء غائباً. ديموقراطية الأكثرية عوجاء، لأن الأصوات تشرى بالمال. ووجد المجتمعات بعد الثورات ما زالت حيث كانت قبلها. ووجد بضاعة المفكر كاسدة لأن الإنسان يقدّم بطنه على قلبه، وقلبه على عقله. مع ذلك لم يتوقف عن دعوة قرائه الى التطلع صوب المستقبل. فأسس الحياة في نظره هي الصحة والعقل والبشاشة. ومن يملك هذه الجواهر الثلاث لا ينبغي أن يهمه الماضي الذي مضى، بل الحاضر الذي يعيش فيه والمستقبل الذي عليه أن يصنعه.
المبدأ الثالث هو المساواة: وهذه الفكرة التي أطلقها جان جاك روسو وتبنتها الثورة الفرنسية لا تقتصر على المساواة السياسية بل تشمل المساواة الاجتماعية والاقتصادية أيضاً. لهذا يقف التنويريون دائماً ضد الامتيازات. ولذا يرتفع صوت الريحاني ضد الألقاب: «الرجل بأدبه وليس بلقبه». وهو يشبه الشرف الموروث بالمال الموروث، فكلاهما يأتيان من دون عناء ويذهبان الى الفناء. وهو يذهب الى ابعد من ذلك حين يرى أن الشريف غالباً ما يتستر بلقبه لارتكاب القبائح، فيتساءل: لماذا يكون أكثرُ الأشراف غالباً غيرَ شريفين؟
ويبدو ان الريحاني يميز بين اللقب الموروث واللقب المستحق كاللقب العلمي. فالأول كالمال يقسَّم ويورَّث ويوهَب، فالأمير يتزوج فلاحة فتصبح أميرة، بينما ذو العقل لا يمكن ان يورّث عقله أو يهبه. قال: «يستطيع [السلطان] عبدالحميد أن يجعل الدكتور صروف بيكاً، ولكن الدكتور صروف لا يقدر أن يمنح عبدالحميد قسماً من عقله».
ولا تتوقف المساواة عند الريحاني على المساواة في الامتيازات وحقوق المواطنية، بل في الفرص الاقتصادية ايضاً. ها هو في مقالة له بعنوان «رائحة اشتراكية» يسلّط الضوء على مشكلة قديمة متجدّدة، هي الفقر فيبدأ بتقديم نتائجها الاجتماعية: «الفقر هو حليف الجهل». ثم يقدّم ما هو أدهى من أسبابها: الفقر يبعد الصبيان عن المدرسة ويرميهم بين الآلات والبضائع والمركبات. أي أن الفقر يؤدي الى عمالة الأطفال، وعمالة الأطفال تزيد أرباح اصحاب المصانع، وأصحاب المصانع يتولون السلطة والتشريع. إنها الدائرة التي ستبقى تدور ما بقيت السلطة حَكراً على أصحاب المال. ويستعير الريحاني من كتاب «الرجل الضاحك» لفيكتور هيغو صورة غوينبلان Gwynplaine، فيتخيل تولستوي وقد انتخب نائباً في البرلمان وقام يخطب في زملائه داعياً الى سن قوانين تصون حقوق الشعب، أو قام يقرأ فصلاً من روايته «البعث» أمام زملائه المشرّعين ويطالبهم بالعمل بمبادئها. ويسأل الريحاني القارئ عن النتيجة التي يتوقعها. ويجيب: سيعامَل تولستوي كما عومل غوينبلان، اي سيشتمه زملاؤه ويقذفونه بكل كلمة قبيحة.
إلا أن الأخذ بمبدأ المساواة لم يمنع الريحاني من النظر الى المرأة نظرة تظهرها غير مساوية للرجل. أيتحدث عن المرأة في زمانه أم عن المرأة في المطلق؟ لا شك في أن نظرته أقرب الى النظرة العملية التي تلتقط ما هو قائم. فالمرأة في ذلك الزمن كانت محرومة من الفرص التي تسمح لها بتحقيق خبرتها في السياسة وإدارة الشأن العام. فبقيت دون الرجل في ذلك. لهذا كان لا بد للريحاني، كمصلح اجتماعي، من أن يعالج هذا التأخير بتشجيع المرأة على العلم، وأوصاها بالاعتماد على نفسها في كل ما تستطيعه من شؤونها.
التساهل
المبدأ الرابع هو التساهل: والمقصود هو التساهل الديني بالدرجة الأولى. وهذه اللفظة أفضل في رأيي من لفظة التسامح التي تحمل شيئاً من الإدانة الضمنية المسكوت عنها. التسامح يمنع العنف، أما التساهل فيمنع التشدد والتعصب. وللريحاني جملة في الكشكول تصلح شعاراً لهذا المبدأ، وهي «للسماء أبواب عدة». لذا لا حاجة الى التدافع على الأبواب. ولا خوف على أحد من أن يبقى خارجاً، ففي السماء متسع للجميع. والتساهل دليل على المتساهل، فالعاقل لا يتخلى عن الشك، ولا يجزم قبل ان يقابل بين الوجوه المتناقضة، ويتفهم وجود التناقضات.
المبدأ الخامس هو الاصلاح: يقرن الريحاني الاصلاح بالوعي. ويرى أن الثورات لا تغير الواقع طالما بقي الناس منقادين انقياداً أعمى الى زعمائهم. ولا سبيل الى الخروج من هذه الحال إلا بتهذيب الشعب: «قبل أن تقوّضوا أركان الحكومة القديمة هذّبوا الشعب، أوجدوا رجالاً حكماء نزهاء ليتولوا زمام الحكومة الجديدة». ولكن من سيتولى تهذيب الشعب؟ كل أديب في رأي الريحاني يفضّل أن يدعى مصلحاً من أن يلقب بيكاً. ولكنه إن أهمل إصلاح نفسه لا يعود أهلاً لإصلاح وطنه. ويرى الريحاني صورة المصلح في هؤلاء المهاجرين الذين «تفقهوا وأفاقوا لواجباتهم الحقيقية ومسؤوليتهم الخطيرة وحقوقهم المقدسة». المصلح إذاً ينبغي أن يتحلى بخمس صفات هي المعرفة والوعي والوطنية والمسؤولية ثم الصدق الذي يعني تطابق كلام المصلح وأفعاله. وكما يحتاج الاصلاح الى مصلحين، يحتاج أيضاً الى مبادئ صالحة. والمبدأ قبل صاحبه في نظر الريحاني. فالإنسان الصالح قد يَفسد، أما المبدأ القويم فلا.
إن توجُّه الريحاني الى الإصلاح ورسمَه المبادئ الصالحة له دفعاه الى غربلة العقائد والتعاليم. فوجد أن كثيراً من الشرائع التي سُنَّت للناس لا تعبر عن تطلعاته. فأخذ في سن شرائع تلائم قناعاته.
إن تبني الريحاني لمبادئ الأنوار لم يمنعه في هذه السن الصغيرة من الإشارة الى صعوبة تطبيق بعضها، كمبدأ الإخاء الذي ما زال لفظاً في القاموس لم يخرج بعد الى التطبيق. ولم يمنعه من نقد استغلال بعضها الآخر، كالحرية التي يؤدي انفلاتها الى جرائم شنيعة. وهذه الانتقادات هي اليوم، في هذا القرن الجديد، موضع تفكر ومراجعة. فمبدأ الحرية أساسي، لكن اطلاق الحرية من غير ضوابط هو تشريع لأشكال الارهاب الديني والاقتصادي والسياسي والفكري.
بهذه الثقافة وهذا الوعي بدأ الريحاني الكتابة. فكان «كشكوله» مشتت الموضوعات بينما خواطره مركزة واضحة صادرة عن عقل قرأ تجارب الشعوب وأفكار مثقفيها فأحسن تحديد الخيارات التي تصلح لشعبه. إن افكار الكشكول هي أفكار لزماننا، لأنها تحمينا من التطرف والاستبداد والاستغلال، وتشحن ارادتنا على المواجهة، وتحضّنا على الانخراط في سياسة بلادنا والمشاركة في حركة زماننا.
إنها افكار لزماننا الذي يعاني من السلفية الدينية التي تمتهن التفجير والتهجير باسم الصفاء الديني، والسلفية القومية التي تنبش الجذور وتعيد رسم الهوية وتخلق الصراعات باسم الصفاء العرقي. وهاتان السلفيتان تهددان التعايش في مجتمعات العالم كلها.
ان مبادئ عصر الانوار في خطر اليوم، لأن التطرف أعاد البشر الى حالة اللانضج التي وصفها الفيلسوف كانط. ولا سبيل للخروج من هذه الحال إلا باعتماد المبادئ الانسانية الايجابية. وهذا يتطلب ان نعود الى أفكار عصر التنوير كما وعاها أصحابها وكما تمثلها أهل الفكر من بيننا وفي طليعتهم الريحاني. ويتطلب أيضاً أن نعيد صـوغها في ضوء اسئلة الحاضر لتأتي الأجوبة ملائمة للحاضر، وأن نرسم لها الضـوابـط لنمنع استغـلالها في غيـر غايتها. إن تشديد الريحاني في الكشكول، وخصوصاً في كتبه اللاحقة، على الإرادية هو دعـوة الى الخـروج من الانتظار والاستسلام، والى الايمان بالانسان، والى الثقة بقــدرتـه على تغيير مجرى التاريخ.

صحيفة الحياة اللندنية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى