أفلامها وثّقت أهوال الحرب وحملت راية الحرية
اليوم، تقلّد صاحبة «بيروت مدينتي» الوسام الفرنسي للفنون والآداب برتبة فارس، تزامناً مع افتتاح معرضها الفوتوغرافي «دولار واحد في اليوم» في المعهد الفرنسي. عودة إلى مخرجة من جيل الرواد ممن أضفوا هوية خاصة ولغة جديدة للفيلم اللبناني
تنتمي جوسلين صعب (بيروت ـــ 1948) الى جيل أسهم في بناء خصوصية الصورة السينمائية في لبنان. لكنها أيضاً، مختلفة في اتجاهاتها عن جيلها. مشاغبة، منذ حملت الكاميرا وتوجّهت إلى ميدان الحرب، عبرت بثيماتها حدود الوطن، وكذلك الخطوط الحمر في بعض أعمالها.
أتت من عالم الصحافة المكتوبة والمرئية. يقول الناقد ابراهيم العريس عن قلمها في كتابه «الصورة الملتبسة/ السينما في لبنان: مبدعوها وأفلامها» إنّ استفزازية جوسلين وحسّها المرهف إزاء ما تجابهه وما تشاهده، أعطياها نوعاً من نظرة ذاتية لم تكن مستحبة في عالم الصحافة آنذاك.
بين عامي 1968 و1973، أنجزت العديد من التحقيقات المصوّرة والأفلام الوثائقية عرضتها محطات فرنسية وأوروبية، بالإضافة إلى عملها في «تلفزيون لبنان».
قريبة من القضية الفلسطينية والأفكار السياسية، تخطت اهتماماتها لبنان إلى المنطقة. الأعوام التي عملت فيها صحافية في لبنان، كانت قد مهّدت لاندلاع الحرب، وكانت جوسلين من الأوائل الذين باشروا بتوثيق أحداثها وانعكاساتها.
قبل الحرب، رصدت عدستها معسكرات تدريب الأطفال الفلسطينيين عام 1974، وحرب أكتوبر 73، وأحداث أيلول الأسود 1970 في الأردن وغيرها من المفاصل التاريخية. أمر أعطاها أكثر من فرصة لاختبار الكاميرا في الميدان، وهيّأها للتعاطي مع الأحداث التي أتت لاحقاً.
في عام 1975، صوّرت شريطها التسجيلي الأول الطويل «لبنان في الدوامة» الذي نال جائزة النقاد العرب. تلاه «أطفال الحرب» في لبنان (1976) الذي نال أيضاً جائزة التحكيم بعد عرضه في مهرجان في ألمانيا. انتقلت لتصوّر جبهة أخرى. «القاهرة مدينة الموتى» في مصر و«الصحارى ليست للبيع» عن صراع الحدود بين الجزائر والمغرب وقضية البوليساريو.
الأفلام التسجيلية كانت قبلة معظم المخرجين عند اندلاع الحرب. هنا واقع لا يمكن القفز فوقه، وحاجة جديدة إلى التعبير عن أفكار وهموم ومشاهدات جيلها.حاز فيلمها التسجيلي «بيروت مدينتي» (1982) جائزتي أفضل فيلم في ألمانيا وإسبانيا. كتب نصّه روجيه عساف، وصوّرت فيه بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي واحتراق منزلها ودمار مدينتها.
تعدّدت أعمالها التسجيلية، أو محاولاتها. والواضح من عناوين أفلامها أنها ترصد أيضاً الجانب الإنساني للصراع، أي الناس، والأطفال، والمقاتلين، والمدينة كـ «بيروت لم تعد كما كانت» (1976)، و«رسالة من بيروت». حملتها عدستها إلى العالم، من إيران وكردستان إلى فيتنام (مدام سايغون ــ 1997) فباريس (مجموعة أفلام قصيرة 2003).
اقتربت من السينما الروائية أكثر مع عملها مساعدة مخرج في فيلم «المزوّر» للألماني فولكر شلوندروف عام 1981. لكنها لم تنجز عملها الروائي الطويل الأول حتى عام 1985. «غزل البنات 2» تمييزاً عن فيلم مصري («غزل البنات» في الأربعينيات) وسمّي أيضاً «حياة معلقة» و«مراهقة سكر الحب» حيث استعانت بالممثل الفرنسي المسرحي، جاك فيبير. عن هذا الشريط، قال الناقد محمد سويد في كتابه «السينما المؤجلة: أفلام الحرب الأهلية» إنه كان أولى محاولات الإنتاج الفردي، أي الإنتاجات البعيدة عن تمويل الأحزاب والمنظمات
كأبناء جيلها، برهان علوية، ومارون بغادي، وجان شمعون ورندا الشهال، لا حدود واضحة بين السينما الروائية والوثائقية في أعمالها. في عام 1995، عادت مع عملها الروائي الثاني «كان يا ما كان بيروت» في محاولة لاستعراض حقبات من تاريخ لبنان والمنطقة عبر مقتطفات من أفلام تسجيلية وروائية. هذا العمل نال بدوره جوائز بعد مشاركته في مهرجانات خارج لبنان.
المحطة المهمة في مشوار جوسلين صعب مع السينما كان فيلم «دنيا» عام 2005، مع حنان ترك ومحمد منير، ليندرج ضمن الأعمال العربية التي تناولت ظاهرة ختان الإناث. عرض الشريط كان بمثابة رمي القنبلة الموقوتة في صالات مصر والعالم العربي. ويكفي أنه تم تهديد حياتها بسبب هذا العمل.في عام 2009، انتقلت إلى السينما التجريبية في فيلم «شو عم بصير» (2009). وصفته جوسلين بالسوريالي الذي يدعو إلى التفكير لكنه موجّه إلى الجميع. عند عرضه في «مهرجان بيروت السينمائي الدولي» عام 2010، قالت إنّه «فيلم يروي قصة حب بين شخصين، وبيني وبين المدينة» من بطولة خلود ياسين، نصري الصايغ، وجلال خوري.
جوسلين من جيل الروّاد الذي أضفوا هوية خاصة ولغة جديدة للفيلم اللبناني، عبّدوا الطريق أمام جيل مختلف من صانعي الأفلام. عملوا في زمن جميل، زمن نقاش حول أفكار وتيارات سياسية وفكرية وحول أمل بتغيير منشود شامل تحوّل كابوساً.
لم يكن هناك مفرّ من المشاكسة والمعاندة في تلك الظروف. آراء سياسية تفرضها البنادق، تقسيم المناطق، معابر، ميليشيات، حظر مناطق على صحافيين، وتهديد حياتهم وتحرّكاتهم. تعرّضت جوسلين للضرب، وكسر الكاميرا حين اكتشف بشير الجميّل، وجودها في أحد معسكرات تدريب «الكتائب».
كان قد حاول منعها أكثر من مرة، لكنها دخلت بعدما سمح لها والده بيار الجميّل بذلك. غضب وأرسل من يعتدي عليها وعلى الفريق الفرنسي المرافق لها وطردهم من المعسكر. منعت من دخول مصر سبع سنوات خلال نظام السادات، ولم يكسر الحظر إلا بعد اغتيال السادات، ناهيك بخطفها في كردستان وتهديدها بالموت في لبنان خلال الحرب وفي مصر فيما بعد بسبب «دنيا».
جوسلين صعب، هي أيضاً اللمسات الأنثوية الأولى في صورة السينما اللبنانية، مع زميلتيها هايني سرور ورندا الشهال. لم يكن للمرأة قبل ذلك مكان خلف الكاميرا في لبنان. وهي مستمرة بذات الروح والطاقة مع تنظيمها مهرجان «الثقافة تقاوم». هكذا التقيناها مرة قبل ثلاث سنوات على هامش الفعالية التي تعرض من خلالها صعب أفلاماً من لبنان وخارجه في كل المناطق في لبنان. حينها، استغربت من «الحياد اللامنطقي أو النكران الذي يحاول أن يعيشه الناس في لبنان. لا تنفع سياسة إغماض العينين أو التطنيش عما يجري» (الأخبار 10/11/2014).
أصبح لزاماً اليوم الاطلاع على أرشيف جوسلين وصعب وجيلها من السينمائيين الذي وثّقوا جوانب من الحرب، لا تناقشها الدراسات ولا ضيوف ومعدّو البرامج عند ذكرى 13 نيسان من كل عام. من الضروري للذاكرة الجماعية ولذاكرة الوطن وللسينما اللبنانية أيضاً، رؤية هذه البصمة الجميلة التي تركتها. يجب إخراج هذه الأعمال من خزانتها وعرضها وإنجاز مكتبة سينمائية تتوافر فيها هذه الأعمال للجميع
صحيفة الاخبار اللبنانية