ألكسندر سولجينيتسين والعقلية اليهودية
لم يكن الحائز على جائزة “نوبل”، الأديب الروسي ألكسندر سولجينيتسن، أول من تناول “المسألة اليهودية” في روسيا في مؤلفه الأضخم “مئتا عام معاً: عن العقلية اليهودية” (1795-1995) الصادر في موسكو عام 2001، (نقلته إلى العربية دار الفرقد في دمشق عام 2022)، عن الدور الخطير الذي لعبه اليهود في تاريخ روسيا، بل أن الغالبية الساحقة من أدباء روسيا ورجالاتها قد تناولوا بعضاً من هذا التاريخ، وفي مقدمتهم ألكسندر بوشكين وأنطون تشيخوف وفيودور دوستويفسكي وإيفان تورجينيف ونقولا غوغول.
وقد سبق ذلك، الأساطير والأمثال الشعبية التي تحدثت عن طبيعة “اليهودي” كبخيل وشغوف بجمع المال والذهب وإدمان الخيانة. فاليهودي في الأدب الغربي يوصف إما بالمرابي وإما القواد وإما العميل الخائن. ويكفينا ما ذكره وليم شكسبير الأديب الإنجليزي في مسرحيته ” تاجر البندقية ” التي تحدثت عن شخصية المُرابي اليهودي “شيلوك” الذي يقرض تاجراً مبلغاً من المال على أن يعيده في موعد محدد، وإذا لم يؤده في الموعد المحدد فيكون من حق “شيلوك” أن يقطع من فخذ المدين مقدار رطل من اللحم.
يقول سولجينيتسين في بداية كتابه إن “المسألة اليهودية” عولجت من وجهات نظر متعددة، لكن بطريقة تثير الاستغراب، إذ يغلب عليها الخداع الذاتي في أحيان كثيرة. ويبيّن أن “تاريخ المسألة اليهودية في روسيا غني، الكتابة فيه تعني أن تسمع بأذنيك أصواتاً جديدة وتنقلها إلى القارىء. ستتعالى الأصوات اليهودية في هذا الكتاب أكثر بكثير من الأصوات الروسية”.
تاريخ “المسألة اليهودية” في أوروبا
ظهرت “المسألة اليهودية” في أوروبا في العقد الخامس من القرن 19، وقد شاع هذا التعبير في ألمانيا وفرنسا للحديث عن أهلية اليهود للاندماج والتحرر في المجتمعات الغربية، ونشرت كتب وأبحاث عديدة حول هذه المسألة، فكان أول من ناقش هذا الموضوع هو الفيلسوف الألماني برونو باور في كتابه “المسألة اليهودية” عام 1843، ورد عليه الفيلسوف كارل ماركس في عام 1844 من خلال كتيبه “المسألة اليهودية”.
تلاهما الفيلسوف الاشتراكي اليهودي الألماني موشي هيس الذي ألف كتابه “روما وأورشليم” عام 1862. بدوره،أوجز الروائي الروسي الشهير فيدور دوستويفسكي أسباب كراهية الروس لليهود في كتابه “المسألة اليهودية” الذي نشره في عام 1877، وترجمه الدكتور أحمد الخميسي إلى العربية.
يذكر سولجينيتسين في كتابه “مئتا عام معاً عن العقلية اليهودية” أن الطبيب الروسي والكاتب الاجتماعي الشهير ليف بينسكر أعلن بعد أحداث العنف ضد اليهود الروس في العامين 1881 – 1882 دعوته اليهود الروس والألمان إلى التحرير الذاتي، والتي حولها إلى كتاب عام 1882 أصدره باللغة الألمانية بعنوان “التحرير الذاتي: تحذير من يهودي روسي لإخوته”. وقد ظهر في تلك الاَونة بين يهود روسيا “نمط من المثقفين النادمين الذين أخذوا يسعون للعودة إلى اليهودية التقليدية”.
غرباء في كل مكان
وينقل سولجينيتسين في كتابه عن بينسكر قوله:” إن اليقين بالتحرير انهار، وينبغي أن يطفأ فينا بصيص الإيمان بإخوة الشعوب. لا يشكل اليهود أمة حية، إنهم غرباء في كل مكان.. لا يستطيع اليهود أن يندمجوا بأية أمة، لذلك لا يمكن لأية أمة أن تطيقهم..لم يبلغوا في مكان اعتراف شركائهم في الوطن بمساواتهم بالسكان الأصليين”.
بعدها، ينتقل بينسكر إلى حصر الحل بدولة على أرض خاصة، يقول: “إن مصير اليهودية يجب ألا يكون متعلقاً بعطف الشعوب الأخرى وإحسانها. أما المخرج العملي من هذا المأزق، فيتمثل بتشكيل شعب على أرض خاصة به. وعليه، يجب امتلاك أي أرض ملائمة وإسكان اليهود فيها، لا فرق في أي بقعة من بقاع الأرض تكون”.
هرتزل
يذكر محمد حسنين هيكل في كتابه “المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل” أن تيودور هرتزل كان الأكثر ديناميكية بين الكتاب الذين تطرقوا إلى “المسألة اليهودية”،إذ توجّه “نحو صميم الهدف” وحوّل الصهيونية إلى برنامج عملي. يحدثنا سولجينيتسين نقلاً عن الأديب النمساوي اليهودي ستيفان سفييغ قوله إنه قبل أن يصدر هرتزل كتابه “الدولة اليهودية” كان يرى في سعي مختلف شعوب إمبراطورية النمسا/ المجر لتقرير مصيرها، مسعى رجعياً ينبغي أن يُقمع.. و”لم يكتفِ بذلك، بل وضع خطة لقيادة يهود فيينا إلى الكنيسة لمعمودية جماعية، ووضع حداً نهائياً للمعضلة اليهودية بتذويب اليهودية في المسيحية”.
لكن قضية اعتقال النقيب اليهودي في الجيش الفرنسي ألفريد دريفوس، ضابط أركان الجيش، في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 1894، بعد اتهامه في عام 1904 بكشف أسرار عسكرية للإمبراطورية الألمانية ومحاكمته عام 1905، أحدثت تحولاً فكرياً عند هرتزل وكان يقيم في تلك الفترة في باريس. وقُيّض له أن يشهد علانية تجريد دريفوس من رتبته. وكان هرتزل على يقين من براءة دريفوس. فهزه الحدث بعنف ودفعه إلى أن يرتد عن قناعاته، وقال في نفسه: “إذا كان الإقصاء حتمياً، فليكن كلياً وإذا كنا نعاني من فقدان الوطن، إذن ينبغي أن نخلق وطناً لأنفسنا”. ويقول سولجينيتسن: “في لحظة صحو صاعقة، امتلكت كيان هرتزل فكرة إنشاء دولة يهودية.. والحل الممكن للمسألة اليهودية هو الدولة اليهودية القائمة بذاتها”.
وأثار هرتزل بكتيبه “الدولة اليهودية” الصادر عام 1896 الإرباك والغضب في أوساط البرجوازية اليهودية.. لأنه “يعطي أعداءنا اللدودين ذرائع ضدنا”.
ويذكر سولجينيتسين أنه بعد ذلك حدث حماس عاطفي كبير لفكرة هرتزل حتى كاد هو نفسه يخاف من جبروت الحركة التي طوّرها في كتيبه الصغير. ألهب هرتزل بكتيبه يهود أوروبا وكرّس لفكرته ما تبقى من سني عمره. فأنشأ حركة سياسية وعمل على بناء كادر جيش المستقبل الجرار وحوّل المؤتمر الصهيوني الأول، الذي عقد عام 1897 في بازل والذي شكّل فيه اليهود الروس ثلث المشاركين، إلى برلمان حقيقي للشعب اليهودي. وفي أثناء خطبته الأولى، أعلنه الحاضرون بحماس قائد الحركة الصهيونية وزعيمها الأوحد.
تحليل الشخصيتين اليهودية والروسية
يشكل كتاب سولجينيتسين دورة معرفية عميقة (ابستمولوجيا) في علم معرفة “الشخصية اليهودية”. وتأتي أهميته من أمرين: الأول أنه يحلِّل الشخصيتين الروسيّة واليهوديّة تحليلاً سيكولوجيا وسوسيولوجياً في ظل الإمبراطورية الروسية على مدى قرنين من الزمن، بعيداً عن التعصب والانفعاليّة والتوتر والعداء الغالب عليهما. والثاني من كون كاتبه هو ألكسندر إيسايفيتش سولجينيتسين الروسي المعروف الحائز على جائزة نوبل في الآداب عام 1970.
ساعد على انتشار كتاب “مئتا عام معاً عن العقلية اليهودية” وعلو صيته، الحملات الإعلامية المُكثّفة ضده، إلى درجة دفعت “ف. ن. أفاناسيف”، وقد يكون اسماً مستعاراً، أن يؤلف كتاباً بعنوان “الأدباء الروس يتحدّثون عن اليهود” ويقول فيه إن ما دفعه إلى الاهتمام بهذه القضية يعود إلى الحملات الإعلامية المكثفة التي روّجت بشكل غير مباشر لكتاب سولجينتسين حين راحت تحاول إدانته بعد أن سيطر اليهود على كل مفاتيح الإعلام والصحافة في روسيا المعاصرة. ويوضح أن “المسألة اليهودية” لم تكن تشغله في السابق، بل لم يكن ليلتفت إليها حتى بعد أن نشر سولجينتسين رائعته التاريخية “مئتا عام معاً” في جزأين كبيرين، جمعتهما دار الفرقد في دمشق بكتاب ضخم يضم 622 صفحة بعد أن نقله للعربية الدكتور إحسان أسحق.
ويكشف سولجينتسين أنه أنجز الأبحاث المطلوبة لهذا الكتاب في ثمانينيات القرن الماضي، مضيفاً أنه اكتشف حينذاك أن اليهود لعبوا دوراً كبيراً في حركة الانشقاق التي ظهرت في السنوات الأخيرة من العهد السوفياتي السابق فنشر الجزء الأول منه عام 2001. وأنهى عام 2002 الجزء الثاني الذي يتحدث عن تاريخ اليهود الروس من الثورة البلشفية عام 1917 إلى مرحلة ما بعد العهد السوفياتي السابق، وقد حظي بإقبال كبير حال نزوله إلى المكتبات الروسية.
كان باستطاعة سولجينتسين أن يضع اسماً مستعاراً على كتابه ويخفي اسمه الحقيقي مخافة أن يلقى مصير أربعة من زملائه لقوا حتفهم يوم أفصحوا عن موقف مناهض للصهيونية، في ظروف يكتنف الغموض الكثير من جوانبها، ومنهم الكاتب الشيوعي يوري إيفانوف الذي وجد مقتولاً على سريره في موسكو بسبب أبحاثه في الصهيونية وأهمها تلك الواردة في كتابه الذائع الصيت “الصهيونية.. حذار”، الصادر في موسكو في أعقاب نكسة حزيران / يونيو 1967. لكنه يرد على ذلك بقوله: “حياتي شارفت على نهايتها، ولم أعترف يوماً بحق أي كان في إخفاء ما كان أو طمسه”. إلا أنه يعود ويؤكد أنه لو كان يعرف المصاعب التي واجهته أثناء إنجاز هذا الكتاب لما كان بدأ به أصلاً.
يوضح سولجينيتسين أن عنوان كتابه “مئتا عام معاً عن العقلية اليهودية” يعكس الهدف الذي كان يسعى إلى تحقيقه من ورائه، وهو ضرورة فهم الروس لبعضهم البعض بصورة أفضل. ويشير إلى أنه أراد من خلال إنجاز هذا الكتاب أن يمد يده إلى الآخرين، مشدداً على أن ذلك مشروط بمد الآخرين يدهم إليه أيضاً.
حاول اليهود الروس تأسيس “الاتحاد الاشتراكي الثوري بين يهود روسيا” في بداية عام 1876، ودعوا إلى أن يكون العمل الدعائي باللغة اليهودية، إلا أن هذا الاتحاد لم يلقَ قبولاً في البيئة اليهودية، حتى وقوع أحداث عامي 1881 – 1882 التي عكست وعي الثوريين اليهود في روسيا، والذين كانوا ابتعدوا عن اليهودية في بادئ الأمر.
ففي 13 آذار/ مارس عام 1881، أقدم أحد أعضاء الجماعات الراديكالية على اغتيال القيصر الكسندر الثاني واستخلفه في الحكم نجله الكسندر الثالث، فسنّ تشريعات وقوانين شديدة لمكافحة الإرهاب ومقاومته. ورافق ذلك تقييد للحقوق المدنية وحرية الصحافة. وفي عام 1882، وقعت في روسيا مذابح ضد اليهود، ما أسهم في هجرة الجماعات اليهودية من البلاد.
ينقل سولجينيتسين عن إحدى الشخصيات اليهودية قوله “إن أحداث 1881 – 1882 أثارت موجة سخط عارمة، وأيقظت أعمال العنف المشاعر التي كانت خامدة.. فليكن هذا منطلقاً لمبادرة جماهيرية يهودية ذاتية.. سوف نعمل من غير كلل على تحطيم نظام الحكم المعاصر”.
ويقول، نقلاً عن إحدى الشخصيات الفكرية الروسية غ. ب. فيدوتوف، إن المثقفين اليهود الذين تحرروا روحياً منذ ثمانينيات القرن 19 ، مثلهم مثل المثقفين الروس في عصر بطرس، كانوا يفتقرون إلى الحد الأقصى من المرتكزات.
لعب اليهود الروس دوراً مهماً داخل حزب الاشتراكيين الثوريين في روسيا، واعتبروا أن مشاركتهم في هذا الحزب كيهود تساعد على إدماجهم في المجتمع كفئة “مُحاربة”.
شكّل تأسيس حزب البوند ( الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي) عام 1898 مفصلاً مهماً في تاريخ يهود روسيا. فقد شنّ لينين والبلاشفة هجوماً على برنامجهم المسمى “استقلال الثقافة القومية الذاتي” لليهود. واعتبر لينين أن شعارهم هذا من شأنه أن يؤدي إلى انعزال البروليتاريا اليهودية التي أراد الصهاينة أن تعمل بمعزل عن عمال شعوب روسيا.
وبعد ثورة تشرين الأول / أكتوبر الشيوعية عام 1917، حصلت جميع الأقليات القومية في روسيا على حريتها. وفي عام 1918، سنّ أول قانون في العالم يجرّم العداء للسامية. وأصبح الاتحاد السوفياتي أول دولة في العالم تعتبر العداء لليهود شأنه شأن العداء لأي شعب اَخر جريمة عظمى.
يؤكد كتاب “الجوهر الرجعي للصهيونية” مدى الحقد الحاد الذي يكنّه الصهاينة للحزب الشيوعي، إذ أعلنوا أن الكثير من الثوريين ذوي الأصل اليهودي الذين شاركوا بشكل فعال في إعداد ثورة أكتوبر وتحقيقها هم “أعداء ألداء” ومناهضون للسامية. وأصبح الصهاينة ينظرون إلى الماركسية اللينينية بجوهرها على أنها “العدو رقم واحد”. ويذكر الكتاب أن أرشيف الدولة لثورة أكتوبر يحتفظ بوثيقة أصلية للصهاينة مؤرخة في عام 1898 تقول: “الاشتراكية عدو لدود لليهود وللفكرة القومية اليهودية”.
ويؤكد سولجينيتسين في كتابه اعتبار البلاشفة الصهيونية حركة “في منتهى الرجعية”، ووصفهم الصهاينة بأنهم “حزب التشاؤم واليأس والقنوط”.
ويرى سولجينتسين أنه: “يجب على الشعب اليهودي تحمّل المسؤولية عما اقترفه ممثلوه من السفاحين الثوريين ومن سار خلفهم على السلم الوظيفي. يجب عليهم تحمل المسؤولية أمام أنفسهم وأمام الله قبل أن يكون ذلك أمام الآخرين”.
يقول عميد المراسلين العرب في روسيا الدكتور سامي عمارة:” نجح اليهود فى ركوب الموجات الثورية، حين كان الأمر يتطلب ذلك، كما حدث لدى انضمامهم إلى كل الخلايا والحركات السرية التي تزعمت ثورة أكتوبر 1917، ليعودوا إلى الانضمام إلى “الصحوة الثقافية والأدبية” في سنوات حكم الزعيم السوفياتي الأسبق نيكيتا خروتشوف بعد رحلة من الآلام والمعاناة خلال سنوات حكم سلفه ستالين”.
وينقل سولجينتسين عن الكاتب الاجتماعي اليهودي غ.أ. لاندوا قوله إن صفوف الاشتراكيين كانت تفيض باليهود. وفي خطبة في مجلس الدوما عام 1909 ذكر أ.إ. غوتشكوف شهادة شابة من حزب الاشتراكيين الثوريين أشارت فيها إلى أسباب خيبة أملها، وذكرت أن من بين الأسباب “أن الحركة الثورية برمّتها تحت سيطرة اليهود وأن اليهودية ترى في انتصار الثورة انتصاراً لها هي نفسها”.
ويكمل المؤلف نقلاً عن إ. أو. ليفين قوله “إن أعداداً أكبر من أطباء الأسنان وحتى الجامعيين كانت في أوساط المتطرفين من مختلف المستويات”. ويرى أن هذه العناصر من الشعب اليهودي فقدت الماهية الثقافية لليهودية القديمة وبقيت في الوقت نفسه غريبة عن الثقافة الروسية وعن أي ثقافة أخرى على وجه العموم. هذا الخواء الروحي الذي كان يتخفى وراء القناع الواهي للاستيعاب السطحي للثقافة الأوروبية جعل اليهود بحكم مزاولتهم العمل التجاري والصناعي بشكل رئيس ميالين إلى الرؤية المادية، شديدي التأثر بالتعاليم السياسية المادية.. فالتفكير العقلاني الذي يتميز به اليهود يجعلهم مستعدين لاستيعاب عقائد من نمط العقائد الثورية الماركسية”.
ويضيف ليفين: لم تكن الشرائح الاجتماعية الدنيا من يهود روسيا هي وحدها التي وقعت تحت سلطان الجائحة الثورية، بل شملت الكادر الأساس من المثقفين وأشباه المثقفين اليهود الروس وهم الذين تحولوا في عشرينيات القرن 20 إلى أكثر عملاء النظام السوفياتي نشاطاً، على حد قول ليفين.
وينقل المؤلف عن ف. س. ماندل أن اليهود أنفسهم ليسوا ضد بناء العالم على أسس جديدة، وأنهم يؤمنون بأن الثورة ليست سوى خطوة على طريق تحقيق مملكة الإله على الأرض.
ويؤكد سولجينيتسين رؤيته عن يهود روسيا بما يقوله فريتس كان في كتابه “اليهود كعرق وشعب حامل للثقافة”: من هذا الكنف الثوري تبرز تيارات الوسط الشعبي اليهودي التي يحدوها القنوط ووهم الصبيانية المستحيل فتميل نحو الفتنة والشغب لا في روسيا وحدها إنما في كل مكان على وجه العموم.
معاداة السامية
يذكر سولجينيتسين في حوار صحافي أنه أُتهم عند صدور روايته الأولى “يوم واحد من حياة إيفان دينيسوفيتش” عام 1962 بمعاداة السامية. ويقول: “كان السبب عدم ورود كلمة يهودي في أي مكان في الرواية، وسبب آخر أكثر تفاهة هو عدم مشاركة سيزر ماركوفيتش اليهودي في رص الطوب”. ويخاطب سولجينيتسين محاورَه الصحافي مستغرباً:” أتفهمون! بالعكس تماماً، لأن كلمة يهودي لم تأتِ في النص”!
يتابع سولجينيتسين حكايته مع اللاسامية في رواية “جناح مرضى السرطان”، التي أُتهمت أيضاً بمعاداة السامية، أما السبب فهو عدم وجود طبيب يهودي ضمن طاقم المستشفى الطبي الذي تتحدث عنه الرواية… ويعبّر عن اندهاشه قائلاً: عجباً، كيف يقرؤون؟
يأتي ذلك في معرض دفاعه عن نفسه أمام متهميه، فلديه – كما يقول – في روايته “جناح مرضى السرطان” الصادرة عام 1968، شخصية الطبيب ليف ليونيدوفيتش الجراح الممتاز والإنسان الجذاب للغاية، وقد أفرد له فصلاً كاملاً من الرواية، وكان من الواضح أنه يهودي من خلال كلماته وحديثه ناهيك باسمه واسم أبيه.
لكن ذلك كله لم يكن كافياً لمستثمري اللاسامية،وبالتالي بقي سولجينيتسين محط أنظارهم، فما إن ظهر عمله المسمى “آب / أغسطس 1914″ حتى استعرت الحملة ضده. يقول سولجينيتسين في حواره:” كان أكثر ما هزّني ما حصل مع رواية “آب/ أغسطس 1914″، فلم يكن قد ظهر العمل بالإنكليزية بعد، ولم يكن أحد قد تمكن من قراءته بالإنكليزية حين راحت تستعر الحملة التي تتهمه بالتطرف في العداء للسامية. ويعود ذلك إلى أنني لم أُخْفِ أن بوغروف قاتل ستوليبين كان يهودياً… وقد وصل الأمر إلى انعقاد جلسة في مجلس الشيوخ الأميركي في آب/ أغسطس 1985 لمناقشة لاسامية كتابي. وبالطبع، لم يكن أحد من المتناقشين قد قرأ العمل”.
هناك روايات عديدة لسولجينيتسن، إلا أن روايته الحقيقية “مئتا عام معاً” التي تستعرض تاريخ اليهود في روسيا في غضون قرنين وعلاقاتهم مع الأمة الروسية قد تكون أكثر أعماله إثارةً للجدل.
لقد عاقبت الصهيونية سولجينيتسين بحجة أن أدبه يقدم الذرائع “لمعاداة السامية”،خاصة بعد أن أصدر كتابه “مئتا عام معاً”. فتم عزله داخل روسيا حتى وفاته عام 2008. وقد صدرت عدة كتب تسيئ إلى الكاتب الكبير وتختلق الحكايات القذرة بأنه كان عميلاً للأجهزة السوفياتية في محاولة لتحطيم سمعته كأديب عالمي.