أمين خالد دراوشة: شخصيتا ماجدة وتغريد في رواية “حرمتان ومحرم” لصبحي فحماوي

 

تتناول رواية “حرمتان ومحرم”، حكاية تغريد وماجدة وتخرُّجهما، وحصولهما على شهادة تعليم اللغة العربية، وانعدام فرص العمل في القطاع المحتل والمحاصر، واستغلالهما فرصة السفر إلى بلاد الرمال الغنية بالنفط للعمل هناك، ومساعدة أسرتيهما، ولكن حتى يقدرا على السفر كان لا بُدَّ من وجود محرم لهما إِنْ أَرادتا الفوز بالوظيفة. ومن خلال فكرة مبتكرة وأصيلة يبدع الروائي شخصية (أبو مهيوب) الرجل الخلوق والخمسيني الذي تتوافق الأسرتان على سفره مع الفتاتين كمحرم بعد عقد قرانه صورياً عليهما.

يعيش الثلاثة في شقة، وينشغل كل منهم في عمله، وتمر السنوات، ويستشهد جهاد، خطيب تغريد، أما ماجدة فخطيبها غازي الذي حصل على منحة لدراسة التوجيهي في أمريكا، فإنه يقرر طلاق المخيم إلى الأبد، والإقامة هناك، تاركاً خطيبته بعد سنوات من الخطوبة.

تغصُّ الرواية بالشخصيات؛ شخصيات كانت جلها فاعلة ونامية، وتحاول السيطرة على قدرها. وفي نهاية الرواية، تتوصل الفتاتان إلى قرار مهم، بعد أَنْ صارتا تحسان بتقدم العمر، إِذْ قارب عمرهما على الثلاثين، وهو عمر من الصعب أنْ تجد فيه الفتاة مَنْ يتقدم للزواج منها في قطاع غزة.

ظهرت الفتاتان بشخصيتين قويتين، وإن كانت ماجدة تملك شخصية أكثر صلابة، وقدرة على تحليل الواقع المر، لذا تقترح على صديقتها أن يتزوجا بـ (أبو مهيوب)، وهذا ما كان.. متجاوزتان سلطة الأهل، وقد صممتا على بناء حياتيهما من جديد بعد المآسي التي تعرضتا لها.

ظهرت في الرواية شخصيات ثلاث رئيسة، كانت غالبية الأحداث تدور بفعلها وحولها، وهي ماجدة وتغريد وأبو مهيوب، فكيف ظهرت، وما هو تأْثيرها في أحداث الرواية؟ ماجدة بشخصية الفتاة الواقعية الصلبة؛  ظهرت شخصية ماجدة في البداية عادية جدّاً وتقليدية، وتمت خطبتها على غازي وهما ما زالا طفلين، ولم تتعرف عليه بعد أَنْ أصبح بالغاً، لأنه سافر إلى أمريكا، ولا تتذكره إلا “كطيف شارد.. وكثيراً ما يخطر على بالها، بينما هي تجلي أَو تغسل، أو بينما هي في طريق المدرسة، فتندب حظها العاثر!” (ص 97).

في بلاد الرمال تتذكره، وتخاطبه قائلة: “لماذا ابتعدت عني يا غازي؟ ولماذا خطبوني إليك، ما داموا سيرسلونك إلى أَمريكا؟ ولماذا وافقت على خطبتي، إذا كنت ترغب بالسفر؟ ولماذا لا تكلمني بالهاتف، أَو ترسل لي رسالة تقول فيها: أحبك يا ماجدة، أو أكرهك يا ماجدة، أو خلصيني منك يا زفتة! أَو انتظريني فأَنا قادم لآخذك معي، أو أي شيء! لقد قتلتني عدة مرات” (ص 97).

فهو حجزها وسافر، ولا يكلمها بالهاتف ولا يراسلها، وهي الآن مدفونة في رمال الصحراء تبحث عن غد قد لا يأتي. ولكنها تبدأ بالشكوى، ثم تفاتح صديقتها تغريد، وتطلب منها جواب نهائي من غازي، وبالفعل تحصل على صفعة قوية، عندما تخبرها تغريد أن غازي يريد الاستقرار في أَمريكا ولا ينوي العودة، وأنه عرض مساعدته! عندها تقول ماجدة، وهي تبكي:

يساعدني؟ أَنا لست عالة على أحد، فها أنت ترينني أعيش في الصحاري وآكل لحم (الضبّ)، كي أؤكد قدرتي على البقاء، ورغم كل الأعداء الذين يحاولون قتل البقاء في أرواحنا نحن الفلسطينيات، فنحن نقاوم الفناء! وأنا لست محتاجة لعطف أَخيك المتأمرك غازي!” (ص 98-99). وتقرر أَنْ تسير بحياتها بعيداً عن غازي وسرابه.

أَمَّا من حيث الصفات الجسدية، فتقول تغريد في وصفها: “لو ينظر إليك عاشق بعين ناقدة، ليقول: (إن جسدك باهر الجمال)، فأنت طافحة النهدين، مربربة الردفين، ضامرة البطن، متناسقة القد، ونظراتك ساحرة الابتسامة… ولو وصفتك أنا بيني وبينك لقلت أَنَّك بريئة التصرفات، كثيرة الفلسفة والكلام الفارغ المضحك والمحزن، تقولين كل ما لديك، بلا لف أو دوران، وأَنت أَكثر مني جرأة، وخفّة دم، واندفاعاً في التعبير عن الذات” (ص 99). وشخصيتك قيادية ومبادرة.

وبالفعل فإِنَّ شخصية ماجدة قيادية، وتحاول أَنْ تتجاوز الصعاب والحواجز، لذلك كان قرار سفرها، ثم وضع حد لخطبتها لغازي، وأَكثر ما ظهرت شخصيتها الصلبة، عندما عرضت على تغريد الزواج الرسمي من أبي مهيوب، بل إِنها ناقشته حول صلاحيته للزواج وقدرته الجنسية، وتزوجته رافضة أَنْ تبقى كبقرة حلوب لأُسرتها دون زواج وتكوين أُسرة.

تتصف تغريد بالجمال الفائق، فهي “بريئة الإطلالة… عينان حييّتان حذرتان، شقراء شفافة، زهرية الوجه واليدين والكعبين. ناهدة الصدر، ملابسها بسيطة وأَنيقة، وتبرز تضاريس جسدها” (ص 6-7).

يقع الحداد جهاد شقيق صديقتها في حبها، وهي تبادله المشاعر نفسها، إذ تقول عنه:

“ما أَقواك يا جهاد، فأنت الرافعة الحديدية العملاقة التي ستحملني بين ذراعيها، وتوصلني إِلى شاطئ الأمان، أَنت قوي وفاعل، وأَنا محتاجة إلى شاب قوي، أُداري بجواره ضعفي، وعدم قدرتي على السير وحدي في الطرقات من دون رجل يسندني، ويحمي أُنوثتي الرقيقة، فأكون لـه رفيقة درب” (ص 11).

فهي تشعر بالخواء، من حياتها الرتيبة، ومن المكان الذي يشد حباله على عنقها، وبحاجة إلى العاطفة المتدفقة التي لا تجدها في بيتها، وتسأل: “هل يا ترى أنجح في تحقيق ذاتي معك؟” تعيش في رومانسية حالمة، تتخللها بعض الوخزات، فهي وماجدة في طريقهما إلى الحدود؛ يهربان من القلق بالضحك، إذ تقول:

ننبهر أَنا وماجدة بما نرى، ولكننا لا نقدر أَنْ نُحَدِّق في قرص الشمس، فنروح نتغامز ونتلامز، وكأَن لا شيء يهمنا… بالطبع ألف شيءٍ يهمنا، ولكن يبدو أَنْ طبيعتنا تحت الاحتلال قد شُوِّهت، فصار الضحك لدينا نوعاً من التعايش لنسيان عذابات الاحتلال، ونوعاً من المقاومة، ونوعاً من الحداثة التي يتحدثون عنها، بحيث نرش على الموت سُكّراً.. صارت هذه فلسفة حياة. وبغير هذا الأسلوب، كيف نستمر؟” (ص 78).

وبعد مرور بضعة شهور تقارن بين حياتها في غزة المحاصرة وبين حياتها في بلاد الرمال، فهي في غزة وإن كانت حياتها على الهامش، وتعاني عائلتها من الفقر، ولكنها كانت قادرة على العيش، تقول: “وكنت أحياناً ألبس قميصاً أَصفر أَو أَحمر أو…، وتنورة طويلة…، أو بنطالاً فضفاضاً، فأَجلب انتباه كل الناس الذين أَمرُّ بطريقهم، وأحياناً يعاكسني أَحدهم: ما هذه الحلاوة يا… !” (ص 78).

بينما هنا في بلاد الرمال تعيش في سجن لا يختلف كثيراً عن معسكر الحصار إذا لم يكن أسوأ، فهي مجبرة على لبس البرقع، والعباءة السوداء، وكل أدوات الدفن، لا أحد يراها إلا شبحاً وتزداد حالتها سوءاً بعد أنْ تعرف أَنَّ خطيبها قد تغير منذ استشهاد أخيه الصغير جعفر، وتحول إلى مقاوم مع الحركة الإسلامية، وعندما يستشهد تعرف أن أحلامها قد انتهت بموته.

أَدَّت سنوات الغربة الطويلة إلى تغير في تفكيرها كما حدث لصديقتها، وشرعت تفكر هي الأخرى بطريقة تساعدها على إكمال حياتها بشكل أفضل. وتكون فكرة الارتباط بأبي مهيوب قد اختمرت في عقل الفتاتين، وخاصة بعد أنْ تَحسَّن عمل أبو مهيوب بالزراعة، وقرَّرَ أَنْ يستأجر شقة أفضل على حسابه.. هذا السلوك الرجولي أَشعر الفتاتين “بدفء (أبو مهيوب) وحنانه وشهامته. صارتا تشعران أنهما فعلاً تابعتان لـه، بعد أن كان هو التابع لهما، وصارتا تتعاطفان معه أكثر من ذي قبل، وتسعيان لمزيد من الاقتراب منه، وتهابانه أكثر من ذي قبل” (ص 198). ورغم كل شيء ما زالت تحب الرسم، ومزج الألوان.

درس جهاد في كلية مهنية نظراً لظروف العائلة، وتعلّم صنعة الحدادة، وهو شاب مهتم بعمله، ويتقن صنعته، “في العشرين من عمره، شديد البأس، يمتلك مواصفات حدّاد متمكّن” (ص 9).

يقع في حب تغريد، ويشعر أَنَّ الحياة ستنصفه أَخيراً، يتقدم إِلى خطبتها، وتأتي قضية سفرها للعمل لتعيق مشاريعه، ولكنه يوافق على مضض على سفرها وسفر أُخته؛ لأَنَّ لا أَحد في العائلتين قادر على السفر كمحرم لهما.

تنقلب حياته رأْساً على عقب بعد استشهاد أَخيه وصديقه شقيق تغريد، فأَخذت أَفكاره تتغير، “فصار يشعر بالخطر المحدق يقترب منه، وكأَن صدمة عقلية قد أَصابته. صار يفكر بأخيه جعفر ليل نهار، ويراه يلعب أَمامه، ويقفز من بين السيارات المسرعة، ويقعد على الأرض المزروعة بالنفايات، ويقترب منه وهو يضحك، ويمد يده طالباً مصروفه، فيمدُّ جهاد يده بالنقود، فيستغرب الحضور تصرفاته” (ص 145).

وتبقى صورة جعفر تطارده، وتطالبه بالثأر، وبدأ يحس بعدم توازنه، وتوهمات شتى، فيقرر تخفيف عمله، وبعد تفكير يلتحق بالمقاومة الإسلامية، ويستغل مهارته في العمل لتعلم صناعة العبوات الناسفة حتى تم اغتياله بقصف لمحددته.

استطاع السارد رصد التحولات في حياة جهاد، وذلك باختلاف لغته قبل استشهاد أَخيه، عما هي بعد التحاقه بالمقاومة، فنجح الروائي في اختيار اللغة الملائِمة للحدث، ففي أَحد زياراتها إِلى الوطن، تكتشف تغريد التغير الكبير الذي طرأ على  شخصية جهاد، وخاصة تصرفاته ولغته، فهو أصبح ملتحياً، وغير متلهف لرؤيتها، وعندما زارها في البيت “كان طوال الجلسة مُطأطِئاً رأسه في الأرض، ويعدُّ بإبهامه على الخنصر والبنصر والسبابة والشاهد، ويذكر كلمات دينية، ويستغفر الله العلي العظيم، ويتوب إليه، ويندم على ما فات، ويسعى للشهادة، ويطلب الجنة” (ص 148).

لم يعد ذاك الشاب المتيم بحبها، والملهوف عليها، وعندما سألته عن حاله، قال: “بخير من الله، ونطلب عفوه ورضاه، وننتظر بالدور لدخول الجنة… كلنا على الطريق يا أُختي…” (ص 148). أَصبحت تغريد أخته بمفهومه، والمقاومة هي شغله الشاغل، وطريقه إلى الجنة.

 

 

صحيفة رأي اليوم الالكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى