أنا أحلم إذن أنا موجود
ـ أمي، إنّي ألمح عناقيد صغيرة وخضراء تتدلّى من كرمة البيت في عزّ الشتاء …هل يعقل هذا ؟ ألم تقولي يوما ” إنّ المستحيل يشبه العنب في الليالي السوداء !”.
ـ انزل أيها السعدان الصغير …..دعها وشأنها، لا توقظها من غفوتها …إنها تحلم .
هكذا اكتشفت صغيراً ـ وبفضل امرأة بالكاد تكتب اسمها ـ أنّ الأشجار تحلم بدورها مثلنا ومثل القطّة التي تنام الآن في حضني ..بل وقد تصاب بالكوابيس وتفقد أوراقها كما حدث مع زيتونة خبّرني عنها عجوز فلسطيني .
“أنا أحلم إذن أنا موجود ” …هو “كوجيتو” آخر يضاف في تعريف هذا الكائن المدهش والمندهش أبداً مثل بؤبؤ عينين جميلتين أمام كارثة ….أو شريط سينمائي آسر يقاوم العتمة وينهش لحم الظلام .
الآن عرفت لماذا داهمتني هذه الحادثة القادمة من قاع الذاكرة …
إنني أحضر افتتاح دورة أيام قرطاج السينمائية التي أسّسها الراحل المهووس بفن الصورة “الطاهر شريعة ” عام 66 وأراد لها أن تكون عيناً “حوراء “غير “حولاء” …أي ترصد النقيّ الصادق والجذّاب في كاميرا الجنوب دون الانزلاق في متاهات الدعاية والإثارة الرخيصة …
اجتاحني حنين غريب الجمال إلى أيام دمشق السينمائية التي عايشتها زهاء ثلاثين عاماً، توأم قرطاج في الرؤية والتزامن وحتى التنسيق والخلافات أثناء تلك الأمسيات الجميلة من التزاحم والصراخ والنقاش ولقاء الأحبّة .
السينما العربية دون الشام و تونس هي عين واحدة، يد واحدة ورصيف واحد …وفنجان قهوة باردة ينقصها دفء الحديث وحنين الشفتين .
أعتقد جازماً أنّ الكاميرا العربية ـ دون لمسة السوريين والتونسيين ـ ترتدي شيئاً يشبه البرقع أو النقاب، تلزم بيت الطاعة وتسكن سراديب الخوف والتردّد وتلوك الملاك.
هم فرسان فن سينمائي أصيل يطلق صهيله في العالم رغم ضعف الإمكانيات، يجمح أو يكبو، لكنّ حدواته من ذهب خالص ولا يصدأ أبداً .
الآن وهنا، في هذا الشتاء التونسي الدافئ المضاء بعشاق الفن السابع وقد شارف على كنس الحثالة من صنّاع الفتنة، يمدّ مبنى المسرح البلدي الشهير لسانه المخملي الأحمر مرحّباً أمام ضيوفه المحتفين بالحياة وساخرا من الذين يريدون إرجاع عقارب ساعة شارع بورقيبة الشامخة إلى الخلف .
كرومنا مازالت تحلم يا أمي، العنب ليس حامضاً هذه المرّة وهو تحت عيون حرّاس الحياة وعشّاق الفن الجميل .
رحم الله من قال ” …ومن أجل كل هذا، خلق الله السينما “.