أنظمة راشية وشعوب مرتشية…
ليس دفاعا عن أنظمة الخليج ولكن………………
ما سرّ تلك النظرة الاجتماعيّة (المتعالية) والمتشنّجة التي تتّسم بها علاقة غالبيّة واضحة من سكّان بلاد الشام والعراق ومصر وشمال افريقيا إزاء أشقّائهم في بلاد الخليج…؟
ما سبب هذه الأحكام التي قد تبدو نمطيّة ومتشابهة لدى النخبة والعامّة …والتي في معظمها سلبيّة جائرة، تمعن في توصيفهم عبر (كليشهات ) جاهزة ومكرّرة مثل المبالغة في البذخ والكسل والاتّكال والاستهلاك وقلّة الحيلة وسوء التدبير ..ويأتي كل ذلك ضمن منطق استعلائي واستهزائي يصل إلى حدّ رواية النكات الجارحة واختلاق القصص المسيئة.
قد لا ينتبه إليها أهالي الخليج من السياح والمصطافين والمنشغلين بشغلهم، ذلك أنّ أهل النميمة غالباً ما يتهامسون ولا يواجهون أو يتواجهون. ترى، من غذّى هذه النزعة الشوفينيّة ؟ ولصالح من تصبّ هذه (الحيلة المصيدة) لتي انطلت على أفراد كثيرين، بسطاء ومساكين، يظنّون أنفسهم خير أمّة (أخرجت ) للناس ….لمجرّد أنّ الطبيعة قد حرمتهم من النفط وامتحنتهم بحكّام يجلسون على كراسي أبديّة و غير (تيفاليّة) في (جمهورا ثيات ) تدّعي شرف (الممانعة) …وتنعم بامتيازات السماسرة.
بدأت اللعبة منذ الانقلاب الناصري في بداية الخمسينات من القرن الماضي على العائلة الخديويّة في مصر – وبمباركة غربيّة واضحة ومكشوفة – ….واستمرّت باستمرار أزلامها وأبواقها الإعلاميّة (الهيكليّة ) إلى حدّ الآن.
شخصيّاً، لست من أنصار نظرية المؤامرة التي حقنتها الأنظمة العربيّة الشموليّة و (الثورجيّة) إلى أطفالنا قبل الدخول إلى فصول المدارس …بل وأرضعتهم إياها مع الحليب المستورد، فبات الوالد يحاذر ولده ويتملّقه.
لا ننكر أنّ بعض العائلة المالكة في أرض الكنانة قد بلغت من الفساد عتيّاً، تغوّل أفرادها حتى كاد يشبه قدر المصريين أسلافهم في بناء الأهرام تحت السياط ….ولكني أجد نفسي مندهشاً حين أقرأ ما قاله الوزير (النحّاس باشا) لمليكه حين اشتكى له الأخير (ظلم) الصحافة و (افتراءاتها) في نشر الفضائح….قال له بكلّ برودة المؤمنين باستقلالية القضاء: كان عليك أن تشتكي الأمر للمحاكم يا جلالة الملك، دون أن توقف الصحف بشكل تعسّفي وغير قانوني.
إنها أول إشارة لمبدأ فصل السلطات في بلاد العرب، وأوّل تبشير بمقولة :الملك الذي يملك ولا يحكم على الطريقة الانكليزيّة والسويديّة الحديثة، ضمن ما يعرف بالدستور الذي مازالت تظنّه شعوبنا – غير العارفة بقوّة الحبر والأوراق- ….مجرّد حبر على الورق.
هل أعود وأكرّر لمن لم يفهمني جيّداً أنّي لست من أنصار الملكيّة ولا الجمهوريّة ، بل من أنصار القانون الذي يعلو ولا يعلى عليه، من الذين يتمنّون أن يستوي في قفص الاتهام ابن السيدة مع ابن الجارية… بل لماذا (الجارية) أصلاً.!.
هكذا استطاعت الماكينة الإعلاميّة العربية -على الطريقة (الغوبلزيّة ) في العصر النازي – أن تقنع البسطاء بأنّ الخليجيين يسرقون أموالهم و(حقوقهم) في آبار النفط التي تبعد عنهم مئات و آلاف الكيلومترات …وأنّ حقوقكم ليست هنا، بل هناك….في الخليج الذي يسمّونه فارسيّاً أو عربيّاً …حسب ما تقتضي الحاجة….ولمجرّد أنّنا نرفع شعار العروبة.
ذكّرني هذا بما يعرف بسياسة “الحطيئة”، أي ذاك الشاعر العربي المخضرم الذي امتهن الهجاء لمن لم يغدق له العطاء …والسكوت لمن أعطى ….أمّا المديح فلمن آثره على نفسه وبالغ في السخاء.
من أي طينة خلق هؤلاء السماسرة من (الجملكيين) – هو نحت بين الجمهوريين والملكيين- حتى يمنعوا على شعوبهم ما أحلّوه على أنفسهم،ويلحوا على شعوبهم أن تطلب فواتير رفاهيتهم من حكّام الخليج.
أيّ عروبة هذه التي تشبه سرير (بروكلوس)، اليوناني القديم الذي يطيل أو يقصّ من سيقان ضيوفه حسب السرير مقاس الذي ارتآه في بيته…!….عربي حين تغيثني و أعجميّ حين لا تستجيب…!..أخي حين تسدّد فاتورتي، وعدوّي حين تمتنع عن الأمر!.
لقد احتالوا على العروبة والتاريخ والجغرافيا والعرق والدين…ولكن,هل بإمكانهم الاحتيال على الضمير والمنطق,كم من رموز (الممانعة والمواجهة والصمود والتصدّي) أكثر مالا وأزلاما وبذخا من الذين وهبهم الله ثروة بالحقّ وعليهم أن يتصرّفوا فيها بالحقّ …والأمر موكول إلى صاحب الحقّ المطلق في نهاية المطاف.
شاهدت بأم عيني رعايا من بلدان نفطيّة وخليجيّة – أي من ذوي الاقتصاد الريعي- يعملون كأجراء وموكّلين لدى (مواطنين) من دول الممانعة والصمود والتصدّي …بل لدى قياديين من هذه المنظومة التي ضحكت على ذقوننا كثيرا…بل ولم تتصدّ لأيّ بعوضة حطّت على أنف عدوّ افتراضي.
سألت صديقي (الثورجي) المغرّر به:
-ما مفهومك للكرامة الوطنية؟
– أن تعيش كريماً، مرفّها مع أسرتك في بلادك.
-طيّب، ألا ينطبق هذا على بعض بلاد الخليج (التي لم أزرها شخصيّا).
– إنها أنظمة ترشي شعوبها يا صديقي…
عجباً، إذا كانت هذه هي الرشوة، فبارك الله بالراشي والمرتشي ....وجعل مثواهما الجنّة التي تجري من تحتها الأنهار.
أمّا الأنظمة الشمولية فترشي شعوبها و (شبّيحتها) بوعود وعقود عمل خليجيّة، كذلك ترشي الشعوب حكّامها بالهتافات التي سوف تنقضّ عليها…ويرشي الخليجيون أنظمتنا مقابل السكوت وبعض المسايرة ..كما يرشي الزوج الخائن امرأته بالهدايا وكلمات الغزل في ساعات الحرج …وقس على ذلك في كل شيئ.
أمّا الخصومة المجّانيّة مع الخليج فقد بدأت تندثر وتخفّ هذه الأيام، لا بسبب الملبس والمشرب واللهجة والعادات…بل بفضل المواقف وإن تباينت، لأنّ التعميم لغة الحمقى، ولا يجب أن نضع الجميع في سلّة واحدة، فالبحريني ليس بالسعودي، ولا الكويتي، ولا الأماراتي ولا العماني ولا القطري، كما أنّ بلاد البترول تختلف من فينزويلا إلى ليبيا مرورا باسكندنافيا، ….ثمّ أنّ بلاد الشام والمغرب العربي تختلف بين سوريا ولبنان من جهة كما تختلف تونس عن ليبيا و الجزائر والمغرب.
فيا سكّان الخليج، أنا أحدّثكم من منطقة المحيط….ولم أزر يوماً بلادكم…تعالوا إلى بلادي، لأجل السياحة والنهوض باقتصاد شعبي ….وهكذا تكون المعادلة متكافئة والأخوّة صادقة وبعيدة عن التشنّج والشعارات …..رغم تحفّظاتي الكثيرة حول العيش في بلادكم….وحتى في بلادي.
أيها العرب، اتّعظوا بقول علي بن أبي طالب: (الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها)…. ولا تكونوا كالصيصان التي لا تفقأ إلاّ عيون
أشقّائها .
أين هتلر الذي كان يصرخ في شعبه بكل ما أوتي من حبال صوتيّة وأبواق إعلاميّة: (ألمانيا النازيّة فوق الجميع )…أطاح التاريخ والحلفاء بهتلر، ثمّ حطّم أحفاد (هيغل) و(غوته) الجدار الذي كان يقسمهم إلى نصفين مثل سكّين ظالم، انضمّوا إلى أشقّائهم في أوروبا، تكاملت اقتصادياتهم دون حقد أو طمع، ثمّ دفنت الضغائن مع محرّضيها إلى الأبد.
ألمانيا التي كانت شرقيّة تستغفلها الأنظمة العربيّة من تلك المحسوبة على اليسار قصد تزويدها بحاجاتها من الأدوية والضرورات المعيشيّة لشعوبها على شكل هبات …وغربيّة تبيع لنفس الأنظمة وأزلامها سيارات المرسيدس وأدوات الرفاهيّة على حساب كرامة تلك الشعوب وحقوقها في الغذاء والدواء.