أوباما وإيران: تسوية سياسية أم ضربة عسكرية؟ (مصطفى اللباد)
مصطفى اللباد *
تفصلنا أقل من ثلاثة أسابيع عن انتخابات الرئاسة الأميركية التي تبدو حاسمة لتوازنات المنطقة، أو فلنقل على وجه الدقة، ثلاثة أسابيع تفصلنا عن فوز أوباما للمرة الثانية برئاسة الدولة الأعظم في النظام الدولي. لا يتوقع أن يتغير مسار قضايا الشرق الأوسط الشائكة في هذه الأسابيع الثلاثة، بل ستراوح مكانها انتظاراً لهذا الاستحقاق الكبير، وما سيترتب عليه من اتجاه للسياسة الأميركية. في حال فوز رومني بالرئاسة ـ وهو أمر مستبعد لاعتبارات مختلفة – يتوقع أن تعمد واشنطن إلى انتهاج سياسات مشابهة لتلك التي اعتمدتها في عصر بوش الابن، التدخل العسكري في المنطقة لتحييد الخصوم وإعلان «انتصارات» لا يلبث أن يتبين أنها «ارتكابات»، سواء بحق الشعوب أو ضد المصالح الأميركية ذاتها. أما في حال فوز أوباما فلا يتوقع تغيير كبير عن سياسته في السنوات الأربع الماضية، لأن المصالح الوطنية الأميركية وتوازنات مجموعات الضغط المختلفة داخل النظام السياسي الأميركي ستبقيان الأساس في توجيه السياسة الخارجية الأميركية. ومع ذلك ستتيح السنوات الرئاسية الأربع فرصاً جديدة أمام أوباما لتنفيذ سياساته، بسبب تعاظم قدرته عندها على مواجهة الضغوط عموماً، والإسرائيلية خصوصاً.
اضطر أوباما أن يبتلع توسع المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مثلما رضخ للابتزاز الإسرائيلي في ما يخص الملف النووي الإيراني، بحيث أعلن أن الخط الأميركي الأحمر يتمثل في منع إيران بكل الوسائل من امتلاك السلاح النووي. ومع اختلاط مشاكل المنطقة من القضية الفلسطينية التي تعد لب الصراع العربي – الإسرائيلي، إلى التداعيات الجيو-سياسية «للربيع العربي»، والحفاظ على المصالح الأميركية في الخليج والمنطقة، تبدو إيران في موقع خاص من هذه القضايا والمصالح.
تعرقل طهران مشروع الشرق الأوسط الجديد بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن حلفائها الممتدين من العراق وحتى جنوب لبنان، وهذه العرقلة تجعل لإيران أهمية خاصة في الاستراتيجية الأميركية. يتواجه كلا المشروعين الأميركي والإيراني في المنطقة دون أن يستطيع أي منهما تحييد الآخر وتحالفاته، ولذلك وبالرغم من تنامي مؤشرات التصعيد بين الولايات المتحدة وإيران وبروز احتمالات القيام بعمل عسكري ضد منشآت إيران النووية، فإنه لا يمكن نظرياً استبعاد احتمال وصول كل من طهران وواشنطن إلى تفاهمات تشمل السماح لإيران بدور إقليمي كبير مع ضمان المصالح الأميركية في المنطقة. واحتدام الأزمة النووية الإيرانية ناجم عن هذين العنصرين: تمسك إيران بتخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية باعتباره حقاً من منظور القانون الدولي، وإصرار واشنطن على معارضة هذا التخصيب لأسباب سياسية مرجعها اختلاف واشنطن مع أيديولوجيا النظام الحاكم في طهران وتوجهاته الإقليمية. وبسبب موازين القوى الدولية الراهنة وهيمنة قطب أوحد على مقدرات النظام الدولي الحالي، تبدو إيران متصادمة مع النظام الدولي في طموحاتها النووية والإقليمية.
تقلصت خيارات واشنطن النظرية حيال إيران إلى احتمالين فقط: التسوية السياسية أو العمل العسكري، ولذلك ينزوي سيناريو التسوية السياسية بين الطرفين بفعل الابتزاز الإسرائيلي كما حدث خلال السنوات الأربع الأولى من رئاسة أوباما، فيما تصدر سيناريو التصعيد العسكري ضد منشآت إيران النووية وسائل الإعلام واهتمامات مراكز الأبحاث على مدار هذه السنوات. وتفيد تقديرات الموقف للنظام الإيراني بأنه من غير الممكن تغييره من الداخل حالياً، وربما تكون حكومة علمانية في طهران أكثر ميلاً حتى إلى امتلاك قدرات نووية. انهار سيناريو الاحتواء المزدوج تجاه إيران بسبب سياسات بوش الابن في المنطقة، فقد كانت واشنطن – لا غيرها – هي الطرف الذي حيد الأخطار على حدود إيران الجنوبية عبر إطاحة حركة طالبان في العام 2001. وكانت واشنطن أيضاً هي الطرف الذي قدم خدمة جليلة لطهران بإطاحة النظام العراقي السابق العام 2003، فصار حلفاء طهران يجلسون لأول مرة منذ تأسيس العراق في مقاعد السلطة ببغداد. وهكذا سقط خيار الاحتواء من قائمة البحث نهائياً، خصوصاً أن واشنطن اضطرت للدخول في تفاهمات ضمنية مع طهران، إبان قيامها بالعمل العسكري في أفغانستان والعراق، فضلاً عن الترتيبات الأمنية في كلا البلدين التي أعقبت الاحتلال. وهكذا كرّس احتلال أفغانستان والعراق إيران قوة إقليمية عظمى في المنطقة، لا يمكن تجاهل مصالحها عند رسم منظومة جديدة للمنطقة.
أثبتت إيران – من ناحيتها – وعلى مدار ثلاثة عقود من الزمان أنها تصبح أكثر عدائية عندما يتم إقصاؤها، وأن الطريقة الأفضل لواشنطن في التأثير بحسابات صانع القرار فيها تتمثل في دمجها في هياكل المنطقة الأمنية بدلا من إبقائها خارجها. ولأن تغيير النظام غير ممكن من الداخل، وبسبب فشل سياسة الاحتواء فشلاً مدوياً، لا يملك الموقف الأميركي من خيارات سوى التأرجح في المفاضلة بين الحل العسكري أو التسوية السياسية. تملك إيران مزايا فريدة ـ من منظور الأمن القومي الأميركي – فسكانها يمثلون 1% فقط من سكان العالم، ولكنها بالمقابل تمتلك 10% من الاحتياطي النفطي المؤكد عالمياً، وهي رابع أكبر منتج للنفط في العالم. ولا تقتصر أهمية إيران عند ذلك فقط، فهي تملك في الوقت ذاته 16% من الاحتياطي المؤكد من الغاز الطبيعي عالمياً، وهو ما يضعها في مرتبة ثاني أكبر منتج للغاز في العالم بعد روسيا. ولأن إيران تنتج 6,2 ملايين برميل من النفط يومياً، تستهلك منها 3,6 ملايين برميل يومياً، فإنها تستطيع تصدير 2,6 مليون برميل يومياً. ووفقاً لهذه الأرقام، فمن الممكن أن تنتج إيران المستوى نفسه من الإنتاج اليومي الحالي للنفط مدة تزيد عن أربعين عاماً، إذ تبلغ احتياطاتها 130 مليار برميل من النفط. ومن الممكن لإيران أيضاً أن تنتج أيضاً 500 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً لمدة خمسة وخمسين عاماً، على حساب احتياطاتها من الغاز الطبيعي والبالغة 27 تريليون متر مكعب.
تقوم التسوية السياسية المفترضة بين إيران وأميركا ـ منطقياً- على قبول أميركي لأهداف إيران الإقليمية في مقابل تنازلات إيرانية على صعيد الإقليم، مع إدخال تعديلات هامة على سياستها الخارجية. لا تحتاج إيران في الحقيقة إلى واشنطن لبسط نفوذها في المنطقة، فهي قامت بذلك عبر تحالفاتها الإقليمية في ظل وجود عسكري أميركي كثيف ودون موافقة أميركية. ولكن بالمقابل لا يمكن لإيران، أو غيرها من القوى الإقليمية في أي منطقة جغرافية، أن تلعب دوراً إقليمياً معترفاً به دولياً دون الضوء الأخضر الأميركي. كما أنه لا يمكن في ظل النظام الدولي الأحادي القطبية تصور أن يعترف العالم لدولة بامتلاك التكنولوجيا النووية من دون الضوء ذاته وباللون نفسه والمصدر عينه. صحيح أن أوراق إيران الإقليمية الممتازة تمكنها من عرقلة المشاريع الأميركية، وهو ما أثبتته طهران في السنوات العشر الماضية، على طول المنطقة الجغرافية الممتدة من غرب إيران وحتى الأراضي الفلسطينية المحتلة، بخليط مدهش من استثمار التخبط الأميركي والمداورة الاستراتيجية والدهاء الإيراني. ولكن وبالرغم من كل ذلك فإن صانع القرار في طهران الطامح دوماً إلى لعب دور إقليمي، يعلم قبل غيره حدود القوة الكونية التي تحبس طموحه التاريخي تحت أسقف معينة. ربما تكفي الأوراق الإقليمية الممتازة لعرقلة الأهداف الأميركية في المنطقة، ولكنها لا تكفي للمحاصصة الإقليمية دون تفاهم مع واشنطن، كما أن ذلك النفوذ الإقليمي لن يجد ترجمته إلى مصالح إقليمية معترف بها إلا ضمن إطار تفاهم واسع المدى معها. ومع ذلك نتصور أن أهم الشروط الإيرانية للدخول في تسوية سياسية مع الولايات المتحدة الأميركية ستكون التالية:
1. الاعتراف بشرعية النظام الإيراني القائم.
2. وقف كل أشكال العقوبات الأميركية والتصرفات المعادية ضد إيران، بالتزامن مع استجابة إيرانية متدرجة لمتطلبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
3. الإفراج عن الأرصدة الإيرانية المجمدة في البنوك الأميركية.
4. احترام «المصالح الوطنية الإيرانية» في العراق.
5. احترام حق إيران بالحصول غير المقيد على التكنولوجيا النووية السلمية (الوصول إلى النموذج الياباني).
6. الاعتراف بالمصالح الأمنية الإيرانية في المنطقة (الاعتراف لها بدور إقليمي).
يمكن القول – ببعض الاطمئنان – إن المعرقل الأساسي للتسوية السياسية بين واشنطن وطهران هي تل أبيب، ومعها المجمع الصناعي – العسكري الأميركي، أما المؤيد الأساسي لهذه التسوية، فهو لوبي النفط الأميركي التواق إلى السيطرة على النفط الإيراني، وإلى نقل أسهل لثروات بحر قزوين النفطية عبر إيران. باختصار يبدو صعود خيار التسوية وهبوطه مرتبطاً أساساً بالداخل الأميركي وتوازنات القوى بين أجنحته؛ وليس فقط بالطرف الإيراني الراغب بتسوية تضمن له القيادة الإقليمية في المنطقة. توخت إيران دوماً أن تفصل بين العلاقات الإيرانية – الأميركية والتنافس الإيراني – الإسرائيلي، فالتقارب في المصالح الجيو-سياسية بين إيران وأميركا يبدو معلوماً، مثلما هو التنافس الإقليمي بين طهران وتل أبيب كذلك. لذلك فقد برعت طهران، حتى في أحلك الظروف، في استخدام قنوات خلفية متنوعة للحوار مع واشنطن بهدف التأثير على خيارات التصعيد من بعض الأطراف داخل الإدارة الأميركية. ولعله من المفيد ملاحظة أن إيران لا تعادي الولايات المتحدة الأميركية لأغراض أيديولوجية حصراً، بل تسعى بالأساس إلى إجبارها على الجلوس إلى مائدة المفاوضات للاعتراف بنفوذها في المنطقة، وذلك عبر تكبيد حلفاء واشنطن خسائر إقليمية وسياسية متتالية. وإذا تصورنا مشهد الشرق الأوسط السياسي مثل صالة قمار ـ وهو كذلك إلى حد كبير – وأسقطنا هذا المشهد على السياسة الإقليمية الإيرانية، تبدو الأخيرة مثل لاعب راكم القطع البلاستيكية من أفغانستان إلى العراق إلى سوريا (ما زال نظامها الحليف لإيران في مواقع السلطة حتى اللحظة) ومنها إلى لبنان، بعد أن راوغ خصومه المحليين والإقليميين في محطات معلومة. يبقى فقط لتظهير الفوز الإيراني أن يتمكن اللاعب من استبدال القطع البلاستيكية بنقود من البنك، والأخير هنا هو أميركا، القطب الدولي الأوحد.
لا يعني فوز أوباما المتوقع أن الخيار سيرسو بالضرورة على تسوية سياسية أميركية – إيرانية، إلا أن محاذير الضربات العسكرية للمنشآت النووية الإيرانية ستأخذ مكانها في اعتبارات صانع القرار الأميركي. هنا للمفارقة تبدو إيران للمرة الأولى في تاريخ العلاقات الأميركية – الإيرانية سائرة في اتجاه تحبيذ فوز ديموقراطي بالرئاسة، وهي التي امتلكت تاريخياً وتقليدياً علاقات راجحة مع الحزب الجمهوري وتشابكاته في لوبي النفط الأميركي.
تفصلنا ثلاثة أسابيع عن بداية صراع من نوع جديد بين المحورين ذاتيهما، الأميركي والإيراني، ومرد الاختلاف هنا ليس جوهر الصراع، بل ما يعتمل في المنطقة من تغيرات بسبب «الربيع العربي» من ناحية وقدرة أوباما على التصريح أكثر بمصالح أميركا في المنطقة وعلى الصمود أمام الضغوط الإسرائيلية لأجل تحقيقها. في هذه البيئة الإقليمية الأكثر تعقيداً لا يمكن استبعاد سيناريو التسوية السياسية بين واشنطن وطهران من قائمة الاحتمالات، وهنا فقط ينبغي في ما يخص العلاقات بين طهران وواشنطن التشكيك في الصلاحية المطلقة للحكمة الفارسية القائلة: «الحب والبغض يتوارثان من الآباء للأبناء».
*مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية – القاهرة.
صحيفة السفير اللبنانية