أوباما وقوة أميركا الناعمة
يفصلنا عام واحد عن انتهاء الولاية الثانية والأخيرة للرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي أثار الجدل وملأ الدنيا وشغل الناس في الشرق الأوسط والعالم. يعتقد البعض في أميركا والعالم أن الرئيس الأميركي الأسمر النحيل، المبتسم الضحوك، قد أعاد الاعتبار للقوة الأميركية الناعمة وأفلح بأدنى قدر من الخسائر في إخراج أميركا من أوحال المنطقة تمهيداً لإعادة التموضع والتركيز شرقاً في مواجهة الصين البازغة. وعلى وجاهة ذلك الافتراض، يبدو الأمر صعباً عند تقييم ولايتيه الرئاسيتين وفقاً لنظرية «القوة الناعمة» الرائجة، بسبب صعوبة القياس العلمي للنجاح أو الفشل بحسب النظرية المذكورة. وبرغم ذلك، تبدو سياسات أوباما الخارجية حيال المنطقة والعالم مكتملة المعالم والقسمات، بحيث يمكن استخدامها كمعيار لقياس النجاح المفترض لأوباما من عدمه. وإذ أمضى أوباما سبع سنوات يجرب خياراته، من مناشدة العالم الإسلامي من جامعة القاهرة العام 2009 ومحاولاته الضغط الناعم من دون فائدة على الديكتاتوريات الحاكمة في الشرق الأوسط باتجاه نظم سياسية أكثر تعددية، إلى تعثره الفاضح في دفع عملية التسوية الفلسطينية ـ الإسرائيلية، وانتهاءً برهانه الفاشل على جماعة «الإخوان المسلمين» أثناء انتفاضات «الربيع العربي». برغم تشكيل «التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب» بقيادة أميركا قبل أكثر من عام، فما زال «تنظيم داعش» يتمدد على مساحات معتبرة من أراضي سوريا والعراق. وفي حين ينتظر حلفاء واشنطن التقليديون في المنطقة موعد خروج أوباما من المكتب البيضاوي بفارغ الصبر، تسابق إيران الزمن لضمان تمريره الاتفاق النووي الناجز في فيينا عبر الكونغرس خلال الشهر المقبل، حتى وإن تطلب الأمر استخدامه «الفيتو» الرئاسي ضد أغلبية معارضة محتملة للاتفاق في الكونغرس. يقتضي الإنصاف القول إن أوباما أفلح في تنويع علاقات بلاده الإقليمية عبر الاتفاق النووي مع إيران، ونجح إلى حد ما في إدارة أزمات المنطقة. لكن الأكثر أهمية من الإنصاف ملاحظة أن كلا الأمرين: التوازنات الإقليمية وإدارة الأزمات، يتعلقان بمفاهيم الجيو ـ سياسة أكثر بكثير من ارتباطهما بمفاهيم «القوة الناعمة» ذائعة الانتشار في الأدبيات السياسية حول العالم.
أوباما وبوش وأزمات المنطقة
ما زالت أزمات المنطقة المخضبة بالدم من ليبيا إلى سوريا إلى اليمن مشرعة على المزيد من الدم، برغم حديث التسويات الإقليمية الرائج. لم ينجح أوباما في أي قضية من قضايا المنطقة سوى في حل أزمة الملف النووي الإيراني سلمياً، الذي يعد إنجازه الخارجي الأبرز في فترتيه الرئاسيتين. ومن حسن حظ أوباما أن المقارنة تنعقد زمنياً بينه وبين سلفه الرئيس السابق جورج دبليو بوش، في هذه الحالة فقط يخرج أوباما على قلة إنجازاته رابحاً. أفرط بوش في استعمال الآلة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، حيث خاض حربين ضاريتين في أفغانستان أولاً والعراق ثانياً. كما أن تلويحه المتواصل بتوجيه ضربات عسكرية إلى دول أخرى في المنطقة والعالم، ساهم إلى حد كبير في عسكرة العلاقات الدولية. أفلحت إدارة بوش الإبن في الهبوط بالرصيد المعنوي والرمزي لأميركا إلى ما دون الصفر، بحيث اختزلت سياسته أسباب القوة الأميركية إلى مجرد استعمال الأسلحة الفتاكة المتطورة من دون القدرة على تحقيق مكاسب سياسية واضحة. فقط في هذا الإطار يمكن رؤية نجاح أوباما النسبي مقارنة مع بوش الإبن؛ من حيث امتناعه عن الاستخدام المفرط للآلة العسكرية، لكن أيضاً من دون نجاح يذكر في حل قضايا وأزمات المنطقة. وحتى على صعيد النظم الحاكمة في المنطقة، فلم نشهد تغييرات دراماتيكية نحو الأفضل في دول «الربيع العربي» وخارجها، على ما بشر به أوباما وإدارته، حيث بقيت النظم السياسية الشرق أوسطية على جوهرها الشمولي مع نجاحها في إعادة إنتاج نفسها برغم ضغوطه الناعمة.
أوباما ونظرية «القوة الناعمة»
دشن أستاذ العلوم السياسية الأميركي جوزيف ناي نظرية «القوة الناعمة»، التي دخلت تاريخ العلاقات الدولية من أوسع أبوابه، باعتبارها النظرية الأكثر انتشاراً في المحافل الأكاديمية والسياسية منذ عقد على الأقل. تتحدد مراكز الدول في النظام الدولي طبقاً لنظرية «القوة الناعمة» عبر قياس مجموعة من العوامل الصلبة مثل: القدرات الدفاعية والعسكرية ومؤشرات الاقتصاد والتكنولوجيا والتعاون الدولي، ومجموعة أخرى من العوامل الثابتة مثل المساحة الجغرافية وعدد السكان، فضلاً عن رصد وتحليل خصائص النظام السياسي والمجتمعي للدولة مثل الديموقراطية واللغة والثقافة والتاريخ. وكما يتضح عند جوزيف ناي، فإن عناصر القوة الصلبة مثل القدرات الدفاعية والاقتصادية والتكنولوجيا والتعاون الدولي يمكن قياسها وفقاً لبيانات إحصائية متوافرة يتم جمعها على أسس معلومة، مثلما يمكن التوصل إلى معرفة العوامل الثابتة (المساحة الجغرافية للدول المختلفة وعدد السكان فيها) بعملية بحث بسيطة للغاية على الإنترنت، بينما تستعصي القوة الناعمة على القياس. ومرد ذلك إلى أن العناصر المعيارية مثل خصائص النظام السياسي والمجتمعي، والديموقراطية وجاذبيتها، لا يمكن قياسها وفقاً لبيانات إحصائية، كما أن عامل اللغة وتأثيرها على الرأي العام وتوجيه الرسائل الثقافية حول العالم كعناصر وأدوات للنظرية، تعد أمثلة واضحة على عدم إمكانية القياس المذكور.
تولي نظرية «القوة الناعمة» اهتماماً خاصاً للرأي العام خارج حدود الدولة إقليمياً ودولياً، وطبقاً لجوزيف ناي، فإن الديبلوماسية العامة هي الطريقة التي تدير بها دولة ما قوتها الناعمة، لكنها تعود فتعجز عن تعيين نطاق وقدرات هذه القوة في تغيير الواقع على الأرض. وفي مقابل القوة الصلبة التي تسعى لفرض الأمر الواقع بالوسائل المباشرة والتقليدية؛ فإن القوة الناعمة تروم الوصول لذات الأهداف ولكن عبر الإقناع والتأثير الفكري. وفي حين أن مجال عمل القوة الصلبة المفضل هو الأمر الواقع المحسوس، فإن «القوة الناعمة» تحل في الصور وتتجسد في الرموز. بمعنى أن القوة الصلبة تستعمل القدرات العسكرية والاقتصادية للوصول إلى أهدافها، في مقابل «القوة الناعمة» التي ترتكز أساساً على القيم الثقافية كوسيلة للوصول إلى تلك الأهداف. وفي النهاية، فإن القوة الصلبة تتوجه إلى الحكومات وتتصارع معها، مثلما تتوجه «القوة الناعمة» إلى المجتمع وقطاعاته لاجتذابهم. مرة أخرى يغيب عنصر القياس المعياري المحدد والمعرَّف بدقة. وحتى إذا عرفنا معايير إحصائية محسوسة تدخل في عداد القوة الناعمة مثل أن الولايات المتحدة تُعد أكبر منتج في العالم للأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، وأنها تمتلك وحدها الشطر الأكبر من المواقع على شبكة الإنترنت، وأنها البلد الأول المفضل للمهاجرين من كل أنحاء العالم، فلا يمكن برغم ذلك عقد مقارنة لعناصرها المعيارية مع عناصر القوة الصلبة التي يمكن حسابها بدقة متناهية.
سردية «القوة الناعمة»
تشكل العوامل المذكورة أعلاه مجتمعة الأساس الموضوعي لقوة أميركية ناعمة وغير منكورة لم يخترعها باراك أوباما من العدم، إلا أنه لم يفلح في إبرازها جوهرياً من خلال سياساته في المنطقة والعالم كأساس لقياس نجاحه المفترض أو فشله. ارتكز أوباما في نجاحه الخارجي الوحيد (الملف النووي الإيراني) بالأساس على توازنات القوى الإقليمية، عبر محاولته تنويع تحالفات أميركا الإقليمية وتثبيت اصطفافين إقليميين في مواجهة بعضهما بعضاً لتنساب المصالح الأميركية فيما بينهما. وهي أسس ومفاهيم تتعلق بالجيو – سياسة أكثر بكثير من ارتباطها بمفاهيم «القوة الناعمة،» تلك التي يُنسب لأوباما نجاحه في تعزيزها في المنطقة وحول العالم. لذلك سيخرج باراك أوباما من مكتبه البيضاوي والبيت الأبيض بعد عام من الآن، ورصيده من النجاحات محدود، سواء في المنطقة أو في أميركا ذاتها. وحتى الاتفاق النووي مع إيران غير مضمون البقاء من بعده، بسبب مجموعات الضغط التي تعارض أي اتفاق مع إيران بغض النظر عن مضمونه.
يتحكم إطاران في قرارات أي رئيس أميركي، سواء كان أوباما أو غيره، وهما إجراء التوازن بين مجموعات المصالح النافذة في بلاده من ناحية، وإعادة تثبيت مصالح أميركا حول العالم من ناحية أخرى. هكذا يرتبط التوازن الداخلي الأميركي بميكانيزمات السيطرة الداخلية (اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً) والعمل وفقاً لمقتضياتها، أما تثبيت المصالح حول العالم فيرتكز بالأساس على حقائق الجيو ـ سياسة المعتمدة أميركياً منذ قرن على الأقل عند رسم السياسات الخارجية، وهي سياسة لم يخرج أوباما بالطبع عن إطاريها المعلومين طيلة فترتيه الرئاسيتين. ربما تكون تجربة أوباما الرئاسية ومحدودية نتائجها الفعــلية، دافعاً لإعادة النظر في فرضــيات جوزيف ناي عن «القوة الناعمة»، ليتم توصيفها بما يليق بها باعتبارها سردية متماسكة وليست نظرية بأي حال من الأحوال!
صحيفة السفير اللبنانية