أي دور للنظام العالمي في نشر الكراهية للغرب؟
ثمة علاقة وثيقة الصلة بين سياسات القوي الكبري في النظام العالمي، وتوفير بيئة حاضنة لنشر الكراهية في المنطقة العربية، إذ انطوت هذه السياسات علي ازدواجية واضحة في التعامل مع قضايا المنطقة ومحاباة دولة الاحتلال الإسرائيلي، ودعم الأنظمة الاستبدادية، وتجاهل مطالب الشعوب، الأمر الذي أدي إلي تنامي حجم الغضب العربي، وتعمق كراهيته تجاه الآخر الغربي. وفي هذا السياق، تحاول هذه المقالة الإجابة علي سؤالين محوريين، هما: كيف أسهم النظام العالمي في صناعة الكراهية في المنطقة العربية تجاه الغرب؟، وما هي التغييرات التي يمكن أن تسهم في تخفيف حدة هذه الكراهية؟.
تهتم المقالة تحديدا بالعوامل أو المحددات ذات العلاقة بالنظام العالمي، وسياسات الغرب ومواقفه تجاه قضايا المنطقة العربية في تغذية ظاهرة الكراهية من جهة، وأثر هذه العوامل والسياسات علي المستوي الداخلي، وعلي مستوي العلاقة مع الآخر الخارجي من جهة أخري، فضلا عن التغييرات التي يمكن أن تسهم في إيجاد علاقة غربية – عربية تقوم علي قدر أكبر من التوازن بين مصالح الطرفين، وتقديم معالجات حقيقية للمشكلات الرئيسية بالمنطقة، ومن ثم تسهم في الحد من هذه الكراهية.
أولا- المصالح الغربية بالمنطقة ومصادر تغذية الكراهية:
تعد الازدواجية التي تتسم بها السياسة الأمريكية، والغربية عموما، تجاه قضايا المنطقة العربية سببا أساسيا من أسباب الكراهية، والغضب الشعبي تجاه الغرب والولايات المتحدة تحديدا.
فعلي المستوي الخطابي، تنادي الحكومات الغربية باحترام حقوق الإنسان والديمقراطية، وحل مشكلة الشرق الأوسط. إلا أنها علي مستوي الممارسات، ظلت سياساتها تدور حول ثلاثة أهداف رئيسية، هي أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبقاء تفوقها العسكري النوعي علي العرب، وضمان تدفق النفط بأسعار مناسبة، وعدم وقوعه تحت سيطرة حكومات مناوئة للغرب، وضمان بقاء الحكومات العربية الحليفة، وعدم وصول قوي وطنية للحكم تحظي بشرعية شعبية حقيقية، خوفا من قيامها بتعديل سياساتها مع الغرب.
وقد ظلت هذه الازدواجية منذ نشأة الدولة العربية بعد الاستقلال، وحتي ما بعد قيام الثورات الديمقراطية في نهاية .2010 وبرغم تبني الإدارة الأمريكية حل الدولة الفلسطينية المستقلة بعد أحداث سبتمبر 2001، فإنها لم تهتم بمعالجة جذور المشكلة. بل وراحت إدارة الرئيس جورج بوش الابن تتحدث عن إنشاء منطقة تجارة حرة بين أمريكا والشرق الأوسط، وطالب بوش في 9 مايو 2003 العرب، فيما عرف بـ “خريطة الطريق”، بأن يتحلوا “بالموضوعية”، ويلتحقوا “بالفرصة التاريخية” لإنهاء الصراع علي “أسس اقتصادية”، مضيفا ثلاثة شروط عمقت الصراع من نواح مختلفة: إنهاء المقاومة (التي صارت توصف بالإرهاب)، وتحقيق الديمقراطية داخل القيادة الفلسطينية عبر انتخابات تحت الاحتلال (وهذا ما يتناقض مع فكرة الانتخابات ذاتها)، والاعتراف بدولة الاحتلال كدولة يهودية (بمعني تعميق التمييز والعنصرية علي أساس ديني)(1).
الواقع أن هذه المواقف الأمريكية تتجاهل عدة مصادر حقيقية لحالة الغضب الشعبي تجاه الغرب، وهي مصادر لا علاقة لها -كما ادعي بوش الابن ذات يوم- بمعاداة قيم الحرية والديمقراطية:
1- أول هذه المصادر هو تجاهل جوهر الصراع العربي – الصهيوني، وهو الاحتلال، وقضية اللاجئين، وبناء المستعمرات علي أنقاض قري العرب ومدنهم. إن الصراع ليس مجرد قضية “أراض متنازع عليها”، كما وصفته إدارة كلينتون إبان مرحلة أوسلو. ودولة الاحتلال هي الدولة الوحيدة في العالم التي بها قوانين عنصرية ضد كل ما هو غير يهودي، وتمارس سياسات عنصرية ضد نحو خمس سكانها من المسلمين والمسيحيين(2). كما أنها الدولة الوحيدة التي تقنن أمورا عدة تنتهك اتفاقية جنيف، وكل المواثيق الحقوقية الأخري مثل التعذيب، واستهداف المدنيين العزل، وهدم المنازل، وقصف المستشفيات، وعربات الإسعاف، وبناء طرق التفافية لليهود فقط، وإنشاء جدار عازل، وحصار أكثر من مليون إنسان في غزة، وغير ذلك.
كما لا تخترق دولة الاحتلال المواثيق والقرارات الدولية فقط، وإنما تنتهك أيضا القوانين الأمريكية، مثل قانون المساعدة الخارجية لعام 1961، وقانون تصدير السلاح لعام 1976، حيث يمنع الأول استخدام السلاح الأمريكي إلا للأمن الداخلي، والدفاع عن النفس، بينما يحظر الأخير إعادة تصديره لطرف ثالث. ومن الثابت أن دول الاحتلال تستخدم السلاح الأمريكي ضد المدنيين، وصدرت في السابق تكنولوجيا السلاح الأمريكي للصين، وجنوب إفريقيا، وإثيوبيا، وغيرها(3).
2- أما المصدر الثاني للغضب، فهو حقيقة أن الولايات المتحدة هي أكبر حليف وداعم لدولة الاحتلال والعنصرية، ومن ثم فهي شريكة لها في الاحتلال عند جل العرب. وقد استخدمت أمريكا منذ عام 1972 وحتي 2011 حق الفيتو نحو 55 مرة لحماية الإسرائيليين من الإدانة بمجلس الأمن، أو اعتراضا علي مقترحات ذات علاقة بمشكلة الشرق الأوسط(4). كما كتب الرئيس الأسبق جيمي كارتر – في نيويورك تايمز بتاريخ 21 أبريل 2002 -أن المساعدات الأمريكية لإسرائيل تقدر بنحو 10 ملايين دولار يوميا(4).
وبينما تدعم الولايات المتحدة دولة الاحتلال دبلوماسيا، وعسكريا، واقتصاديا، وتجاريا، فإنها دعمت قرارات للأمم المتحدة لإنهاء الاحتلال، أو وقف الصراعات بمناطق أخري (تيمور الشرقية، ورواندا، والكويت، والبوسنة والهرسك..). كما أوقفت أمريكا مد مناطق معينة بالسلاح لوقف الصراعات، ولم تفعل ذلك مع الإسرائيليين والعرب(6).
3- المصدر الثالث هو ادعاء دوائر غربية كثيرة، رسمية وغير رسمية، بأن الرفض الشعبي هو سبب فشل مبادرات التسوية، وأن بعض الأنظمة العربية أكثر “اعتدالا” و”ليبرالية” من شعوبها. ومن ثم، فإن هذه الدوائر تري الحل في إعادة تنشئة هذه الشعوب لتتقبل ما يقبله بعض حكامها ومثقفيها من خلال حملات علاقات عامة، وتعديل مناهج التعليم، ووسائل الإعلام. وهذا ادعاء غير صحيح لسبب بسيط، هو أن العرب لم تُعرض عليهم حلول شاملة وعادلة منذ قيام دولة الاحتلال، حلول تنهي الطابع العنصري والتوسعي لدولة الاحتلال، كما فعل البيض في جنوب إفريقيا. وفي المقابل، سارت منظمة التحرير الفلسطينية وراء مبادرات تسوية، وقدمت تنازلات عدة، غير أن هذه المبادرات لم تثمر شيئا لتعنت الإسرائيليين، ودعم الأمريكيين لهم(7).
4- أما المصدر الرابع والأخير، فهو الخلط بين الإرهاب والمقاومة، وتجاهل حقيقة أن مقاومة الاحتلال ليست إرهابا، وإنما هي دفاع مشروع عن الذات، وعمل مشروع في كافة المواثيق الدولية والأعراف الإنسانية، وتشبه ما قام به الأوروبيون ضد النازي، والأمريكيون ضد الإنجليز، والسود ضد البيض بجنوب إفريقيا.
تلك المصادر، وغيرها، هي التي أوجدت مشاعر الغضب والإحساس بالمهانة من كل السياسات الأمريكية وآثارها في الشارع العربي، وهي ذاتها التي جعلت الكثير من الشعوب في كافة أنحاء العالم (بل وداخل الولايات المتحدة ذاتها والدول الغربية) تقف ضد سياسات الولايات المتحدة في مظاهرات مليونية شهدتها الكثير من المدن الكبري في العالم. ومن هنا، فالحل عند الأمريكيين من خلال الكف عن الازدواجية، والعمل علي إيجاد سياسات تحافظ علي مصالح الغرب بالمنطقة، وتعالج جذور مشكلة فلسطين معالجة شاملة وعادلة في الوقت ذاته.
ثانيا- مواقف الغرب من الديمقراطية والثورات العربية:
يمكن القول، بداية، إن حالات الانتقال الديمقراطي في العقود الأربعة الماضية أظهرت أهمية وجود عامل خارجي مؤيد للانتقال، أو علي الأقل غير ممانع له. وباللجوء إلي المقارنة، يمكن ملاحظة أن الولايات المتحدة حسمت علاقاتها مع دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية، بينما ظلت تدعم الحكومات العربية المستبدة.
ففي شرق أوروبا، ساعدت أمريكا والغرب القوي الديمقراطية في إطار مواجهتها للشيوعية، وشكل هذا الدعم عاملا أساسيا للنجاح، وذلك بالطبع بجانب رفع الهيمنة السوفيتية، وإلغاء مبدأ برجينيف. ومثلت اتفاقيات هلسنكي، الصادرة عن مؤتمر الأمن والتعاون (1975)(8)، أرضية مشتركة استندت إليها قوي الإصلاح لإضعاف شرعية أنظمة الحزب الواحد، وتمهيد الطريق أمام بدء التحول الديمقراطي. وقد تضمن الإعلان عشرة تعهدات متبادلة، هي: المساواة في التمتع بالسيادة، والامتناع عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها، وعدم انتهاك حدود الدول، ووحدة أقاليم الدول، والتسوية السلمية للمنازعات، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، واحترام حقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، والتعاون بين الدول، والتقيد بالتزامات القانون الدولي.
وفي أمريكا اللاتينية، التي عانت لعقود تدخل الجيوش في السياسة، وقع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، كولن باول في 9 سبتمبر 2001، مع مسئولين من دول منظمة الدول الأمريكية(OAS) “العقد الديمقراطي الأمريكي”(9). وهو الميثاق الذي دشن مرحلة جديدة في علاقات واشنطن بجيرانها الجنوبيين، إذ تخلت واشنطن عن سياسة التدخل، وفرض الهيمنة، وتعهدت بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للآخرين، واحترام مبدأ السيادة. وصارت الديمقراطية، في عبارات قاطعة، حقا من حقوق شعوب المنطقة، وركنا أساسيا للتنمية الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، وضرورة حيوية لحماية حقوق الإنسان، وحقوق العمال.
أما في دولنا العربية، فإن العوامل الخارجية لم تعمل لمصلحة التغيير. فعقب أحداث سبتمبر 2001، تحدث بوش عن ضرورة تغيير الأنظمة الحاكمة بالمنطقة علي أساس أن هذه الأنظمة مسئولة عن قمع الحريات، وزرع التطرف. غير أن الضغوط الأمريكية لم تثمر إلا عن تغييرات شكلية، كتغيير قوانين الأسرة، وتعيين نساء في مناصب سياسية وقضائية، وإجراء انتخابات شكلية. ثم تراجعت الضغوط سريعا علي نحو فُهم منه أن أمريكا لا تريد تغييرا حقيقيا، لأنها تري أن ذلك يهدد مصالحها في المنطقة. وكان السفير الأمريكي الأسبق في مصر، ديفيد وولش، قد لخص هذه المعادلة بقوله “إن أمريكا تعد مصر صديقا.. وأمريكا لا تضع ضغوطا علي أصدقائها”(10).
وقد أدت عوامل كثيرة أخري إلي هذا التراجع، منها تصاعد القوة الانتخابية للإخوان المسلمين في مصر، وفوز حماس بالأراضي المحتلة، دون أن تُظهر هذه الحركات خطابا معتدلا تجاه الغرب بالنظر إلي ازدواجية السياسة الأمريكية بالعراق والأراضي المحتلة. إلا أن العامل الأهم هو نجاح النخب الحاكمة في بعض الدول العربية في إقناع الغرب بخطورة إتمام عمليات التحول الديمقراطي، علي أساس أن ذلك سيفيد الإسلاميين(11).
وهناك حالات أخري اعتمد فيها بقاء الأنظمة العربية علي تجاهل القوي الدولية للانتهاكات الضخمة ضد قوي المعارضة، إلي جانب درجة تماسك الفئة الحاكمة، وسيطرتها علي المجتمع بالطبع. حدث هذا في سوريا عندما قضي الجيش علي الإخوان المسلمين في حماه (1982)، وفي العراق، عندما سحق الحرس الجمهوري ثورات الشيعة والأكراد (1991)، وفي ليبيا أثناء قمع تمرد بالجيش (1993)، وانتفاضات الإسلاميين في الفترة من 1995 حتي .1998 في كل هذه الحالات، لم تتحرك أي قوة دولية لإدانة قمع الأنظمة.
وقد حاول أوباما إعادة بناء علاقات بلاده مع مصر والدول العربية لتجاوز السلبيات التي تراكمت عبر عقود، وجاءت خطبته بالقاهرة (4 يونيو 2009) لأجل تحسين العلاقة بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة، مؤكدا عزمه عقد سلام دائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين(12). لكن هذا الخطاب لم يترجم إلي تعهدات واضحة بدعم الديمقراطية في المنطقة، والتخلي عن دعم المستبدين، نظرا لأن إعادة بناء العلاقات الأمريكية – الإسلامية تتطلب التعامل مع جوهر مشكلات المنطقة، كما تحتاج إلي شركاء عرب جادين في موضوع الديمقراطية.
وفي الواقع، لهذه السياسة الأمريكية جذور ممتدة، فقد اعتمدت أمريكا علي نظامي السادات ومبارك لتوفير الغطاء الضروري لتمرير مصالحها بالمنطقة. ولهذا، تناول تقرير صادر عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي عام 2009 مخاطر انتقال السلطة في مصر، وأكد أنه مع وصول رؤساء آخرين للسلطة، “فلم يعد بإمكان واشنطن الاعتماد علي القاهرة للقيام بمبادرات مرفوضة بشدة من الشعب”(13).
وحسب الباحث الأمريكي جايسون براونلي، فإن مصر صارت حليفا استراتيجيا لأمريكا، منذ توقيع معاهدة السلام، وأن دعم أمريكا لحكام مصر تركز علي ثلاثة مجالات أساسية، هي الدفاع الوطني، واستقرار الاقتصاد، والقمع الداخلي. وأشار إلي أن الولايات المتحدة قدمت مساعدات بنحو 60 مليار دولار لمصر(14)، لهدف غير معلن هو تحقيق مصالح أمريكا بالمنطقة، المتمثلة في الحفاظ علي أمن “إسرائيل”، وتقوية العلاقات مع منتجي البترول بالخليج، ومكافحة “الإرهاب الإسلامي”، وعرقلة قيام الديمقراطية، وتعزيز أسس النظام القائم بحسبانه نظاما ديمقراطيا، وليس نظاما استبداديا بواجهة ديمقراطية(15).
وبرغم إشادة أمريكا بالثورتين المصرية والتونسية، بعد نجاحهما في إسقاط مبارك وبن علي، فإنها لم تساندهما بالأفعال لسبب بسيط هو خوف أمريكا وحلفائها من الديمقراطية التي قد توصل حكومات وطنية منتخبة تعارض مصالح أمريكا وحليفتها إسرائيل بالمنطقة، واحتمال وصول تيارات إسلامية للحكم، وسلوكها سياسات ضد الهيمنة الأمريكية.
وقد عبرت خطابات أوباما عن استمرار الازدواجية الأمريكية تجاه المنطقة. ففي 19 مايو 2011، جاء خطاب أوباما ليؤكد -خطابيا- من جديد وقوف بلاده مع الديمقراطية، وأنه يجب عدم وضع المصالح الأمنية فوق الديمقراطية(16). إلا أن سياساته تجاه المنطقة استمرت كما هي، إذ لم تستخدم المساعدات مثلا للضغط لتحقيق هذا الهدف، كما لم تضغط علي دولة الاحتلال(17).
ولهذا، فإن معالجة علاقات الغرب بالمنطقة العربية تتطلب بنودا مشابهة لإعلان هلسنكي، إلي جانب أنها تتطلب حلا شاملا وعادلا للصراع العربي – الإسرائيلي ينهي الطابع العنصري والإمبريالي لإسرائيل. وتحتاج المنطقة إلي عهد ديمقراطي عربي – أمريكي، يأخذ في الحسبان احترام رغبة الشعوب العربية في اختيار الديمقراطية كنظام حكم بلا تدخل أو ضغط خارجي، وفي عدم تجاهل الإسلام ضمن مرجعيتها العليا لنظمها الديمقراطية المنشودة، مع تأكيد مكونات الثقافة العربية الجامعة للشعوب، علي اختلاف ثقافاتها الفرعية، وبما تحتويه من قيم إسلامية ومسيحية، ومن تنوع ثقافي كردي، وأمازيغي، وإفريقي، وغيره، وتنوع مذهبي، سني وشيعي، واحترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شئونها الداخلية، والتوقف عن دعم أي أنظمة تنتهك حقوق الإنسان، واحترام حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وحق فلسطينيي 1948 في حقوق المواطنة الكاملة، والكف عن دعم الاحتلال.
ثالثا- المواقف الغربية والأمريكية من قضايا عالمية:
يعالج هذا المحور الأخير المواقف الغربية والأمريكية التي تسهم في تعزيز حالة الغضب الشعبي تجاه النظام العالمي، وذلك تجاه ثلاث قضايا محورية، هي العولمة وطبيعة العلاقة بين الشمال والجنوب، و”الحرب علي الإرهاب”، وظاهرة “الإسلاموفوبيا”.
– تداعيات العولمة وطبيعة العلاقات بين الجنوب والشمال: وهذا سبب مهم للكراهية، وهو لا يخص الدول العربية فقط، وإنما جل دول الجنوب في إفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية. إن طبيعة النظام الدولي للتجارة والاستثمارات الدولية، والقائم بشكل عام علي محاباة الدول القوية علي حساب الدول الصغيرة، تؤدي علي المدي الطويل إلي تفاقم المشكلات الاقتصادية، والسياسية، والأمنية داخل الدول الضعيفة في مرحلة أولي، ثم امتداد آثار هذه المشكلات إلي الأنساق الإقليمية والدولية في مراحل تالية.
وتشير أوضاع الصومال، والعراق، وأفغانستان، وليبيا، وسوريا إلي هذا الامتداد الذي يضر بأطراف المشكلة وجيرانهم، وجيران جيرانهم. وعندما يقترن ما سبق بسيطرة المال علي السياسة، واتخاذ القرارات السيادية في العالم، وانتشار الكثير من أوجه الفساد الأخلاقي، كالاستغلال، والتدليس، والاحتكار، فيمكن تصور أن مشكلة العلاقات بين الجنوب والشمال، وتجلياتها المختلفة تشكل في المستقبل القريب الوصفة المثالية لارتفاع حدة الغضب الشعبي في دول الجنوب تجاه سياسات القوي الكبري، وقد تؤدي أيضا إلي انتشار الغضب، والاضطرابات، والثورات الاجتماعية في دول الشمال ذاتها، خاصة مع ارتفاع معدلات البطالة هناك.
غير أنه بجانب الأسباب الاقتصادية السابقة، هناك أسباب سياسية ذات صلة بالوضع الاقتصادي، أهمها منطق الهيمنة والانفراد علي المستوي العالمي الذي راحت الإدارات الأمريكية تلجأ إليه في التعامل مع الآخرين، بعد انتهاء الحرب الباردة، ووصل إلي ذروته في عهد الرئيس السابق جورج بوش. وأدي هذا المنطق إلي تزايد الشعور بالعظمة في الداخل من قبل الشركات الكبري، والبنوك، والمؤسسات المالية، وتعاظم إحساسها بقدراتها علي العمل والسيطرة، وامتد الأمر إلي سياسات الدولة في الخارج، فتعاظم شعور الساسة وصناع القرار بالقدرة الفائقة علي الفعل والتصرف في مقدرات وشئون الدول والجماعات.
وترتب علي هذا المنطق ازدياد حدة الغضب الشعبي العربي تجاه الغرب. إلا أن هذا الموقف الشعبي لم يقترن بغضب حكومي عربي، وذلك مقارنة بتحدي الكثير من الدول للهيمنة الأمريكية، بدءا بفرنسا وألمانيا في أوروبا، مرورا بالصين وروسيا، وانتهاء بإيران، وفنزويلا، ودول لاتينية أخري.
من جهة أخري، يراهن البعض علي المساعدات الخارجية، رائيا أن التوجه إلي الولايات المتحدة لوضع اشتراطات علي المعونات التي ترسلها إلي حلفائها العرب قد يساعد في الضغط علي حكومات المنطقة. فمن المعروف أن معظم محاولات دفع جهود الإصلاح والتنمية (مثل الأهداف الألفية، والخطة الاقتصادية الجديدة لإفريقيا، والصندوق الأمريكي للألفية، والعهد العالمي للأمم المتحدة) تستند إلي نموذج خطة مارشال لعام 1947، عندما قدمت أمريكا نحو 13 مليون دولار في الفترة من 1948 حتي 1951 لدول أوروبا الغربية (نحو 10 من الميزانية الفيدرالية الأمريكية)، في الوقت الذي وفرت فيه أوروبا البنية التحتية والعمالة البشرية الماهرة(18).
وقد طُبق هذا النموذج بنجاح في حالات أخري في آسيا. وفي كل هذه الحالات، توافر شرطان أساسيان، هما استهداف الدول المانحة تغيير الأوضاع في الدول المتلقية (في إطار مواجهة قوي اليسار في الداخل، أو في إطار محاربة الشيوعية في العالم الثالث)، وامتلاك الدول المتلقية عوامل النجاح في الداخل من مهارات تعليمية، وقيادات محلية تقود التنمية، ورجال أعمال محليين تدعمهم دولهم. ولم ينجح هذا النموذج في الدول العربية بسبب غياب الشرطين السالف ذكرهما، أي عدم استعداد هذه الدول، نظرا لغياب الإرادة السياسية للحكام، وهجرة الكفاءات العربية، وضعف القانون، ومستوي التعليم، والبنية التحتية. كما أنه لا توجد مصلحة لدي المانحين في التغيير، فالولايات المتحدة لديها مصالح مختلفة عن تلك التي كانت في أوروبا.
– “الحرب علي الإرهاب”: فمن الملاحظ أن المنطقة العربية عادة ما تدخل في “حرب علي الإرهاب” بالتزامن مع ظهور مطالب شعبية لإحداث تغيير حقيقي في نمط السلطة القائمة، الأمر الذي يترتب عليه تصاعد الغضب الشعبي تجاه الدول الكبري، بل وتفضيل الآلاف من الشباب الانضمام إلي الحركات المتطرفة. حدث هذا ثلاث مرات في العقود الأربعة الأخيرة. كانت المرة الأولي بعد أن انتهي دور من عرفوا بالمجاهدين في أفغانستان، وظهور حراك سياسي مناد بالإصلاح السياسي في أكثر من دولة عربية رئيسية مثل: مصر، والسعودية، والجزائر، وغيرها. لكن عودة من عرفوا بالمجاهدين العرب أدخلت هذه البلاد في معركة ضد الإرهاب، فانتهي الحديث عن الإصلاح، ودخلت المنطقة عمليات عنف بين الحكومات ومعارضيها.
ولما عاد الحديث من جديد عن الإصلاح السياسي، في مطلع الألفية الجديدة، جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتقوم الحكومات الغربية والعربية بشن حربها علي الإرهاب. بل وامتد الأمر إلي مساواة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بالإرهاب، وإلي حرص الغرب علي تغيير المناهج الدينية دون المساس بكافة علل التعليم، والثقافة، والإعلام الأخري، فضلا عن تجاهل جوهر المشكلة المتمثل في غياب العدل، وقمع الحريات، ودعم المستبدين.
ثم الآن وبعد الثورات الديمقراطية الأخيرة، تتحول المنطقة -مع ظهور تنظيم داعش، والتحالف الدولي الذي تشكل لمحاربته- من النضال السلمي للشعوب، من أجل الحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية إلي الخوف والقلق من أي تغيير، وإلي تحالف الحكومات العربية مع الغرب لمحاربة الإرهاب. وسرعان ما تحولت الثورات العربية من النضال ضد قوي الأنظمة السابقة، وخصوم الديمقراطية إلي صراع بين الإسلاميين من جهة، والليبراليين أو المدنيين من جهة أخري، وتم تصوير الصراع في أكثر من بلد عربي علي أنه “صراع صفري” ضد قوي الظلام والإرهاب، وذلك بعد أن استطاع خصوم الديمقراطية إحداث اختراقات مؤثرة في صفوف القوي المحسوبة علي الثورة، والتي تحالفت مع بعض القوي الليبرالية واليسارية.
– الصورة النمطية للإسلام والمسلمين: وتتصل تلك القضية بإصرار دوائر غربية -رسمية وغير رسمية- علي إبراز الصورة النمطية عن الإسلام والمسلمين في وسائل الإعلام ومراكز البحوث الغربية، وما يترتب علي هذا من ممارسات عنصرية تجاه الإسلام والمسلمين بالغرب، أو ما يعرف “بالإسلاموفوبيا”. وقد ارتفعت حدة هذه الظاهرة بعد انتهاء الحرب الباردة، وظهور نظريات الصدام الحضاري، ونهاية التاريخ، وكذا عقب أحداث سبتمبر .2001 وتشير الظاهرة عادة إلي حالة الخوف أو الكراهية تجاه المسلمين والجماعات العرقية التي ينظر إليها علي أنها إسلامية، وما يترتب علي هذا من ممارسات عنصرية ضد المسلمين والإسلام في الغرب.
وقد أسهمت بعض وسائل الإعلام الغربي في تأصيل هذه الظاهرة، وتعميق آثارها السلبية، وذلك عبر سياساتها التحريرية المنحازة إلي اليمين المتطرف، واللوبيات الصهيونية بالغرب، وتبريرها للسياسات الغربية تجاه المنطقة.
ومن تجليات هذه الظاهرة، التي أدت إلي ارتفاع حالة الغضب تجاه الغرب، الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام في الصحف الدنماركية، واحتفاء الحزب اليميني الحاكم آنذاك بها، ورفض الحكومة تحريك دعوي قضائية ضد الصحيفة بحجة حرية التعبير، وإجماع الناخبين في سويسرا في استفتاء شعبي علي حظر بناء المآذن، وشن حملة شرسة ضد الحجاب في فرنسا، وجرائم الكراهية ضد المسلمين والمساجد في أمريكا وغيرها(19).
ولا شك في أن السياسات الحكومية الغربية لا تساعد علي معالجة هذه الظاهرة، ومن ثم تسهم في تراكم تداعياتها السلبية فيما يخص صناعة الكراهية، وعرقلة الجهود المبذولة للحوار بين الحضارات. وفي المقابل، هناك غربيون لا ينظرون إلي الإسلام كتهديد، مثل الأستاذ الأمريكي جون اسبيزيتو الذي يري أن سبب الظاهرة، وظهور ما يسميه “خرافة التهديد الإسلامي”، هو التفكير النمطي، والركون إلي الأنماط الجاهزة والمعلبة، وذلك كبديل عن التهديد الشيوعي. كما يري أيضا أن الجهل بالإسلام عند الأمريكان والغربيين، وضعف ميزانيات تمويل الدراسات الخاصة بالإسلام، ودور جماعات المصالح الصهيونية تلعب دورا محوريا في تفاقم الظاهرة(20).
أما الباحث الفرنسي أوليفر روي، فيري أن النقاش في أوروبا تحول من نقاش حول موضوع الهجرة إلي نقاش حول “الرموز المرئية للإسلام”، كما يري أن الهجرة كانت تلقي هجوما من اليمين المحافظ، بينما الإسلام يلاقي هجوما من اليمين واليسار علي حد سواء، مع استقرار الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين المسلمين في أوروبا، وهو يري كذلك أن الظاهرة أعقد من كونها مجرد العداء لدين محدد(21).
ولهذا، ثمة حاجة ملحة لتغيير السياسات الحكومية الغربية تجاه قضايا المنطقة، والكف عن ممارسة كافة أشكال الازدواجية في تعامل حكومات الغرب مع قضايا العرب والمسلمين، وتوقف كل صور التدخل في شئون الدول الأخري، وتقديم معالجة حقيقية للصراع في الشرق الأوسط، تنزع الصفة العنصرية عن دولة الاحتلال، وتعالج جذور المشكلة، هذا فضلا عن وضع ضوابط مهنية في الإعلام الغربي للتعامل مع الإسلام وقضايا المسلمين، ورفع ميزانيات البحث العلمي في دراسات الإسلام وواقع دول العالم الإسلامي المعاصر.
وأخيرا، يحق لشعوب المنطقة طرح التساؤلات الآتية علي الحكومات الغربية: لماذا لا يحسم الغرب موقفه لمصلحة الديمقراطية، كما حسمها في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية؟، ألا يوجد طريق آخر للحفاظ علي مصالح الغرب بالمنطقة، في ظل حكومات عربية منتخبة ومسئولة أمام شعوبها، وتحترم القانون، وحقوق الإنسان؟، أليس هناك سبيل للتوافق علي قواعد للتدافع الحضاري، والتنافس السلمي بدلا من الاستعلاء والمواجهة؟.
هوامش:
1- عبدالفتاح ماضي، “إسرائيل ومشروع الشراكة الأمريكية – الشرق أوسطية”، جريدة الاتحاد، 28 مايو .2003
2- Dean McHenry and Abdelfattah Mady, “A Critique of Quantitative Measures of the Degree of Democracy in Israel”, Democratization, Vol. 13, No. 2 (April 2006), pp. 257-282.
3- انظر:
– Jeremy M. Sharp, U.S. Foreign Aid to Israel (Washington: Congressional Research Service, April 11, 2014), 13.
4- USA Vetos in the United Nations, (http://www.krysstal.com/democracy_whyusa.03html).
5- انظر لمزيد من التفاصيل:
– Abdelfattah Mady, “American Foreign Policy and Peace in the Middle East”, Contemporary Arab Affairs, Rutledge & Center for Arab Unity Studies, Vol. 3, No. 3, July-September 2010, pp. 287.
6- See: Stephan Zunes, Tinderbox: U.S. Middle East policy and the roots of terrorism (Monroe, ME: Common Courage, 2003), 217.
7- انظر: إدوارد سعيد، أوسلو 2: سلام بلا أرض (القاهرة: دار المستقبل العربي، 1995)، وكذا:
– Stephan Zunes, “The U.S. role in the breakdown of the Israeli-Palestinian peace process”, Foreign Policy in Focus, May 2002, (http://fpif.org/the_us_role_in_the_breakdown_of_the_israeli-palestinian_peace_process).
8- The Final Act of the Conference on Security and Cooperation in Europe, Aug. 1, 1975, (http://www.1umn.edu/humanrts/osce/basics/finact.75htm).
9- Inter-American Democratic Charter, (http://www.oas.org/en/democratic-charter).
10- د. عبدالفتاح ماضي، “أمريكا لا تضغط علي الأصدقاء”، الجزيرة.نت، 18 أبريل 2010:
(http://abdelfattahmady.net/opinion-articles/aljzeera/190-18-4-.2010html).
11- قال مبارك لمحرر واشنطن بوست الأمريكية، في 23 مارس 2003، معلقا علي منع عشرات الآلاف من المشاركة في جنازة مرشد الإخوان الراحل مصطفي مشهور، إن الديمقراطية التي تريدها أمريكا “ستوصل الإخوان إلي الحكم في القاهرة، وعمان، والرياض، وفلسطين”، ورد في:
– Yusuf M. Ibrahim, “Democracy: Be Careful What You Wish For”, Washington Post, March 23, 2003, (http://www.cfr.org/world/democracy-careful-you-wish/p5747)
12- Remarks by the President on the New Beginning, Cairo University, Egypt, (http://www.whitehouse.gov/the_press_office/Remarks-by-the-President-at-Cairo-University-6-04-09/).
13- Steven A. Cook, Political Instability in Egypt (Washington: the Council on Foreign Relations, August 2009), (http://www.cfr.org/egypt/political-instability-egypt/p19696).
14- جايسون براونلي، إجهاض الديمقراطية: الحصاد المر للعلاقات المصرية – الأمريكية في أربعين عاما، ترجمة: أحمد زكي عثمان (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 2013)، 16.
15- المرجع السابق، 225.
16- جاسون براونلي، “المحافظة الأمريكية .. رد فعل إدارة أوباما تجاه ثورة 25 يناير في مصر”، مجلة السياسة الدولية، يوليو 2012:
(http://digital.ahram.org.eg/Policy.aspxSerial=978724)
17- Remarks by the President on the Middle East and North Africa, May 19, 2011, (http://www.whitehouse.gov/the-press-office/19/05/2011/remarks-president-middle-east-and-north-africa).
18- Roy Jenkins, “Marshall Plan Commemorative Section: Special Relationships: The Postwar Bequest”, Foreign Affairs, May/June 1997.
19- CAIR’s Department to Monitor and Combat Islamophobia,
(http://www.cair.com/islamophobia.html).
20- للكاتب عدة كتب، أهمها في هذا الموضوع:
– John L. Esposito and Ibrahim Kalin, Islamophobia: The Challenge of Pluralism in the 21st (Oxford: Oxford University Press, 2011), and John L. Esposito, The Islamic Threat: Myth or Reality (Oxford: Oxford University
Press; 3 edition, 1999).
21- لقاء مع أوليفر روي، موقع قنطرة، 6 نوفمبر 2010:
(http://ar.qantara.de/content/hwr-m-lbhth-lfrnsy-wlyfr-rwy-mstlh-lslmwfwby-mstlh-mdll).
مجلة السياسة الدولية (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)