إبراهيم عبدالمجيد ينشر «غيمة الإسكندرية» (د. صلاح فضل)
د. صلاح فضل
ودع الروائى الفذ إبراهيم عبدالمجيد مدينته الإسكندرية منتصف السبعينيات بعد أن أودع فيها أحلام طفولته ونزوات مراهقته، وانغمر فى عشق القاهرة الجبارة. لكن مرابع الصبا تظل مصدر الإلهام وخميرة الروح، فعاد إليها فى ثلاثية تريد أن تكون مغايرة لسواها، تستقل كل حلقة بذاتها لتركز على بؤرة تحولات المدينة فى عصبها الحىّ، وعطرها الأثير، مع تنوع الشخوص والأوساط المؤطرة، وقد جاءت الحلقة الثالثة الجديدة بعنوان «الإسكندرية فى غيمة» لتنثر عليها ظلا شفيفاً من قصص العشق والفسق الطلابى المعهود، ولتسكب على فضائها شلالاً من التحنان والعذوبة والشعرية، مما لا يتوفر للكتاب سوى فى أوج توهجهم وعتوهم الإبداعى، ولأن كاتبنا قد بلغ ذروة نضجه أصبح يختار نماذجه بدقة فائقة، فزرع وسط شبابه داعية ماركسياً كهلاً ينتقل فى الدراسة من كلية إلى أخرى حتى يستقطب أنصاراً لأفكاره، ويذاكر نيابة عنهم كتب التاريخ والعمارة والفنون ليجعل وصفها الموثق خيطاً حريرياً يتناغم فى نسيج النص ويتوزع على صفحاته ليبث جذوة الوطنية وزهوة الاعتزاز بالتراث الحضارى القريب والبعيد، كأنه يتولى بسط جماليات المكان التى تحدث الفلاسفة عنها وشُغف الدارسون بالبحث عنها فى الروايات الحديثة، بحيث تتراوح هذه الخيوط بين إيقاعين أحدهما غزلى والثانى شجىّ يليق بمراثى الفقد والحرمان.
فيقدم كاتبنا رؤية لمدينة الحلم الضائع فى مهب التحولات العاصفة. ولأن ثقافته البصرية قد احتدّت واشتدت وتبلورت فى تجاربه التليفزيونية، نجده يقارب أسلوب السيناريو فى تقديم مشاهده، يحدد المكان والزمان بطريقة تصويرية مرئية، يقول مثلاً: «انقطع صوت الهواء الذى كان يعربد منذ قليل، لكن على شواطئ الإسكندرية لايزال الصوت عالياً ممتزجاً بصوت الموج، وفى صالة شقة عائلة (يارا) يجلس أبوها وأمها أمام التليفزيون، ينعمان بالدفء الصادر من جهاز التكييف، ينتظران بعد قليل بث فيلم (قطار الليل)، فهما يعشقان رقص سامية جمال (الليدى)، كما يصفانها، غير المبتذلة، ويحبان أداء الممثل ستيفان روستى الذى وصل شره فى هذا الفيلم إلى مداه. حجرة (يارا) بها دولاب خشبى من الأبنوس، يقول عنه أبوها إنه تحفة، اشتراه مع كثير من أثاث البيت من بعض اليهود الذين تركوا المدينة بعد حرب السويس. كان الأبوان يرتديان ملابس منزلية شتوية أنيقة فوقها روب وأمامهما طبق به الكاجو والفستق وعين الجمل (المكسرات) التى غابت عن مصر طويلاً أيام عبدالناصر، ثم عادت تغزو الأسواق غالية الثمن. لا يحتاج المشاهد هنا نتيجة على الحائط كى يدرك أننا فى رحاب أسرة برجوازية تقيم فى الإسكندرية منتصف سبعينيات القرن الماضى، وأن (يارا) التى ينسب إليها بقية الأشخاص والأماكن هى مركز الثقل الروائى، وأن هناك شاباً أو أكثر تنخرط معهم وتتفاعل سردياً بهم».
ريح اليسار
بالفعل، تركز الرواية بؤرة الضوء على مجموعة من شباب الجامعة المعتنقين فى معظمهم الفكر اليسارى فى صحوته الأخيرة، بعد أن استقرت فى وعيهم خلاصته من تجربة الاشتراكية الناصرية، ودهمتهم التطلعات الطبقية والطفيلية الجديدة فترة الانفتاح فأصبحت تهمة الشيوعية تطاردهم باعتبارها الوباء الذى ينبغى التخلص منه، فهذا هو «نادر» الشاعر العاشق الحالم يساق إلى مقر أمن الدولة ليواجهه المحقق بهذه التهمة، لكنه يقرر أن يتماسك بأقصى ما يستطيع، فينكر أنه شيوعى، ويقول إنه ليس معنى أنهم يدرسون الماركسية فى الكلية، مثل غيرها من النظريات الفلسفية والاجتماعية والتاريخية، أنهم قد جندتهم الأحزاب الشيوعية، وإن كان هو وأصحابه غير متوافقين مع سياسة الرئيس السادات، خاصة فى تقريب مصر من أمريكا وإسرائيل، والتخلى عن حليفها الأصيل وهو الاتحاد السوفيتى، وعن فضائها ومجالها الحيوى، العالم العربى، فذلك فقط لأنهم مصريون يحبون وطنهم، ومع أن مدير الفرع يحاول استدراجه كى يظفر بأكبر قدر من المعلومات عنه، ويبطن تهديده بأن حبيبته «يارا» ستتعرض لما تعرضت له سعاد حسنى فى فيلم «الكرنك» إن لم يعترف بكل الحقائق، فإنه فى النهاية يطلق سراحه بعد أن بث الخوف فى أعماقه وأشعرهم جميعاً بأنهم تحت المراقبة الصارمة، لكن زميله القصاص «حسن» يدخل تجربة أخرى، يستجيب لدعوة مكتب رعاية الطلبة للذهاب إلى معسكر فى العامرية، يتدربون على الكاراتيه ويتلقون محاضرات ضد الفكر اليسارى تدور حول الرأسمالية والحرية التى تنتظر مصر فى كل شىء، ثم يتلقى كل منهم فى النهاية منحة سخية بعشرة جنيهات، ويضيف «حسن» قائلا لزملائه «لقد وافقت لأعرف ماذا يحدث حولنا، طبعاً لن أستمر معهم، والجنيهات العشرة سأحتفظ بها لننفقها جميعاً عند (نوال بوط) فليس معقولاً أن تعزمنا نوال كل مرة، الأيام القادمة صعبة، مصر تتغير، ولابد أن ننتبه».
هذا هو صراع المرحلة الأيديولوجى، الذى لم يلبث أن وصل إلى لحظة الانفجار فى انتفاضة الخبز عام ٧٧ – فى يناير شهر الاعتقالات والثورات – التى سماها السادات «انتفاضة الحرامية»، وعندها تبلغ الرواية ذروة احتدامها السياسى والعاطفى أيضاً، إذ تتشابك خيوط العلاقات الإنسانية النبيلة مع تطور الأحداث، ويتم شحن الشباب بطاقة هائلة من عشق الوطن، عن طريق نمو وعيهم الوجدانى بالثغر الجميل، وهنا تلعب شخصية رفيقهم الكهل دوراً حاسماً فى هذا النمو، فهو الذى ينثر العبق الحضارى على خطواتهم ومسيرتهم، يقودهم مثلاً لزيارة مقابر الإسكندرية بأقسامها الكثيرة، من مقابر الأقباط الأرثوذكس، إلى مقابر اليونانيين والأرمن والكاثوليك والسريان، ومقابر المفكرين الأحرار. تعدد يشى بالطابع الكوزموبوليتانى وتعدد الأجناس فى المدينة، وحتى عندما يلتقى «نادر» مع حبيبته «يارا» ويدعوها للغداء فى أتينيوس تكون هذه الزيارة فرصة لاستعراض تاريخ المكان ورسومه الميثولوجية الإغريقية والرومانية المدهشة، وعبر لقاءات أخرى وحوارات حميمة يتم تذويب كمية ضخمة من المعلومات الأثرية والمعمارية عن مساجد الثغر وكنائسه وميادينه وحدائقه وأهم معالمه الحضارية، حيث يستفيد الكاتب من جهود العلماء والباحثين فى الكشف عن أسرار المدينة بلمساتها الجمالية وعراقتها الثقافية، من هنا يتشكل منظور هؤلاء الشباب الوطنيين للمدينة ويصبح بوسعهم مراقبة التحولات التى تطرأ عليها، عندما يهجم عليها المشترون الجدد ليحولوا صالات الموسيقى والرقص فيها إلى مقاهٍ عادية، فيحرمون الثغر من ملاهيه ومشاربه ومفاتنه الراقية، ويصبغونه بالطابع العشوائى الرث الذى يقترن عادة بمظاهر التدين السطحى ويخفى تحته بؤر الفساد والإجرام والتستر على انتهاك القيم والمحرمات بطريقة فجة مبتذلة.
شعرية السرد
لعل ما يميز رواية إبراهيم عبدالمجيد ويجعلها من أهم روائعه الجديدة، ليس هو تلك المعلومات الموثقة، ولا الحس التاريخى العميق بالتحولات، إنما قدرته على تجسيد حيوات عدد من أهل الإسكندرية، سواء الذين هاجروا منها وحاولوا العودة إليها، أو من هم بسبيل مغادرتها وكيف تظل ماثلة فى قرارة وجدانهم إلى الأبد. تلتقى مثلاً «بولا» اليهودية التى تعود من باريس بـ«عيسى» الاشتراكى، و«خريستو» المصور اليونانى الباقى لتحكى لهما كيف غلبها الشوق، فراحت تزور الأماكن التى تربت فيها، وكيف وجدت عصا التغيير قد مست كل شىء «أسبوع الآن أمشى على البحر، أقعد مرة فى ديليس أو تريانون أو أتينيوس، أكثر وقتى أقضيه فى فندق سيسيل»، ثم تأخذها نشوة الحنين فتردد بصوت هادىء لـ«عيسى»:
– اقروا الفاتحة لأبوالعباس، يا إسكندرية يا أجدع ناس، ثم توقفت وسألته.
– أليس كذلك؟ فيقول هو أيضاً.
– اقروا الفاتحة لسيدى ياقوت، واللى يعادينا انشاالله يموت.
ويضحكان ثم تنظر إلى «خريستو» وتقول له: قل شيئاً، فيرتبك ثم ينشد:
– طيب، اقروا الفاتحة لأبوالدردار، واللى يعادينا يولع نار.
وهكذا يصبح التغنى بأولياء الإسكندرية وحراسها هو ما يجمع أهلها على اختلاف عقائدهم.
وعندما ينقدح العام بالخاص، ويحكى الكاتب مطولاً فى الرواية قصة أحداث يناير ٧٧ وكيف قبض على الشباب كلهم، بمن فيهم من كان يلجأ لشقة العزاب لقضاء وطره فى التنفيس الجنسى مع من يترددن عليها من الغوانى، وكيف اعتقل أمن الدولة الطالبات أيضاً فأبقى «كاريمان» التى طردها زوج أمها، وانخرطت فى النشاط الحزبى فى السجن،
وأفرج عن «يارا» بعد أن تدخل أخوها ضابط البحرية التجارية ووسّط أحد الكبار فتم العفو عنها، وكيف علم «نادر» بعد خروجه من السجن بأن أهلها زوجوها رغماً عنها كى يبعدوها عن صحبة الشباب المشتغل بالسياسة، عندئذ تتجلى مأساة السجن فى خسارة الحب، وتصل الفجيعة إلى منتهاها فيجلس «نادر» على السلسلة ليرمق تمثال عروس البحر ويناجيه «هل كانت أوروبا حقاً تستحق أن يقطع زيوس من أجلها هذه الرحلة من فوق الأولمب.. أجل، هى فتنة النساء حتى للآلهة، فما بالك إن كانت مثل أوروبا أو يارا..
أجل وإلا ما انقضى اليوم يبحث عن خبر يقين عنها، وما انقضت الشهور ووجهها لا يفارق عينيه فى الزنزانة، لا يملك قدرة زيوس على التخفى ليظفر بها»، ويحتدم الإحساس بالفقد فى قلب «نادر» ليجسد مصير الحب المحبط والكفاح السياسى الخاسر فى وجه القدر والقوى الصاعدة المهيمنة. أما قصة «نوال بوط» داخل الرواية فهى من أشد مناطق الشجن والعذوبة فيها، فهى مغنية حسناء، تمتلك ملهى على كورنيش الإسكندرية، استثمرت فيه تركة زوجها اليسارى العجوز،
وعطفت على مجموعة الشباب، استهواها الشاعر «نادر» بصفة خاصة لرهافة حسه، ورأت فيه تجسيداً لحب شبابها الضائع، فغمرته بحنانها وأكرمت المجموعة من أجله بدعواتها السخية، لكنها اضطرت بعد احتراق الملهى فى أحداث يناير لأن تبيعه وتهاجر إلى باريس، وربما كانت هذه الحيوات الأثيرية تمثل أصداء من حكايات شباب الكاتب ذاته فى الثغر، ومعالم شاحبة لما كان يشيع بين زملائه عن حكايات الغوانى والملاهى، صهرها المؤلف الكبير فى خيالاته وقراءاته، وسقاها بروح الموسيقى التى تستبد به اليوم، وخلاصة الأيديولوجيا التى انتهى إليها بعد نضجه، كى يصنع تاريخ جيله الوجدانى والعقلى، ويعيد تأجيج جذوة شهواته وصبواته التى نشبت فى الإسكندرية مغلفة بروح شعرية بالغة الرقة والجمال.
صحيفة المصري اليوم