إدارة أوباما الثانية تقضي على آمال الإدارة الأولى (راغدة درغام)
راغدة درغام
تنظر منطقة الشرق الأوسط إلى الرئيس باراك أوباما من زاوية علاقاته بثلاثة «أ» هي: الإسلاميون، إيران وإسرائيل. لدى البعض، يبدو الرئيس الأميركي أنه يتعمد تبني سياسة ظاهرية قوامها الانعزالية وتجنب الانخراط خارج الحدود الأميركية، وسياسة باطنية تدخلية عبر اللاعبين الآخرين في حروب بالنيابة وضمن قواعد السرية. يكاد يستحيل إيجاد أحد من الشرق الأوسط ينظر إلى أحداث المنطقة بأنها خالية من تدخل أو نفوذ أو تصميم أميركي. هذا بعكس الأميركيين الذين تعتقد أكثريتهم أن لا دخل للولايات المتحدة في أحداث المنطقة العربية بالذات خلال السنتين الماضيتين اللتين أنجبتا الإسلاميين في السلطة في دول «الربيع العربي» – تونس، مصر وليبيا تحديداً. فالأميركيون، بمعظمهم يعتقدون أن لا دور مباشراً أو حتى غير مباشر للولايات المتحدة في هذه الدول أو في اليمن أو حرب سورية، ذلك لأنهم يكادون لا يتذكرون حرب العراق التي عكفوا على محوها من الذاكرة لأنهم لا يرغبون أن تتورط الولايات المتحدة مرة أخرى في حروب الآخرين.
باراك أوباما طوّق الذعر الأميركي من التدخل المباشر عبر حروب أميركية واضحة وبجنود وطائرات حربية وكلفة مادية. فعل ذلك عبر سحر الطائرات بلا طيار Drones ومن خلال إحياء سياسة ودور وكالة الاستخبارات المركزية التقليدية، إنما بأدوات نوعية لها سحر من نوع آخر.
أعجبه أن في استطاعته شن حروب شبه وهمية في اليمن مثلاً حيث للرئيس أوباما شريك حكومي يسهل عمليات الطائرات بلا طيار لقصف معاقل «القاعدة» ومشتقاتها. فهذه حروب شبه وهمية لا تنقلها أجهزة التلفزة ولا يتعمق فيها إعلام، وبالتالي أن مساحة المحاسبة ضيقة كما أن الرأي العام الأميركي مغيب عنها برغبته. فطالما ليس هناك ضحايا أميركية مباشرة في حروب الآخرين، لا ضرورة للرأي العام الأميركي أن يعرف ماذا يحدث في تلك الحروب ولماذا.
الدور الأميركي في اليمن، إذن، يقع خارج رادار الرأي العام، وهذا مفيد لما يريد الرئيس أوباما إنجازه. ثم أن في حال خروج تفاصيل تلك الحرب إلى الرأي العام، يمكن لإدارة أوباما الثانية أن تقول إن تلك الحرب تم شنها من أجل المصلحة الأميركية العليا، وهي مكافحة التطرف أو العنف أو الإرهاب الإسلامي. فبغض النظر عن التسميات، أن «العدو» ما زال نفسه في عهد أوباما كما كان في عهد سلفه جورج دبليو بوش. الاختلاف يقع في الوسائل وفي التسميات.
لم يتمكن الرئيس باراك أوباما من تقنين كامل حروبه في خانة «السرية» أو تحت عنوان التدخل بباطنية بموازاة الانعزالية العلنية. فهو تارة اختبأ وراء مقولة «الحكم من الخلف» أو «وطأة القدم الخفية»، إلا أنه لم يفلح دائماً في محاولاته تجنب الوضوح أو المواربة عند الإيضاح.
على صعيد الـ «أ» الأولى، أي صعود الإسلاميين إلى السلطة في تونس ومصر وليبيا واليمن أيضاً، لم يعد في وسع باراك أوباما الاختباء وراء الانتخابات بصفتها مقياس الديموقراطية للدفع بالإسلاميين إلى السلطة باستعجال مريب. فلقد كانت إدارة أوباما الأولى تدرك تماماً نتائج الاستعجال إلى الانتخابات من دون إعطاء القوى المدنية والحداثية فرصة التنظيم الحزبي والانتخابي. كانت تلك الإدارة تعي تماماً ما هي إفرازات إقبالها بشغف على أمثال «الإخوان المسلمين» وزعمهم في العجلة إلى إجراء الانتخابات بدلاً من التفاهم على دستور للبلاد. فهي اختارت عمداً أن تتحالف مع «الإخوان» على حساب القوى المدنية والحداثية والعلمانية، وعلى حساب الدساتير.
البعض يعتقد أن المبرر لهذه المواقف التي تبنتها إدارة أوباما الأولى هو أنها «عمليّة» أرادت الاصطفاف مع «المنتصر» ولذلك استغنت، كعادة الأميركيين، عن حليف الأمس شغفاً لاطمئنان حليف الغد. يقول هؤلاء إن باراك أوباما «الرئيس» ليس باراك أوباما «الوعد» الذي تعهد بالحقوق المدنية وبنقلة نوعية في العلاقات الدولية.
البعض الآخر اعتبر مواقف إدارة أوباما الأولى نابعة من اعتقادها – أو تسويقها – أنها مع «الاعتدال الإسلامي» المتمثل في رأيها في «الإخوان المسلمين» وهي تدعمه في معركته مع «التطرف الإسلامي» المتمثل في القوى السلفية والجهادية. غاب عن ذهن أقطاب الإدارة الأولى والمؤسسة الفكرية والإعلامية المصطفة معها ومع الأوبامية، غاب عن بالها عمداً تلك الحقوق المدنية التي تتناقض وتتضارب مع عمق وفكر وطموحات الإسلاميين في السلطة.
وهكذا، استثمرت الإدارة الأولى في إثارة ذعر الأقليات من مصر إلى لبنان. أثارت ذعر المسيحيين مثلاً، كما أثارت غضب وخيبة أمل العلمانيين والحداثيين الذين أصابتهم لعنة الاستغناء الأميركي الفوري عنهم لأن في الأفق ما قد يكون أفضل للمصالح الأميركية.
إفرازات هذه السياسة على مصر تختلف عما هي في تونس مثلاً. القاسم المشترك أن الشكوك بالولايات المتحدة تفاقمت وأن التساؤلات تطوّق ذلك الرجل الذي دخل البيت الأبيض وسط تشوّق عالمي لما لدى باراك حسين أوباما.
فلقد بات أوباما في ذهن أكثرية الشباب العربي شريكاً للإسلاميين في السلطة الذين هرولوا إلى الاحتكار والاستفراد وفرض الشريعة على الدستور ورفض الفصل بين الدولة والدين. باتت الإدارة الثانية في موقع خوف وانعدام ثقة بعدما أثبتت الإدارة الأولى أنها ليست الصديق للحداثيين الذين يريدون الدولة المدنية والحقوق المتساوية. وعكس ما صوّرته وسوّقته الإدارة الأولى، واقع الأمر أن الإسلاميين المتطرفين دخلوا شريكاً من نوع أو آخر مع الإسلاميين المعتدلين وذلك لاحتواء المدنيين الذين لم يرضخوا بل ثابروا في تحدي احتكار واستفراد الإسلاميين بالسلطة. لذلك المعركة في مصر مستعرة، ولذلك يصر الحداثيون في تونس على عدم الانصياع والخضوع للإسلاميين. ذلك أن المعركة مصيرية بغض النظر عن المساهمة الأميركية على حساب المدنيين ولصالح الإسلاميين.
إضعاف الاقتصاد والإفقار باتا جزءاً من أدوات النفوذ والإخضاع المحلية والأميركية. إيلاء المحاسبة الفوضوية إلى مجموعات محلية وإلى ميليشيات باتت جزءاً من ثقافة التخويف والاحتكار التي يتبناها رجال السلطة الجديدة. على رغم ذلك، هناك استثناءات تستحق التوقف عندها تتحدى المقولة الزائفة بأن الحداثيين والمدنيين نخبوية فاشلة تستحق التهميش. ففي تونس اليوم مجموعة من الشباب معدل أعمارهم 26 سنة، يدبّون الرعب في قلوب رجال السلطة ويحشدون الدعم الشعبي لما يقومون به من مساءلة ومحاسبة. يفعلون ذلك ليس برفع السلاح أو الشعارات وإنما عبر جمع المعلومات والمراقبة الدؤوبة للنواب ولأعضاء المجلس الوطني التأسيسي لكشفها أمام الشعب.
«البوصلة» باتت كلمة مرادفة للمحاسبة والمساءلة و «المرصد» بات يجبر صنّاع القرار على التفكير ملياً قبل اتخاذ القرار. ذلك أنه لأول مرة، يُحاسب المجلس على النفقات ويُحاسب النواب على الحضور والغياب عن جلسات البرلمان العامة والخاصة وبحسب مؤسسة ورئيسة «البوصلة» أميرة يحياوي (28 سنة) أن «استمرار غياب الحداثيين سيؤدي إلى التصويت لصالح دستور إسلامي». ذلك لأن «حركة النهضة هي الأكثر حضوراً في المجلس الوطني التأسيسي، والنواب الحداثيين هم الأكثر غياباً». ولكن، وبعدما بدأت «البوصلة» بالمرصاد لهم، بدأ نواب المعارضة يحضرون ويقومون بواجباتهم أكثر خوفاً من توبيخ الشعب لهم في تطور يشهده التونسيون لأول مرة ويسمونه «صحة الرُقعَة» أي الوقاحة المفيدة.
لذلك، من المبكر جداً الهرولة إلى دفن المجتمع المدني والحداثيين والاستنتاج أن المنتصر هو الإسلاميون بشتى أنواعهم. فـ «الإخوان المسلمون» كشفوا بسرعة عن الوجه الحقيقي إذ أنهم اعتبروا أن الفوز بالانتخابات أعطاهم الحق بالإملاء على الآخر بما في ذلك إملاء نوعية الدساتير التي يريدها «الإخوان» إسلامية وفي هذا المسعى، لا فارق بين الإسلام المعتدل كما يسمي الغرب «الإخوان المسلمين» أو الإسلام المتطرف إشارة إلى «السلفيين».
أما الجهاديون الجدد فهم من صنع روسي وأميركي بالذات في سورية: حيث تزاوج عنف وعنفوان القومية الوطنية الروسية مع سرية وباطنية السياسات الأوبامية المتأرجحة على أوتار التردد. كلاهما «أفغن» سورية بمساهمات إقليمية ومحلية، وكلاهما سيندم على ما خلقه من مجاهدين جدد مهما كان في ذهنهما، أو في ذهن أحدهما، استدعاء هؤلاء إلى الساحة السورية من أجل القضاء عليهم على أيادي النظام السوري وحلفائه.
إيران «الألف» الثانية تبدو فوق المحاسبة في سورية، بحسب القاموس الغربي. فالأولوية للاتحاد الأوروبي تكمن في إنجاح الديبلوماسية التي تقودها كاثرين اشتون بهدف إنجاح المحادثات النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وقد بات واضحاً أن هذا هو أحد أهم أسباب السماح لطهران بانتهاك القرار الملزم بموجب الفصل السابع لمجلس الأمن والذي يحظر عليها تصدير السلاح والعتاد والرجال.
الإيرانيون مرتاحون وهم على ثقة بأن باراك أوباما لن يحاسب إيران عسكرياً، لا بسبب طموحاتها النووية ولا نتيجة ممارساتها وأدوارها الإقليمية. القيادة الإيرانية تراهن على وهن ما في صلب أوباما وعلى الاستعداد الغربي لإعطائها التكنولوجيا المتطورة مقابل «تجميد» تخصيب اليورانيوم عند نسبة 20 في المئة. القيادة الإيرانية ترى أن في وسعها تقديم الخدمات لإدارة أوباما في العراق وفي لبنان حيث لها نفوذ واسع مع حكومة المالكي ومع «حزب الله». وتجلس القيادة الإيرانية في مقعد الارتياح لأنها تعتقد أن لديها الآن أدوات مفاوضات ومساومات ثمينة جديدة وهي، أداة التفاهم أو المواجهة في الساحة السورية. بكلام آخر، يشعر الإيرانيون أنهم تمكنوا من تطويق تهديدات وإنذارات وتوعدات باراك أوباما وهم يجلسون في مقعد القيادة.
«الألف» الثالثة لها علاقة بالثانية إنما ليس بالضرورة في خانة المواجهة، ذلك أن العلاقة الإيرانية – الإسرائيلية تبقى حتى الآن علاقة تهادنية تاريخياً. فمهما صعّدت طهران خطابها السياسي ضد إسرائيل، أنها في نهاية المطاف واعية لفوائد «شعرة معاوية» مع إسرائيل كأولوية على أية مقاومة تدعو إليها عبر الآخرين.
إسرائيل بدورها مرتاحة تمام الارتياح لأنها لا تخشى ضغوطاً أميركية أو أوروبية حقيقية عليها لإنهاء الاحتلال والتوصل إلى «حل الدولتين». فلقد طوقت ذلك الحل وبات استخدام كلمة «احتلال» غائباً عن الخطاب السياسي والإسلامي بالذات أميركياً.
إدارة أوباما الثانية لن تستطيع أن تقدم للفلسطينيين ما يريدون فهي عجزت عن إيقاف الاستيطان الإسرائيلي الذي يقضي عملياً على حل الدولتين وهي غير جاهزة للمغامرة بالفشل مرة ثانية. لذلك، سيتحوّل الانتباه إلى منع السلطة الفلسطينية من استخدام الأدوات الجديدة لديها بعدما أصبحت دولة غير عضو في الأمم المتحدة لها الحق بالتوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة إسرائيل على الاحتلال والاستيطان بصفتهما جرائم حرب. وهكذا، الأرجح أن تنتهي الإدارة الثانية بالقضاء على الآمال التي أطلقتها الإدارة الأولى عندما انطلق باراك أوباما إلى إسطنبول والقاهرة إما ساذجاً أو منكراً تماماً ماذا كان يفعل هناك.
صحيفة الحياة اللندنية