إدارة أوباما الجديدة: وداعاً أيها السلاح! (فؤاد عجمي)
فؤاد عجمي *
ترجمة نسرين ناضر
سوف تكون لدينا "بصمة" أخف في العالم الخارجي، لن تجازف بلادنا في الخارج مدفوعةً بحماسة شديدة لتأدية المهمّة: هذا هو الوعد الذي أطلقه الرئيس أوباما في ولايته الثانية. ليس تماماً مثل الشعار الذي نادى به جورج مكغافرن "عودي إلى ديارك أميركا"، لكننا لسنا بعيدين جداً عن ذلك الاستياء من الأراضي والقضايا الخارجية.
مَن أفضل من رئيس ذي أصول أجنبية، ومن مقاتلَين مخضرَمين شاركا في حرب فيتنام الحارِقة ويتسلّمان الآن وزارتَي الخارجية والدفاع لمنح هذا الانكفاء طابعاً من الشرعية والدراية؟ من شأن الرجال الثلاثة، أوباما وتشاك هيغل وجون كيري، أن ينفوا التهمة بأنهم يؤمنون في صميمهم بـأن القوة الأميركية تجاوزت مرحلة الذروة وهي الآن في طور التراجع، لكنْ ثمة تشاؤم أكيد في صلب نظرتهم العالمية: نرزح تحت وطأة الأولويات الملحّة في الداخل، تبدأ الالتزامات في الخارج بطريقة جيدة لكنها تنتهي بصورة عبثية، لا نعرف تماماً طبيعة هذه الأماكن البعيدة، كما أن تبنّينا لبعض القضايا يمكن أن يخنق الجهات نفسها التي ترفع لواءها.
سوريا تحترق، لكن علينا أن نمتنع عن التدخّل هناك لأنه لا سبيل أمامنا للتكهّن بشأن منابع الثورة. يُطارد شبح النتائج غير المقصودة إنجازاتنا، ويمكن أن تُهدَر الدماء والكنوز الأميركية على مذبح الأيديولوجيا. يعتبر الثلاثي أن أميركا ليست، قبل كل شيء، "استثنائية" ومميّزة إلى هذه الدرجة. قال هيغل وكيري ذلك صراحةً في مناسبات عدّة، في حين أنه كان على القائد الأعلى أن يختار عباراته بتأنٍّ أكبر. فقد ميّز بين "حروب الضرورة الجيّدة" و"حروب الخيار السيّئة"، بين الحروب التي تستحقّ العناء والحروب الغبيّة، لكن النظرة العالمية الى هذا الرجل السياسي الذي ارتقى بصورة غير متوقَّعة إلى قمّة السلطة السياسية وسط المحنة الاقتصادية، واضحة للعيان.
لم يكن بلدنا محبوباً في أجزاء واسعة من العالم – في العالم الإسلامي على وجه الخصوص – وكان علينا أن نقدّم لهذه الشعوب مدوّنة سلوك جديدة. أحياناً، خرق عدم التواضع ضبط النفس الضروري، لكن سيرته الذاتية واسمه وروابطه العائلية مع الإسلام ساعدت على رأب ذلك الصدع.
في اللغة الفرنسية عبارة جيّدة ومناسبة لوصف ظاهرة أوباما التي تفشّت مثل الحمّى في الخارج قبل أربعة أعوام: trompe l’oeil، أي خدعة للعين. فقد رحّب الأوروبيون والمسلمون الذين سئموا القوميّة الفارضة نفسها لجورج دبليو بوش، بباراك أوباما معتبرين أنه يمثّل قطيعة مع "الحرب على الإرهاب" ومع ثقة أميركا بجهوزيّتها للقتال. أساءت الجماهير في باريس وبرلين، ناهيك عن كراتشي والقاهرة، فهم الشغف الذي يحرّك الرجل الذي وقعوا في غرامه؛ صحيح أنه عاش في جاكرتا في صغره، وأن والده كيني وزوج والدته أندونيسي، لكنه تمرّس في السياسة في المدينة الأكثر أميركية، شيكاغو. لقد كانت مهمّة رئاسته، بالقدر الذي يمكننا التكهّن بأيديولوجيا رجلٍ بهذه الرشاقة، إرساء الدولة القائمة على إعادة التوزيع في الداخل. فقد اعتبر أن من شأنه إنقاذ إرثه بواسطة القانون الذي يحمل توقيعه "أوباما كير" [قانون العناية الصحية]. نعم، قُتِل أسامة بن لادن في عهده، لكن إنقاذ شركة "جنرال موتورز" كان الأقرب إلى قلبه.
بعد نحو عامَين على بداية ولايته الأولى، أدرك العالم الخارجي أن الكوزموبوليتية مجرّد قناع خادع، خلف الاسم الغريب، كما أن التلميحات عن الحماقات الأميركية في الخارج التي أمكن استخلاصها من بعض خطبه، تكشف عن سياسي أميركي أقام مسافة بينه وبين العالم الخارجي. فالخطاب المؤجِّج للمشاعر الذي ألقاه في القاهرة في حزيران 2009 كان في العام الأول من رئاسته؛ ولم يتكرّر هذا الأداء، تبدّد السحر، ولم يعد هناك من مسلمين مستعدّين للوقوع تحت سحر أوباما. فأحرقوا تمثاله في كراتشي، وأصبحت نسبة التأييد له لدى الباكستانيين منخفضة جداً متساوياً بذلك مع جورج دبليو بوش، لكنه استطاع التعايش مع هذا الأمر، فقد أوضح بالأقوال والأفعال أن أميركا لا تملك علاجاً لأمراض باكستان.
"كم واحداً بيننا يعرفون العراق ويفهمونه فعلاً، كم واحداً يعرفون ويفهمون هذا البلد وتاريخه وشعبه ودوره في العالم العربي؟" هذا الكلام قاله تشاك هيغل في تشرين الأول 2002 في مجلس الشيوخ في النقاش الذي سبق الحرب الأميركية في العراق وأعطى الضوء الأخضر لشنّها. أضاف هيغل "يجب إطلاع الشعب الأميركي على ما يترتّب عن هذا الأمر من التزام طويل الأمد ومخاطر وتكاليف.
يجب ألا نقع تحت إغراء التوقّعات بالرقص المؤيد في الشوارع". كان ابن ولاية نبراسكا يتحدّث عن العراق، لكنه يفكّر في حرب فيتنام التي قضّت مضجعه وطبعت شخصيّته. صوّت لمصلحة استخدام القوّة. ولم يمضِ وقت طويل حتى عبّر جندي المشاة الحائز مرّتين على وسام "القلب الأرجواني"، عن استيائه من الحرب الجديدة.
لقد بات معلوماً أن تشاك هيغل خدم في الجيش إلى جانب شقيقه الأصغر طوم، وأنّ كلَيهما تعرّضا للإصابة. قال هيغل في مقابلة معه في مجلة "فيتنام" نُشِرَت في كانون الأول 2012 "كل واحد منّا هو وليد تجاربه، والمرحلة التي أمضيتها في القتال طبعت إلى حد كبير آرائي عن الحرب". وتابع "في الليلة التي نُقِلنا فيها طوم وأنا من تلك القرية لتلقّي العلاج في العام 1968، قلت في نفسي: إذا خرجت حياً وأصبحت يوماً ما في موقع يتيح لي التأثير في السياسة، سأفعل كل ما بوسعي لتفادي الحروب العقيمة والعبثية؛ لم أنسَ البتّة هذا الوعد الذي قطعته على نفسي، وقد حاولت الالتزام به خلال عملي في مجلس الشيوخ". لا حاجة إلى تحليل الرجل نفسياً لإدراك أن تصويته على قرار الحرب في العراق كان، انطلاقاً من معاييره الأخلاقية، خطأ في التقدير من جانبه. فالشغف الذي تحدّث به عن العراق بعد عامَين أو ثلاثة، وانتقاده الشديد لقرار زيادة عديد الجنود معتبراً أنه خطأ فادح، كانا بمثابة فعل تكفير من رجل اعتبر أنه كان يُفترَض به أن يتصرّف بحكمة أكبر في الوقت المناسب.
إذا كان هيغل ظلّ مقتنعاً طوال سنوات بأحقّية حرب فيتنام – قضية نبيلة ضلّت السبيل لأن التنفيذ كان سيئاً – فإن مسار جون كيري بعد مشاركته في تلك الحرب بصفته لفتنت في البحرية، كان مختلفاً جداً بقدر الاختلاف ربما بين نبراسكا ومساتشوستس. فالكلمة التي ألقاها أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ في 22 نيسان 1971 طبعت مسيرته السياسية إلى الأبد. فقد تحدّث عن الجنود الأميركيين الذين "اغتَصبوا، وقطعوا الآذان والرؤوس… وأطلقوا النار عشوائياً على المدنيين، ودمّروا القرى بالكامل بطريقة تذكّر بجنكيز خان". كان شنّ تلك الحرب بلا جدوى، لأنه لم يكن هناك "ما يمكن أن يحدث في جنوب فيتنام ويُشكّل تهديداً واقعياً للولايات المتحدة الأميركية". ذهبت أميركا إلى هناك حاملةً مفاهيم الحرّية السامية، مع التمييز بين الحرّية والشيوعية، لكن أبناء جنوب فيتنام "أرادوا فقط العمل في حقول الأرز من دون أن تقصفهم المروحيات وتحرق قنابل النابالم قراهم وتمزّق بلادهم إرباً إرباً".
لم يتراجع عن هذه الكلمات. مشاركته في القتال، وحصوله على وسام "القلب الأرجواني" ثلاث مرّات، وعلى النجمة البرونزية، لم تبرِّئه في شكل كامل في عيون خصومه. لقد بذل كيري، وهو أشدّ صلابة عاطفياً وأكثر كبتاً لمشاعره من تشاك هيغل، كل ما بوسعه للتخلّص من شبح فيتنام. فأصبح حلاّل العُقَد، يسافر إلى الخارج إنما يقصد في شكل أساسي السفارات والقنصليات ليتعرّف أكثر على القادة ورؤساء الدول. أصبح التكتّم شعاره، والهجمات التي تعرّض لها من محاربين قدامى شاركوا في حرب فيتنام خلال ترشّحه للرئاسة في العام 2004 زادته تحفّظاً وتكتّماً.
لا داعي لأن يقلق العالم الخارجي من تثبيت النفوذ الأميركي في ظل الثلاثي أوباما وكيري وهيغل. الناس المنكوبون الذين ربما يتذكّرون حقبة مختلفة عندما كانت الدرع الأميركية، ونعم، الجزمات على الأرض، تحدث الفارق بين الإنقاذ والكارثة، هم من عليهم أن يتقبّلوا الآن الحقيقة شبه المؤكّدة بأن الفرسان الأميركيين لن يهبّوا لنجدتهم.
*باحث في معهد هوفر جامعة ستانفورد الاميركية
صحيفة النهار اللبنانية