إدانة العنصرية مفتاح حل قضية فلسطين
هذا الكتاب يُمثّل وثيقة فكرية لها قيمتها الذاتية الكبيرة، أولاً لأنه من إصدار دار نشر إنجليزية راسخة السمعة واسعة الانتشار، وثانياً لأنه يعرض لقارئ الإنجليزية ــ لغة الكتاب ــ الأبعاد التي آلت إليها قضية فلسطين، لا من خلال المنظور الإنساني، ولكن من المنظورات الموضوعية الأخرى..
حيث يتطرق إلى الأبعاد التاريخية والعنصرية والمستقبلية للشأن الفلسطيني باعتباره قضية العرب المحورية، برغم ما أصبح يحفّ بها من سحابات جلّلت الساحة العربية في اللحظة الراهنة، بفعل ما أصبحت هذه الساحة الجريحة تشهده وتكابده من صراعات داخلية وحروب أهلية ومواجهات طائفية في أكثر من موقع على خارطة العالم العربي الراهن.
ثم تزيد قيمة الكتاب من واقع الحوارات والآراء التي تعود إلى اثنين من أهم المفكرين الأكاديميين والسياسيين المعاصرين، وهما الأستاذان نعوم تشومسكي الذي أشتُهر بآرائه الصريحة والناقدة لسياسات الدول الغربية والكيان الصهيوني، إضافة إلى إيلان بابيه، الذي يعد من الأصوات الصريحة والموضوعية والشجاعة في داخل الكيان الاستيطاني العنصري المسمى بإسرائيل.
وعلى اختلاف ما أدلى به هذان القطبان من أفكار وما طرحاه من آراء بشأن قضية فلسطين، فلا تزال سطور الكتاب تعكس ما ظلا يصدران عنه من فكر بنّاء ونظرة تجمع بين روح العدل والإنسانية.
فلسطين هو الاسم الذي لايزال يرتبط في وجدان وأذهان شرفاء العالم بمأساة إنسانية وقضية وطنية ــ قومية ما برحت أبعادها قائمة وبإلحاح شديد حتى اليوم، حيث تعددت أبعادها ..
ــ كما أصبح بديهياً- ما بين اغتصاب أرض تخصّ شعباً عربياً إلى تحويل أبناء هذا الشعب العربي، إما إلى محكومين خاضعين لسطوة احتلال عنصري أجنبي، أو إلى ساكني مخيّمات اللجوء بعيداً عن وطن يملكونه ويستحقونه بكل ما يرتبط بالوطن من معنى وتاريخ ومواريث وذكريات.
وعلى تعدد التعريفات والمصطلحات، فقد نتصور أن أهمها من حيث الدقة والبلاغة السياسية هو ما ذهبت إليه الأدبيات السياسية المعاصرة في الوطن العربي، حين أوردت بشأن فلسطين- القضية والمأساة التعريف التالي: إن قطعة من الأرض العربية في فلسطين قد أُعطيت بغير سند من الطبيعة أو التاريخ لحركة عنصرية عدوانية، أرادها المستعمر لتكون سوطاً في يده يلهب به ظهر النضال العربي، كما أرادها المستعمر فاصلاً يعوق امتداد الأرض العربية ويحجز المشرق (العربي) عن المغرب (العربي).
وبديهي أن مثل هذا التعريف يؤكد على أن اغتصاب فلسطين يجسد جزءا من المدّ الاستعماري العالمي الذي اجتاح الشطر الجنوبي من عالمنا منذ القرن الثامن عشر. ثم بلغ هذا المد الإمبريالي ذروته الشريرة مع سنوات القرن التاسع عشر وصولاً بالطبع إلى القرن العشرين.
من هنا يكاد المراقبون والمحللون المنصفون يُجمعون على أمر واحد لايزال يشكل وصمة في جبين عالمنا الراهن وهو: إن فلسطين هي الموروث الوحيد الباقي للأسف من تركة الاستعمار، وذلك بعد أن كادت عملية تصفية الاستعمار تشارف نهايتها.
وإذا كان النضال من أجل تحرير فلسطين وتأكيد عدالة قضية شعبها قد تعددت أساليبه ولاتزال، وفيما كان بديهياً أن يظل أبناء شعبنا الفلسطيني في طليعة هذا النضال، فإن عدالة القضية، فضلاً عن السلوك الاستفزازي لكيان الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، ما برحت عوامل تستأثر باهتمام شرفاء عالمنا وصفوة علمائه ونخبة سياسييه ومفكريه.
من هنا كذلك اهتمت الأوساط الفكرية والسياسية المعنية بهذه القضايا بصدور كتاب في الآونة الأخيرة يتألف عنوانه من جزءين على النحو التالي:»عن فلسطين«. وإذا كانت كلمة فلسطين تجسد شعاراً مشحوناً بألف ألف معنى إلا أن أهمية الكتاب لا تلبث تتعمق وتزداد عندما يطالع القارئ اسمي رمزين من رموز العمق الفكري والتحليل السياسي في عصرنا وهما:
ــ (1) نعوم تشومسكي
ــ (2) إيلان بابيـــــــــــــه
الأول هو الأستاذ الأكاديمي، العَلَم (بفتح العين)، في أميركا، والثاني هو بدوره الأستاذ الأكاديمي المستنير في إسرائيل ذاتها.
بين نعوم وإيلان
وفور صدور كتابنا بادر المحللون المنصفون إلى تناول هذا الكتاب بسطور تقول بما يلي: لم تكن الحاجة إلى التضامن مع الفلسطينيين بأكثر مما هي عليه الآن، وها هو نعوم تشومسكي وإيلان بابيه، وهما صوتان قياديان في الكفاح من أجل تحرير فلسطين، يناقشان في سطور كتابهما معالم الطريق الذي لابد وأن يسلكه الفلسطينيون، وكيف يستطيع المجتمع الدولي أن يضغط على إسرائيل من أجل إنهاء ما تقترفه من انتهاكات لحقوق الإنسان ضد شعب فلسطين.
ولعل أهم ما يسترعي اهتمامنا كقارئين لهذا الكتاب هو ما تتوقف عنده الحوارات المسهبة التي أجراها داعية حقوق الإنسان فرانك بارات (محرر الكتاب) مع كل من الأستاذين تشومسكي وبابيه: كلاهما اختار ــ بموضوعية علمية حقاً- أن يركز على حقيقة الربط بين ما تمارسه إسرائيل وخاصة تحت حكم الليكود والأحزاب المسمّاة بالدينية وسائر قطاعات اليمين السياسي الصهيوني بشكل عام..
وهي ممارسات عنصرية عدوانية في جوهرها، وبين سياسة الأبارثيد الفصل العنصري، على نحو ما يذهب إليه المصطلح المعتمد في أدبيات الأمم المتحدة، وهي السياسة التي ارتبطت، كما هو معروف، بحكم الأقلية البيضاء من سلالة المستوطنين المستعمرين البِيض، وبحق الأغلبية الساحقة من الملونين في جنوب إفريقيا.
4 تناقضات أساسية
ولنا أن نتوقف مع طروحات هذا الكتاب عندما نصفه بأنه التناقضات العديدة التي مازالت تشوب قضية الصراع بين فلسطين وإسرائيل.
البروفيسور إيلان بابيه يلخص هذه التناقضات في تساؤلات أربعة على النحو التالي:
تشومسكي يحاول تفسير ذلك التأييد على طول الخط الذي ما برحت تحظى به إسرائيل رغم سياساتها العنصرية والعدوانية إلى حد الدموية من جانب دول وكيانات سياسية معاصرة تتمثل بالذات في الولايات المتحدة + كندا+ استراليا.
يرى تشومسكي في هذا المضمار أن الكيانات السابق ذكرها تتعاطف مع إسرائيل إذ يجمع بين الطرفين حالة وتواريخ الاستيطان التي عاشتها استراليا وكندا والولايات المتحدة على حساب الشعوب الأصلية في تلك الأصقاع الجنوبية والشمالية من عالمنا. وها هو الكيان الصهيوني يكرر حالة الاستيطان على حساب الشعب العربي الفلسطيني فيما يتسم هذا الكيان بخصائص أساسية ثلاث هي: العنصرية+ الاستيطان (الاستعماري)+ العدوان. وهو التصنيف والتوصيف نفسه الذي سبق وطرحه المفكر الأكاديمي الفلسطيني الراحل، البروفيسور فايز صايغ منذ عقد الستينيات من القرن العشرين.
أخيراً يلاحظ قارئ هذا الكتاب كيف يتفق المحاوران، تشومسكي وبابيه، على كون إسرائيل ظاهرة من ظواهر الاستعمار الاستيطاني وينبغي التعامل معها، ومع حق الشعب الفلسطيني، من هذا المنظور، المقارن، كما أسلفنا، مع آفة الأبارثيد التي شهدتها جنوب إفريقيا. لكن المحاوريْن يختلفان عبر سطور كتابنا في نوعية وخطوات وربما عناوين الحل.
وباختصار شديد فإن تشومسكي يرى أن حل الدولتين هو الحل الواقعي الوحيد وخاصة أنه يحوز قدراً لا ينكر من توافق الآراء على الصعيد الدولي.
وبالمقابل فإن بابيــه يرى أن مقولة الدولتين لا تشكل حلاً من الأساس، لأنه في رأي المفكر المذكور لا يتصدى للمشكلة الجوهرية التي يصفها بأن مشكلة الصهيونية باعتبارها حركة استعمارية، وبالتالي لإسرائيل باعتبارها كياناً قائماً على العنصرية والفصل العنصري.
ومن هنا يرى إيلان بابيه أن الحل يبدأ كما يقول بالنص: ضمن إطار يتمتع فيه كل الأطراف (بمن في ذلك اللاجئون الفلسطينيون) بكل الحقوق وكل المساواة وكل المشاركة في رسم مسارات المستقبل.
4 أساليب للتصدي للاحتلال
لا تقف سطور الكتاب عند مجرد توصيف الوضع أو تشخيص الحالة الفلسطينية، كما قد نقول.
إن كلاً من تشومسكي وبابيه يمضي شوطاً أبعد من مجرد هذا التوصيف أو التشخيص. وبديهي أن يأتي أول الأشواط متمثلاً في كيفية وأساليب المواجهة التي لابد وأن تتصدى لهذا الأبارثيد الصهيوني، فيما يكون الشوط النهائي أو المستهدف هو الارتقاء إلى ما وصلت إليه الأوضاع في جنوب إفريقيا مع مطلع عقد التسعينيات من القرن العشرين..
وهو ما يتمثل في إنهاء أو إسقاط سياسة الأبارثيد المقيتة وإعلان دولة جديدة في بريتوريا تعود فيها مقاليد الأمور إلى الأغلبية من أبناء جنوب إفريقيا، ولكن دون أن يضطروا إلى خوض معارك ــ دموية بحكم التعريف- مع سكانها البيض، وهو ما كفلت تحقيقه في الأفق السياسي في البلد الإفريقي حكمة زعيمها التاريخي نيلسون مانديلا، حين ارتقى الرجل فوق جراحات السجن والتنكيل ليطرح بل ويؤكد على شعار الحقيقة والمصالحة.
وحين يتخذ كتابنا من الربط بين سياسة الأبارثيد الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وسياسة اليمين الصهيوني في إسرائيل تجاه الشعب العربي الفلسطيني، فهو لا يقتصر، على نحو ما توضحه آراء الأستاذين تشومسكي وبابيه، على مجرد التوصيف أو الإدانة، الكتاب يحرص على التحوّل من مستوى التحليل إلى مستوى التحريك كما قد نقول.
إن آراء المفكريْن الأميركي والإسرائيلي تكاد تجمع على فعالية التصدي لإسرائيل من خلال وعي، وربما محاكاة الدروس المستفادة من نجاح العالم في التصدي لسياسة ونظام البيض الاستيطاني العنصري الذي كان في جنوب إفريقيا. وهي سياسة قامت على أسس عديدة واستخدم فيها العالم أساليب شتى شهدتها بالذات حقبة الثلث الأخير من القرن العشرين، ومن هذه الأساليب ما يلي:
من تناقضات عصرنا أن جاءت الحرب العالمية الثانية وصراعات القوى الكبرى في مطلع عقد الأربعينيات من القرن الماضي، لتضع الحرب المذكورة أوزارها في عام 1945 (منذ 70 عاماً بالضبط) وكان من ضمن هذه الأوزار غروب تركة الإمبريالية والاستيطان الاستعماري في إفريقيا وآسيا، حيث جاءت تلك الفترة لتشهد عنفوان حركات التحرر الوطني واستعداد شعوب القارتين لنيل الاستقلال. من هنا كان الاستثناء الغريب وربما الوحيد يتمثل في كلمة واحدة هي فلسطــــين، وبالتحديد في احتلال هذه البقعة من قلب الوطن العربي وإعلان الكيان المغتصِب الذي حمل اسم إسرائيل، يوم 15 مايو من عام 1948.
المؤلف
ثمة أسماء لثلاث شخصيات لها مساهماتها في وضع وصياغة مادة هذا الكتاب: هناك مثلاً محرر المادة فرانك بارات وهو ناشط معروف في مجال حقوق الإنسان ويتولى حالياً موقع المسؤولية عن شبكة العمل القانوني من أجل فلسطين. وهناك أيضاً واحد من قطبي هذا الكتاب وهو البروفيسور إيلان بابيه، الأستاذ الجامعي الذي لا يفتأ يطلق دعواته وإصداراته من داخل إسرائيل نفسها. أما المحور الأساسي للكتاب فهو البروفيسور نعوم تشومسكي أستاذ اللغويات الأشهر في معهد ماساشوستس المرموق بالولايات المتحدة.
نعوم تشومسكي وآخرون
الناشر: مؤسسة بنغوين، نيويورك، 2015
عدد الصفحات: 200 صفحة
صحيفة البيان الأماراتية