إردوغان ومعركة تشالديران
بعد انشقاق رجب طيب إردوغان وعبدالله غول عن أستاذهما نجم الدين أربكان، تلاقت المصالح القوميَّة التركية بعنوانها الإسلامي الجديد مع الأهداف الأميركية الإسرائيلية في محاصرة إيران ومتابعة تفكيك روسيا والصّين.
ما إن هُزم الشاه إسماعيل الصفوي على يد السلطان سليم الأول في معركة تشالديران في العام 1514، حتى انكفأ إلى الداخل لإعادة ترتيب أمور إمبراطوريته الواسعة التي تمتد إلى جبال تورا بورا في أفغانستان وشمال الهند، وتضمّ شعوباً وإثنيات متعدّدة اللغات، ويغلب عليها انتماء مذهبي بعنوان مدرسة أهل السنّة والجماعة.
ونتيجة الخشية من تمدّد العثمانيين إلى إمبراطوريّته، لجأ إلى مسألتين أساسيتين لحمايتها من التأثيرات الخارجية، فعمل على فرض اللغة الفارسية لغة رسمية وحيدة للتداول، وهو التركماني الذي كان يكتب أشعاره باللغة التركية، وفرض المذهب الشيعي الإثني عشري ليحرم خصومه من الشرعية الدينية، بعد أن تبنّوا المذهب الحنفي الذي أباح أن يكون الخليفة والحاكم من غير قريش، ما رسم حدوداً فاصلة بين الإمبراطوريتين بعد صدامات متعددة في القرنين الخامس العشر والسادس عشر، وحرم العثمانيين الأتراك من التمدّد باتجاه الشرق.
مع انقلاب كنعان إيڤرين في العام 1980، ومجيء توركوت أوزال، بدأت الرياح التركية بتغيير توجّهات أشرعتها الجديدة، وبدء عملية النكوص على ما بناه مصطفى كمال أتاتورك، وإعادة تعريف القومية التركية وفقاً للمصالح، وبدأ الحديث عن المجال القومي التركي الَّذي يمتدّ إلى إقليم شنكيانغ في شمال غرب الصين، والَّذي يحمل اسماً آخر، وهو تركستان الشرقية، ويشمل دول آسيا الوسطى والقوقاز وشمال إيران.
تلاقت المصالح القوميَّة التركية بعنوانها الإسلامي الجديد “حزب العدالة والتنمية” – بعد انشقاق رجب طيب إردوغان وعبدالله غول عن أستاذهما نجم الدين أربكان في العام 2001 – مع الأهداف الأميركية الإسرائيلية في محاصرة إيران وتفكيكها من الداخل، ومتابعة تفكيك روسيا والصّين باستخدام سلاحي القومية التركية والإسلام السياسي، فتم أولاً استخدام الإسلام السياسي الإخواني الَّذي يتخذ القيادة التركية عنواناً له في إدارة معركته في شمال أفريقيا العربية والتمدد باتجاه دمشق، ثم الانتقال إلى تحقيق الهدف النهائي لها بمحاصرة الدول الثلاث وتفكيكها.
لكنَّ خروج الحشود المصرية الهائلة في 30 تموز/يوليو 2013 في المدن المصرية، وتسلُّم الجيش المصري مقاليد السلطة المصرية، تسبَّب ببدء انهيار المشروع الإخواني، وتلاه انقلاب مسار العمليات العسكرية في سوريا بعد دخول القوات الجوية الروسية في العام 2015، لتقديم الدعم الكامل للجيش السوري وحلفائه.
ورغم انقلاب الصّراع وجمود العمليّات العسكريّة، فإنَّ النتائج التي وصلت إليها المعادلات الدولية والإقليمية تؤكد انكفاء واضحاً لدور الولايات المتحدة على مستوى الهيمنة على مسار السياسات الاقتصادية، ما دفع الإدارة الأميركية إلى التحرك في سباق مع الزمن، لإحداث متغيرات كبرى في مواجهة الدول الثلاث، ما دفع إردوغان أيضاً إلى إرسال خبراء عسكريين أتراك مع المجموعات الإسلامية المسلَّحة من السوريين بشكل أساسي إلى شمال سوريا والعراق، وإلى ليبيا واليمن، بدعم واضح من الولايات المتحدة، ووسط صمت أغلب الدول الأوروبية، والنقطة الأهم كانت تقتضي إشعال منطقة القوقاز الشديدة الحساسية بالنسبة إلى إيران في الدرجة الأولى، وبالنسبة إلى روسيا في الدرجة الثانية.
ما إن انهار الاتحاد السوفياتي حتى سارعت الولايات المتحدة و”إسرائيل” وتركيا إلى إقامة العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول آسيا الوسطى، مع التركيز على أذربيجان المستقلة حديثاً، واستغلال قلق السلطة الآذرية الجديدة من إيران بشكل أساسي، لكون الكتلة السكانية الكبرى من الآذريين تقطن في إيران، وتتمتع بثقل سكاني يتجاوز 25% من مجمل سكان إيران، وتسيطر على أغلب النشاط الاقتصادي بشقيه الصناعي والتجاري، إضافةً إلى تسلمها عدداً كبيراً من المراكز القيادية، وعلى رأسها مرشد الثورة الإسلامية علي خامنئي، الذي ينحدر من أصول آذرية.
وقد نجحت القوى الثلاث بنسج علاقات سياسية وأمنية مع باكو، وقدمت كل منها مساعدات أمنية وعسكرية لتحصين الدولة الجديدة التي تتيح الإطلالة على تفاصيل الحياة الداخلية في إيران، وإقامة مراكز تجسس للموساد الإسرائيلي، وأدَّت تركيا الدّور الأساس فيها باستثمار العامل القوميّ، والعمل عليه داخل إيران بمحاولة استقطاب الآذريين الترك في شمال غرب إيران لمصلحة المشروع الطوراني الجديد، فتمَّ العمل على إطلاق جبهة تحرير أذربيجان، وإحياء الشعور القومي التركي، وهو ما ظهر أثناء مباراة لكرة القدم في مدينة تبريز في العام 2019 برفع الأعلام التركية.
تأتي خطورة انفجار الصراع الأرمني الآذري الجديد من التوجهات العقائدية الإخوانية للرئيس التركي رجب طيب إردوغان وتزاوجها مع العامل القومي، وأصبح واضحاً مدى اهتمامه بإحياء المناسبات الدينيّة المرتبطة بتشكّل الدولة العثمانية، ابتداءً من معركة ملاذ كُرد، مروراً بمعركة مرج دابق التي انتصر فيها السلطان سليم الأول على قانصوه الغوري، ما دفعه إلى توقيت احتلاله لجرابلس في العام 2016 في الذكرى المئوية الخامسة للمعركة وفي اليوم نفسه الموافق لـ24 آب/أغسطس.
وقد أضحى انغماسه في ذكريات الإمبراطورية العثمانية كبيراً إلى درجة مرضيَّة، وهو في المعركة الأخيرة التي افتعلها بحجة دعم أذربيجان لاستعادة إقليم ناغورنو كاراباخ، يستطيع إنجاز عدة أهداف على طريق وصوله إلى إقليم شنكيانغ في الصين، بما يَصب في مصلحته شخصياً، لينجز المهمات المتفق عليها مع تل أبيب وواشنطن، والتي من المفترض أن تحوله إلى السلطان العثماني الجديد، فالمعارك تدور قرب الحدود الإيرانية مع أذربيجان التي تمتد إلى 657 كم، ويعمل على فتح ممر بين إقليم ناخيتشيڤان الآذري على الحدود التركية وأذربيجان عبر أراضي الدولة الأرمينية، وإسقاط ناغورنو كاراباخ الأرمني، ونقل نتائج الحرب إلى أذربيجان الغربية والشرقية وأردبيل في إيران، وتحريك النزعة القومية في إيران المتعددة القوميات، ما يؤهب للاستحواذ على شمال إيران للوصول إلى تركمانستان وبقية دول آسيا الوسطى التي تهيمن عليها الإثنيات التركية، وفي الوقت نفسه يرضي ذاته بالانتقام للسلطان سليم الأول من الشاه إسماعيل الصفوي التركي، الذي سار على طريق جده جنيد، الذي حوّل الطريقة الصوفية لصفي الدين الأردبيلي من المذهب الشافعي إلى المذهب الشيعي ذي الطبيعة المُغالية، ما حرم السلاطين العثمانيين من التوغّل شرقاً لإحكام السيطرة على مساحات الإمبراطورية المغولية المستتركة، وتُغلف الصراعات على الغاز والنفط وممراتها بغلالات دينية مذهبية ذات بعد تاريخي ما زالت تفرض بصمتها على صراع الهويات، الَّذي لن ينتهي إلا بالإقرار بعبثية الصراعات وكلفتها الدموية والاقتصادية على كل الشّعوب، والانتقال إلى آفاق جديدة من الشّراكة والتعاون.
الميادين نت