قبل 21 عاماً، حوّل عشرات المقاومين، مخيّم جنين إلى مقبرة للجنود الإسرائيليّين الغزاة. في ذلك الوقت، خاض هؤلاء بأسلحتهم البسيطة معارك ضارية، انتهى بعضها بخسائر فادحة لجيش الاحتلال الذي كان مدعوماً بالـ«ميركافا» و«الأباتشي» والـ«F16»، والتي حوّلت المخيّم إلى كومة ركام. لكن العدو يعود مرّة أخرى إلى المخيم نفسه، ليجد أن الركام والأشلاء التي داسها بدبّاباته قد نمت من جديد لتقاتل مرّة أخرى. في عام 2002، قال شاؤول موفاز، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك، إن جنين لن تقوم لها قائمة أبداً، متباهياً باعتقاده بأنه استطاع اجتثاث المقاومة. إلّا أن السنوات التي تلت تلك المعركة أثبتت فشل الاحتلال في مهمّته؛ إذ بقي المخيم قادراً على توليد المقاومين، حتى تحوّل اليوم إلى مركز لقيادتهم. ورغم هذا، يعود مسؤول سياسي في حكومة العدو ليقول إن «جنين لن تكون بعد الآن ملاذاً للإرهاب».
بعد شهور من التحريض على المخيم، بدأ جيش الاحتلال، فجر أمس، عدواناً على مخيم جنين الذي لا تتعدّى مساحته كيلومتراً واحداً، دافعاً إليه بلواء كامل يتراوح عديده ما بين 4 آلاف و7 آلاف جندي من نخبة الجيش والوحدات الخاصة من مثل «مغيلان» و«دوفدوفان» و«إيغوز» وغيرها. كما دعمَ هؤلاءِ بأسراب من الطائرات المسيّرة والطائرات الحربية، ومئات الآليات العسكرية الثقيلة من جيبات ومجنزرات وجرافات. وكلّ ذلك لمواجهة عشرات المقاومين الذين لا يملكون سوى بنادقهم الآلية وعبواتهم وإرادة من فولاذ للقتال والمقاومة. وبدأ العدوان بعدد كبير من الغارات التي شنّتها الطائرات الحربية على المخيم، ما أنبأ باحتلال الضربات الجوّية موقعاً رئيساً في العملية بغرض تصفية أكبر عدد ممكن من الأهداف، وكذلك باستخدام جرافات «D9» العملاقة لتجريف الشوارع والطرقات وهدم المنازل. وأعادت هذه المشاهد إلى الأذهان ما قام به العدو قبل نحو عقدَين في جنين أيضاً، حيث استخدم القوة القاتلة والتدميرية نفسها، سواء بالجرافات الضخمة أو الطائرات الحربية، من أجل كسر إرادة المقاومين.
ويكشف هذا العدوان الفشل الكبير لعملية «كاسر الأمواج» التي بدأها جيش العدو منذ آذار 2022 في الضفة الغربية. كما يكشف عمق الأزمة التي سبّبتها المقاومة في جنين لحكومة الاحتلال، بعدما سُجّل تطوّر كبير في إمكاناتها وقدراتها، تجلّى في تعطيلها عشر آليات محصّنة قبل أسبوعين في المخيم، ونجاحها في إسقاط عدد من المسيّرات التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي للحصول على معلومات، وتحويلها المخيم إلى نقطة انطلاق رئيسة لتنفيذ عمليات ضدّ المستوطنين. وإذ يبدو من المبكر استكشاف نتائج العدوان، فقد بدأت قيادة العدو، من الآن، التبجّح بـ«نجاحها» وقدرتها على إنهاء المقاومة أو إضعافها، معتقدةً بأنها بما قامت به وجّهت رسالة ردع إلى كلّ من يفكّر في استنساخ نموذج جنين، وتحديداً إلى مدينتَي نابلس وطولكرم. لكن فصائل المقاومة أكدت أن جيش الاحتلال لن يحقّق أهدافه من خلال عدوانه، ولن يستطيع حسم المعركة ضدّ المقاومة والشعب الفلسطيني، «الذي سيواصل نضاله وقتاله حتى تحقيق أهدافه في الحرية والاستقلال».
والظاهر أن إسرائيل تريد إبقاء عدوانها محصوراً في مخيم جنين فقط، وفي أقصر مدّة زمنية. كما لا تريد الإعلان عن شنّ عملية عسكرية واسعة، تحسباً لردود فعل دولية يمكن أن يستجلبها إعلان كهذا، على غرار ما حدث أيام «السور الواقي». ولكن ذلك قد لا يتحقّق لها إذا لم يسفر العدوان عن نتائج مُرضية لحكومة بنيامين نتنياهو، واذا ما استطاعت المقاومة إطالة أمد الاشتباك، وتوجيه ضربات قوية إلى قوات الاحتلال وإلحاق خسائر بها. وفي هذا الإطار، قال وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، «(إنّنا) متأهّبون على الجبهات كافة، وجاهزون لكلّ سيناريو»، بينما وجّهت دولة الاحتلال تهديداً صريحاً إلى قادة فصائل المقاومة في قطاع غزة بالاغتيال، في حال إطلاق قذائف صاروخية من القطاع ردّاً على العدوان على مدينة جنين ومخيّمها، وسط استنفار لجيش العدو على حدود القطاع، وتفعيل لمنظومات الدفاع الجوي من مثل «القبّة الحديدية» في جنوب فلسطين المحتلة.
وفي حين تبحث إسرائيل، من خلف عدوانها، عن ترميم قوة ردعها في الضفة الغربية، والتي تعرّضت لتآكل كبير جرّاء تنامي المقاومة وفعلها وعملياتها، فإن ما تقوم به الآن يشكّل بحدّ ذاته ضغطاً مزمناً بالنسبة إلى حكومتها، لأنه قد يحفّز الاشتعال في بقيّة الساحات، وهو ما استبقته بإطلاق تهديدات ضدّ غزة في محاولة لمنع تدخّلها. في المقابل، فإن المقاومة في القطاع تجد نفسها أمام تحدّي تثبيت معادلة «وحدة الساحات»؛ إذ لا يمكنها غضّ النظر عمّا يجري في جنين، سواء لناحية عدد الشهداء وحجم الدمار والقصف والتدمير، أو لناحية اجتثاث المقاومة، وبالتالي إنهاء ظاهرة الاشتباك في الضفة. وبحسب المعلومات المتوفّرة، فإن المقاومة في غزة أوصلت رسالة إلى أطراف دولية بضرورة وقف العدوان فوراً على جنين، تحت طائلة الوصول إلى «تصعيد واسع»، مؤكّدة أنها «قادرة على الردّ بالطريقة وفي المكان المناسبين».
على أيّ حال، يبدو العدوان على جنين مفتوحاً على الاحتمالات كافة، وخصوصاً أن المقاومة تتابع ما يجري وتُخضعه لتقييمها، لتتّخذ على أساسه خطواتها المقبلة، سواء بإسناد المخيم وإشعال المواجهة وتصعيدها، أو اختيار طريقة أخرى للردّ. وفي هذا الإطار، أكدت «الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة» أنها في حالة انعقاد دائم لمتابعة العدوان على جنين، وأن «المقاومة في كلّ الساحات لن تسمح للعدو بالتغوّل على أهلنا في جنين أو الاستفراد بهم»، داعيةً كلّ فصائل المقاومة في جنين ومخيمها إلى «التكاتف وخوض المواجهة بشكل موحّد». وأشارت في بيانها إلى أن «استمرار العدوان على جنين وسلوك الاحتلال هو ما سيحدّد طبيعة ردّ المقاومة». والجدير بالتذكير به، هنا، أن مخيم جنين شكّل، في العامين الماضيين، كلمة السر في بعث المقاومة المسلحة في الضفة؛ إذ إن ما تأسّس فيه من نواة للمقاومة، سرعان ما انتقل إلى مدن وبلدات ومخيمات أخرى، واتّسع حجمه وتأثير فعله؛ وإذا كانت إسرائيل تريد، اليوم، تدمير هذه الظاهرة وتجفيف منابعها، فإن ذلك سيوسّع مروحة الخيارات أمام المقاومة، من أجل منع تحقّق هذا الهدف.
صحيفة الأخبار اللبنانية