يَفترض كثيرون أن الحرب ستستعيد زخمها الذي كانت عليه وربّما أكثر، ما إنْ تنتهي الهدنة المؤقتة بين العدوّ وحركة «حماس» في قطاع غزة، وإنْ كان افتراض تمديدها أياماً إضافية قائماً أيضاً؛ إذ ستحرص فصائل المقاومة، من جهتها، على ذلك، عبر إطلاق سراح مزيد من الأسرى، وهو ما سبق أن قالت إسرائيل إنها لن تعارضه، ولكن في إطار معادلة: المزيد مقابل المزيد.
وبناءً على هذه الفرضية، لن يقتصر إطلاق الأسرى الإسرائيليين، ضمن الفئة المحدّدة وفقاً لصفقة التبادل، على أربع دفعات فحسب، بل يمكن أن تليها أخرى، فيما يستوجب تمديد الهدنة، ويكفل لـ«حماس» أن تتفاهم مع فصائل المقاومة الأخرى التي تحتفظ بالعشرات منهم. ووفق مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى، فإن «لدى حماس 50 امرأة وطفلاً فقط، وربّما يمكنها الوصول إلى 20 آخرين، لكن هناك أيضاً 30 (أسيراً) إضافياً مدرجين في القائمة التي سعت إسرائيل في البداية إلى إطلاق سراحهم، وهم محتجزون لدى حركة الجهاد الإسلامي، ومنظمات فلسطينية أصغر».
وانطلاقاً من ذلك، ستكون إسرائيل أمام تحدٍّ يمثّل تهديداً لزخم عمليتها العسكرية، إذ سيكون عليها أن تقرّر في شأن مزيد من الهدن تباعاً، أو أن تستأنف القتال، الذي وصل بدوره إلى مستوى يتطلّب منها اتّخاذ قرار بالمضيّ قدماً لمواجهة مخاطر العملية البرية بمستويات أعلى، بعدما قضمت قواتها قشرة التماس الرخوة حول المناطق العمرانية التي تُعدّ مراكز ثقل المقاومين الفلسطينيين، فيما بات عليها أن تخوض القتال مباشرة في المناطق الصلبة دفاعياً، وسط توقعات بسقوط المزيد من القتلى والخسائر في صفوف قواتها.
ويرتبط قرار إسرائيل في هذا الشأن بجملة عوامل، يأتي في مقدّمها عجزها عن استرجاع أسرى من خلال العملية البرية التي خيضت في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، مع ما حملته من هدف شبه وحيد، يتمثّل في إطلاق سراح من أمكن عبر القوّة العسكرية والضغط المباشر. إلا أن جهود إسرائيل العسكرية والاستخبارية باءت بالفشل، ما اضطرّها إلى الرضوخ للضغوط الداخلية التي قادتها إلى القبول بالصفقة، ولا سيما أن البدائل تقلّصت – إن لم تكن منتفية أصلاً -.
لكن هل يرضخ صاحب القرار في تل أبيب لهذا السياق، أم يتعنّت قبل أن يعود إلى الخضوع بعد أيام إضافية من القتال؟ كلتا الفرضيّتَين قائمتان، وإن كانت الثانية أكثر ترجيحاً؛ فقادة العدوّ معنيّون بأن يُظهروا أنفسهم مستعدّين لمواصلة الحرب حتى تحقيق الأهداف المعلنة، علماً أن مواصلة القتال بعد الهدنة، إنما هي تأجيل لاستحقاق وقف إطلاق النار، لا أكثر.
إزاء ذلك، يمكن الإشارة إلى الآتي:
أولاً، يُرجّح، كما ورد سابقاً، أن تحرص إسرائيل على استئناف عمليات القصف والتدمير وربّما أيضاً مزيد من محاولات الاقتحام لمناطق شهدت محاولات مماثلة في الأسبوعَين الماضيَين، بزخم كبير، كي تثبت لجمهورها أولاً، كما لـ«حماس» وفصائل المقاومة الأخرى، أنها لم تغيّر من أهدافها شيئاً، وأنها مصمّمة على استكمال القتال حتى تحقيق ما أعلنته من غايات، وخاصة إسقاط حكم «حماس» في غزة. واستئناف الحرب بزخم، يأتي ضمن هدف جديد لم تعلنه تل أبيب بصورة مباشرة، وهو إثبات الجدية وعدم الانكفاء، وليس إنجاز الأهداف المعلنة، وهو هدف يستأهل التأمّل والمتابعة، وفيه الكثير من المعاني والدلالات.
ثانياً، من الواضح أن يد «حماس» كانت الأعلى في هذه الصفقة، إذ بدا لافتاً في سياق بلورتها أن الحركة هي التي كانت تضع الشروط، فيما بدت إسرائيل الجهة التي تمتنع عنها أو تقبلها. ومن بين الأمور اللافتة أيضاً، وقف «حماس» التفاوض غير المباشر أياماً طويلة خلال عملية مستشفى «الشفاء» الفاشلة استخبارياً.
ثالثاً، لو كان العدو قادراً، أو أنه كان على وشك، أو أن هناك نقطة زمنية واضحة لديه، لإطلاق سراح أسرى إسرائيليين عبر العملية العسكرية أو الضغط العسكري، لما كان قد لجأ أو رضخ للهدنة ولشروط حركة «حماس» فيها، على رغم أنه عمد طويلاً إلى الرهان على إمكان تحقيق شيء ما عسكرياً في الميدان، علماً أن جزءاً من أسباب تأخير الهدنة يعود إلى هذا العامل تحديداً.
رابعاً، كان لافتاً اجتياز عدد كبير من سكان شمال غزة، الخطّ الفاصل بين شمال القطاع وجنوبه في وادي غزة، وعودتهم إلى بيوتهم، وكأنّ موعد بدء تنفيذ الهدنة، أمس، كان موعد انطلاق مسيرات العودة إلى الشمال. وكلّ ذلك جاء على رغم تحذير العدوّ وتهديده للعائدين، بأنهم يخاطرون بحياتهم إن واصلوا مسيرهم نحو شمال القطاع.
وبالنتيجة، فإنّ كلّ ما تقدّم يُعدّ نعياً مسبقاً لرهان إسرائيلي على إمكان تهجير سكان شمال قطاع غزة نهائياً إلى جنوبه، في إطار أهداف غير معلنة تماماً للعدو؛ وهو معطى يجب التوقّف عنده طويلاً، لقراءة اليوم الذي يلي وتقديره، بطريقة مختلفة عمّا يروّج له البعض.
صحيفة الأخبار اللبنانية