إسرائيل والحياة خلف أسوار عالية (جمال خاشقجي)
جمال خاشقجي
لا أصدق أن يخاطب الرئيس المصري محمد مرسي نظيره الإسرائيلي شيمون بيريز بـ «عزيزي وصديقي العظيم» في خطاب تقديم السفير المصري الجديد لدى إسرائيل. لا بد أن هناك خطاباً بالفعل ولكنه بروتوكولي، أعده موظف في الخارجية المصرية، ولكن إن كان بهذه الصيغة فالموظف إما بليد لم يدرك التحولات التي حصلت في بلاده بوصول الإخوان المسلمين المؤمنين ديناً بمواجهة إسرائيل أو أنه خبيث يريد توريط الرئيس. في الغالب سيجري مرسي عملية إعادة ترتيب في الخارجية لمنع تكرار ذلك.
إسرائيل تعلم ذلك، وتعرف مشاعر الإخوان الحقيقية، ولكنها أيضاً مثل الليبراليين العرب، تتربص بهم وتريد إحراجهم، أما في عالم السياسة الحقيقية، فكلا الطرفين يتحاشى أية مواجهة. تجلّى ذلك في «حكمة» رئيس وزرائها المراوغ بنيامين نتانياهو مرات عدة في لحظات حرجة مرت بعلاقات البلدين، ابتداء من أزمة وقف تصدير الغاز التي قلل نتانياهو من شأنها ووصفها بمجرد خلاف تجاري، إلى اقتحام السفارة الإسرائيلية من قبل متظاهرين، فاكتفى بشكر المجلس العسكري الحاكم وقتذاك لحمايته أفراد السفارة، إلى السكوت على انتشار قوات مصرية في سيناء مخالفة بذلك اتفاق السلام.
لفهم الموقف الإسرائيلي، يجب العودة قليلاً إلى الوراء، فما من دولة فاجأها وأقلقها الربيع العربي قدر إسرائيل. إنه يحاصرها، ولن تجد غير أن تقفل أبواب حصونها وتتظاهر بالأمن وتمضي بحياتها خلف أسوار عالية، تتصل بالعالم عبر البحار، عبر نيويورك شريكها الاقتصادي الأكبر، الأسوار التي بنتها لحماية نفسها من تسلل الفلسطينيين إليها وتفجير أنفسهم في باصاتها وفق زعمها. بالطبع لديها هدف استراتيجي آخر، هو حمايتها أيضاً من الديموغرافية المتغيرة دوماً ضدها، وحمايتها من حل الدولة الواحدة، وكي تضم ما اختارت من أراضٍ في الضفة الغربية إليها كأمر واقع، الأسوار هي حدودها، ولكنها بعد الربيع العربي تحولت إلى سجن لها، أنهت الأسوار مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي حلم به الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز وبشّر به حول العالم في منتصف التسعينات بعد توقيع اتفاقية أوسلو ووادي عربة، اختفت المشاريع المشتركة مع الأردن، وصفقة الغاز المريحة والمكسبة مع مصر، اختفى السياح الإسرائيليون من شرم الشيخ وفنادق البحر الميت في الأردن. لن يجرؤ أحد بعد الربيع العربي على اقتراح مشروع توليد كهرباء مع إسرائيل ناهيك عن كازينو وملهى كما فكر يوماً بعض الأردنيين والفلسطينيين والمصريين، فالحكومات العربية باتت منتخبة، ومحاسبة، مثلما كان بارك ونتانياهو يعتذران لبيل كلينتون وجورج بوش بأنهما لا يستطيعان القبول بهذا الاتفاق أو ذاك لأن خلفهما ناخباً إسرائيلياً قد يفقدهما منصبيهما، يستطيع الرئيس المصري محمد مرسي أن يقدم تبريراً كهذا للرئيس أوباما لو ألحّ عليه أن يتصل فقط برئيس الوزراء الإسرائيلي. مرسي ابتدأ بحكم خلفيته كأخ مسلم لا يحب أن يجري هذا الاتصال، وكذلك سيكون رئيس الجمهورية السورية المنتخب، والأردني أيضاً.
لذلك لا أصدق الإسرائيليين وهم يتحدثون عن ضم الضفة الغربية إلى كيانهم، فهم لا يريدون حل الدولة الواحدة الذي يراه بعض العقلاء الفلسطينيين أنه الحل الوحيد الممكن الذي يمكن أن يعمل لصالح الشعب الفلسطيني على المدى الطويل، نتانياهو يجامل اليمين المتطرف بأن يسكت عن مثل هذه الطروحات فلا يعارضها ويحذر منها. لقد دعا إلى انتخابات مبكرة لكي يفوز فيها ويستمر في سياسته الناجحة بحماية إسرائيل خلال هذه المرحلة ومراقبة ما يجري حوله عند «جيرانه».
اتفاقيات السلام ستبقى، ولكن باردة كالصقيع، يعرف الإسرائيليون الموقف الديني والتاريخي لـ «الإخوان» نحوهم، ويعرف «الإخوان» أنهم يعرفون ذلك، ولكنهم سيتجاهلون هذا العداء الآن، فأولويات «الإخوان» في مصر بناء الاقتصاد المصري، أو بعض من ذلك، يريدون إنجازات حقيقية تمكّنهم من الفوز مرة أخرى بالانتخابات الرئاسية بعد أربعة أعوام.
لا بد أن الذي يقلق إسرائيل أن هذا النوع من الزعماء المنتخبين يشعرون بثقة أكبر وندية في التعامل معها، يعلمون أنهم يحكمون بتفويض من الشعب لا من الحزب، إذاً ليس ثمة حزب أو نظام يخشون عليه، جاءوا بالانتخاب وسيخرجون به لا بمؤامرة يخشونها، تعبّر عن ذلك تلك العبارة المخزية التي قيلت في مجلس الشعب المصري الصوري بعد هزيمة مصر الكارثية عام 1967، إن إسرائيل في الحقيقة لم تربح الحرب لأن عبدالناصر لا يزال رئيساً. الزعيم كان أهم من الوطن، أهم حتى من القدس في نظر ذلك النائب الرخيص.
الزعماء العرب الجدد مختلفون، وكذلك النظام العربي الجديد، بينما عاشت إسرائيل وتعودت على نظام عربي مختلف طوال عمرها منذ أن تأسست وسط العرب عام 1948، لم يعد هناك ذلك الزعيم الذي هو مستعد أن يلتقي بالقادة الإسرائيليين سراً، ثم يعود لبلده ليؤكد أنه عازم على تحرير فلسطين.
كان القادة الإسرائيليون يفخرون بأن بلادهم «واحة الديموقراطية» الوحيدة في المنطقة. لم يعودوا كذلك، كما أن «الديموقراطية الإسرائيلية» تفتقر إلى العوامل المشتركة مع الديموقراطيات العربية الناشئة.
نقاط التماس القادمة ستكون في مساعي تحسين الأوضاع المعيشية في غزة، والاحتجاج على التوسّع الإسرائيلي الذي لا يخفت في الضفة والقدس تحديداً. كل خطأ إسرائيلي سيجد في القادة العرب الجدد فرصة لتأكيد سلامهم البارد مع إسرائيل.
ستكون ثمة مساعٍ لتوحيد الفلسطينيين، «فتح» و«حماس» تحديداً، ولن تجد الأولى تعاملاً تفضيلياً كالذي كانت تحصل عليه من قبل مبارك وجهاز مخابراته الممسك بالملف الفلسطيني، بل ستجد ضغوطاً وربما تجاهلاً. قد يقتنع زعيم عربي باقتراح السياسي الإسرائيلي يوسي بيلين عراب اتفاقية أوسلو التي صنعت «السلطة الوطنية الفلسطينية»، التي رفضها بشدة الإسلاميون عندما كانوا في المعارضة، ووصفوها بأنها سلطة «الحراسة والكناسة»، والذي نصح أبو مازن قبل أسابيع بإعلان موت أوسلو وحل السلطة وتحميل نتانياهو مسؤولية 4 ملايين فلسطيني في الضفة وغزة. إنني واثق من أن هناك إسلاميين خصوصاً في الأردن يوافقون بيلين على رأيه.
«حماس» يمكن أن يكون لها دور في ذلك، وثمة نشاط غير عادي في صفها، وإعادة ترتيب في داخل بيتها، متأثرة بالطبع بمكاسبها في الربيع العربي، وعليها استثمارها قبل ضياع الفرصة، لقد بات لها «إخوان» في الحكم أخيراً، تستطيع أن تتنفس خارجياً من مصر بحضور علني ومكتب رسمي، لم تعد بحاجة إلى إيران التي اضطرت إليها، قطعت كل علاقاتها مع سورية الأسد، الذي اتهمها بنكران الجميل، ولكن أي عارف بخلفية الاثنين كان يعلم أن ما كان بينهما مجرد زواج مصلحة.
حتى حرب إسرائيلية على إيران لن تغيّر في موقف دول الربيع العربي، مظاهرة هنا أو هناك، ولكنها جميعاً ستنأى عن الصراع، وتحاول السيطرة قدر الإمكان على الأضرار الناتجة.
بالتأكيد تحتاج إسرائيل أن تعيد حساباتها، وتضع خطة لحالة السلام البارد وعدم وجود أي آفاق لتطوير العلاقة مع العرب، مع الاستعداد لمواقف عربية أكثر حدية في حال حصول حرب أخرى على غزة أو نابلس.
أما الجولان السوري، فهذا سيؤجل أمره حتى بعد انتصار الثورة السورية لبضعة أعوام ريثما يستقر الوضع هناك، على الأقل حتى تنتهي مدة أول رئيس منتخب لسورية والتجديد له لفترة ثانية أو انتخاب غيره، لعله حينها يستطيع أن يقول الكلمة الصعبة لشعبة، أريد أن أتفاوض مع الإسرائيليين لاستعادة الجولان المحتل.
صحيفة الحياة اللندنية