إسماعيل الأمين يمزج التاريخ بالحكاية

يقول إسماعيل الأمين على لسان إحدى شخصيات روايته الجديدة «أليس والكاهن» (دار النهضة العربية): «إنّ سرد المتخيّل ليس إلا حكاية تصوّر الوقائع... وإذا لم يكن الأمر كذلك، لن يكون التاريخ إلا تفريغًا للمآثر من أهدافها» (113). إنه يساوي إذاً بين سرد المتخيّل والحكاية، من جهة، ويشترط وجود الوقائع لحكاية التاريخ، وهذا ما نراه في هذا العمل.

تتضمن الرواية حكاية تتعاقب فيها الحوادث الروائية كما تحدث في الحياة. يسير فيها السرد في مسار خطي، أفقي، تراكمي، لتتوازى حركته مع حركة الوقائع. تخلو «أليس والكاهن» من تقنيات الخطاب الروائي الحديث، على أنواعها، ويضمِّن الكاتب روايته كثيرًا من الوقائع التاريخية، فيحكي التاريخ بالوقائع، وإن في إطار روائي/ حكائي. وبذلك، يطبّق على نفسه منظوره لسرد المتخيل الروائي.

تقوم رواية الأمين لروايته على أسطورة فينيقية تتمّ فيها معاقبة من ينتهك المقدّس الأسطوري. وبذلك، يفتح الرواية على الواقعية السحرية التي تشكّل فضاءً روائيًّا فيها يتجاور والفضاء التاريخي الواقعي. ويلي التوطئة ست وحدات سردية طويلة، تحمل عناوين أربعة منها أسماء مدن فينيقية، ما يجعلنا إزاء نصٍّ سرديٍّ تاريخي، جغرافي، سحري. وهو يضيء مرحلة مهمّة من تاريخ الفينيقيين، ازدهرت فيها مدنهم (الممالك)، وامتدّت شبكة علاقاتهم التجارية والحضارية على مساحة العالم القديم.

ولعلّه أراد أن يقول للأجيال الناشئة أهمّية الماضي العريق لهذا الوطن، ويعرّفها إلى جزء من تاريخه، في محاولة منه لشدّ عصب الحاضر، وتعميق جذور الانتماء الوطني، ما يمنح روايته/ حكايته بعدًا تربويًا، تعليميًّا. وهو يفعل ذلك كلّه، من خلال اقتفاء مسارات شخصياته ومصائرها، وشبكة العلاقات في ما بينها، ومع الخارج.

تتمحور الحكاية حول العلاقة بين بطليها، إيناس الصوري وأليس الصيدونية، في أطوارها المتعاقبة زمنيًّا بين الحب والموت، مرورًا بالزواج وشهر العسل والسفر خارج الوطن وداخله. ويرصد حركتهما المكانيّة في ثلاث جولات سياحية/ استطلاعية، في الداخل والخارج. تحصل الأولى في صور قبل الزواج، والثانية خلال شهر العسل في حواضر خارجية مختلفة وهي الأطول، والثالثة في صيدون بعد الزواج والإنجاب ومشارفة الأولاد اختيار تخصّصاتهم العلمية. وهكذا، يتوزع النصّ على نمطين كبيرين من أنماط الكلام؛ السرد الذي يُعنى برصد حركة الشخصيات في الفضاء المكاني، على أنواعه، ما يقرّبه من السرد التاريخي، والوصف الذي يُعنى بتصوير المواقع الحضارية المختلفة في الحواضر الفينيقية، على أنواعها، ما يقرّبه من أدب الرحلة الجغرافي. وداخل هذين النمطين وخارجهما، تتجاور الواقعة التاريخية، والمعلومة الأنتروبولوجية، والوصف العمراني، والنشاط الاقتصادي، والأسطورة…، ما يجعله نصًّا معرفيًّا، ودرسًا في التاريخ، ويعزّز البعد التربوي فيه الذي سلفت الإشارة إليه.

بالعودة إلى الشخصيات الأساسية في الرواية، حسبنا الإشارة إلى ثلاث محورية منها، هي:
– أليس ابنة هيسدرو الصناعي الصيدوني الثري الذي يرتبط بصداقة مع أمنون التاجر الصوري الثري، أبًا عن جد، وإن اختلفا في الطباع، فيميل الأول إلى التسرّع والخفّة والانفعال بينما يتحلّى الثاني بالحكمة والرصانة. وهي تميل إلى التمرّد والمغامرة والاستقلالية منذ الصغر، تقوم بأعمال الفتيان، تتدرّب على القتال، تشاكس، تسافر، ذات نزوات جريئة، متنوّرة ذات ميول ثقافية، وطنية يتخطّى انتماؤها حدود المدينة/ المملكة إلى الوطن كلّه، قوية الشخصية، تحسن تصريف الأمور ووضعها في نصابها.

وتتمظهر هذه الصفات في علاقاتها مع أفراد الأسرة والمحيطين بها؛ فهي تخالف الأب في تعصّبه للمدينة وعصبيته التي يُشتمّ منها نفس عنصري، وتناسب الزوج في تطلّعاته الثقافية والحضارية وضرورة توسيع الدور الفينيقي التجاري إلى ما يتعدّاه من دور حضاري، وهي تهتمّ بمستقبل أولادها، فتصطحبهم إلى مدينة صيدون في زيارة المرافق الإنتاجية من معاهد، ومراكز أبحاث، وموانئ، ومصانع سفن، ودور فلك، ومدارس زراعية، ليطّلعوا على حضارة بلادهم، ويختار كل منهم التخصّص العلمي المناسب. وهي تضيق ذرعًا بالكاهن المكلّف برعايتها، وتأنف من محاولته ممارسة الوصاية عليها باسم سلطته الدينية، وتسخر منه كلّما سنحت لها الفرصة…

في الخطاب الروائي، نشير إلى أنّ ثمّة فجوات زمنية طويلة بين الوحدات السردية، وداخل الوحدة نفسها، لا يجري ردمها. وفي هذا السياق، ثمة فجوة كبيرة بين الوحدات السردية الأربع الأولى التي تتمحور حول شهر العسل والوحدة السادسة التي تتمخّض عن ثلاثة أولاد. وثمة عدم تناسب في توزيع النصّ على مراحل الحياة. ففي الوقت الذي يتمّ فيه تخصيص رحلة شهر العسل بأربع وحدات سردية، يتم اختصار مرحلة الإنجاب وتربية الأولاد في وحدة واحدة. وفي الوحدة السابعة، على سبيل المثل، نفاجأ بالكلام على مراسم دفن الوالدين، بطلي الرواية، من دون سابق إنذار أو إشارة إلى موتهما (ص 224). وهنا، ليس المطلوب أن يقوم الروائي بتوزيع النص على المراحل العمرية بالتساوي، ولا أن يردم كل الفجوات الزمنية في نصه، ما يتنافى مع طبيعة الفن التي تقوم على الحذف والاختصار والاختيار، ولكن حين تكون الفجوة كبيرة، والتفاوت في التوزيع كبيرًا، تصبح روائية الخطاب على المحك.

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى