تتعالى اليوم صيحاتُ المهن الجديدة التي تتفوّقُ على حدّ قول أصحابها وداعميها على المهن التقليديّة التي اعتدناها منذ زمن آبائنا وأجدادنا.
يجدُ داعمو هذه الصيحات بأنّك إن جعلت ابنك يسير على خُطا أحد المطربين الصاعدين أو الحلّاقين البارعين أو اليوتيوبرز القديرين الذين يمتهنون التقليد أو الرّقص أو تدبير المقالب أو غيرها من الأمور الغنية عن التعريف في عصر التيك توك والريلز وغيرها من الأسماء التي قد يعتبر البعض عدم المعرفة بها جهلاَ؛ سيكون ذلك أنفع لهُ من أن يبذل أعواماً طويلة في الدراسة وطلب العلم لينتهي به الأمر في مهنة اعتياديّة قد لا تحقق له الثروة أو الشهرة المرجوّتين.
أنتم يا من تقرؤون كلماتي الآن، أريد منكم فقط أن تنظروا حولكم، ما هي المهن التي تطفو على السطح اليوم وتفيد البشريّة بحقّ بعيداً عن التّرفيه والكماليّات؟
من هم الناس الذين ينبغي أن يكونوا قدوة لشباب اليوم بدل المشاهير من لاعبي كرة القدم والممثلين والمطربين؟
دعوني أسأل بضعة أسئلة..
مَن يوصلُ صوت معاناة الناس وما يقاسونه كل يوم وينقله إلى الشاشات لكي يراه العالم أجمع؟
أليس هو ذلك الصحفيّ النبيل الذي يترقّب الناس ماذا سيقول قلمهُ وعدسته لكي يعرفوا منه حقيقةَ ما يحدث على أرض الواقع بعيداً عن التزييف والتلفيق؟!
مَن يسهر على صحّة المرضى ويقدّم كل ما لديه من علم وصبر وخبرة لكي ينقذ حياة الناس ويوصل أنفاسهم المتقطعة إلى برّ الأمان ويعيد دقّات قلوبهم إلى انتظامها؟
أليس هو ذلك الطبيب أو الممرّض أو الصيدلاني الذي أقسمَ بعد سنين من التعب والجهد المضنيين على صون حياة البشر والتّفاني في مساعدتهم وعلاجهم؟!
مَن يقف اليوم في المحاكم والمحافل الدوليّة يناهض الظلم ويبرهن الحقائق ويكشف الادّعاءات الباطلة؟
أليس هو ذلك المحامي أو القاضي أو العامل في الشّأن القانوني الذي يبذل كلّ جهده في الدفاع عن الحقوق وإعادتها إلى أصحابها؟!
وماذا عن صاحب المصنع الرئيسي لكلّ تلك المهن السامية، أليس هو ذلك المعلّم الفاضل الذي ربّى وعلّم وتعبَ على مدار تلك السنوات الدراسية الطويلة؟!
هذا كلّه ونحن لم نأتِ على ذكر العلماء والمفكّرين وأصحاب الجهود البحثية النّافعة.
أنا هنا لا أطعن بدور الدراما والفنّ والرياضة وكل ما يعمل على تحسين مزاج الإنسان وتحقيق رفاهيّته بل وإنني أعلم حقّ المعرفة بأنها ضرورة من ضروريات الحياة، إلّا أنّ ما حتّم علينا الخوض في هذا الموضوع الآن هو أوّلاً حاجتنا الماسّة لكلّ المهن التي ذكرت آنفاً في زمانٍ عصيب كهذا، وثانياً هي الأحاديث الكثيرة التي تتردد إلى أسماعنا كل يوم بين الشباب المقبلين على المستقبل وهم ينظرون بنظرة سأم وأسى كبيرين لفروعهم الجامعية ويجدون فيها قيوداً تكبّل حياتهم ونجاحهم بدل أن يرونها حبل نجاةٍ ينقذهم من الواقع الأليم يصعدون من خلاله إلى أهدافهم وطموحاتهم.
وإن أردتم ثالثاً فلا أظنّ بأنّ هناك حاجة للتوسّع كثيراً فيما آلَ إليه شكل الدراما والفنّ الغنائي والمنتجات الإبداعيّة الحاليّة والتراجع الكبير في مستواها إلّا ما ندر.
أيا شباب المستقبل عليكم أن تعلموا بأنّ لكلّ منّا رسالة عليه أن يؤديها في هذه الحياة، رسالة واحدة تُكتبُ بحبر العمر الذي لا بدّ سيأتي يومٌ ويجفّ، لذا احرصوا أن تكون رسالتكم رسالة حقّ وأمانة ومنفعة لكم ولمَن حولكم.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة