إليوت وتوجيه الفوضى
نشر إليوت العديد من المجاميع الشعرية والنتاجات النقدية ففي مجال الشعر نشر “بروك وملاحظ أخرى” عام 1917. وفي عام 1919 نشر مجموعته الشعرية “قصائد” وقام بدمج هاتين المجموعتين في مجموعة واحدة، وأضاف إليهما بعض النصوص وأسماها “لذا أناشدك” ثم قدم إليوت مجموعة شعرية جديدة أعتبرت واحدة من المجاميع الشعرية الفريدة والمتميزة والتي لاقت قبولا ورواجا في الأوساط الأدبية والتي أسماها “اليباب” فنال عليها جائزة ديال عام 1922.
وقدم إليوت إنجازات شعرية أخرى من خلال (ألام سويني- أربعاء الرماد – بيرت نورتن وأناشيد الجوق) بين الأعوام 1927-1934 ثم توالت بعد ذلك مجاميعه الشعرية ومنها “جريمة قتل في الكاتدرائية”، و”اجتماع شمل العائلة” و”الرباعيات الأربع” و”حفل الكوكتيل” وقد زامن ذلك ما كتبه في مجال النقد. ومن نتاجه النقدي الذي لا يقل أهمية عن نتاجه الشعري “الغابة المقدسة” و”من أجل لونسلوت أندروز ودانتي” وكتابه النقدي المفيد والممتع “فائدة الشعر” وبحثا عن آلهة غريبة.
كان إليوت وحسب مايشير اليه احسان عباس يبحث عن معادله الموضوعي ويستعلم من عوالم الأرواح والأشباح ما يمكن أن يربط به التجارب السابقة والمتنوعة في الأساطير واستبياناته التي أراد بها أن يصل إلى مرتكز ديني ما في محاولته الشعرية للبحث عن الكفاح الروحي:
بعد الشعلة الحمراء على الوجوه الناضحة بالعرق
بعد الصمت الصقيعي في الحدائق
بعد العذاب في الأماكن المصمتة والصراخ والبكاء
والسجن والقصر وتردد صدى البرق فوق الجبال النائية
من كان حيا قد غدا ميتا
ونحن الذين كنا أحياء
هل نحن نحتضر
بصبر قليل؟
أن استقراءات إليوت في هذا النص ونصوص أخرى تكشف عن طريقته بالتمعن في لحظات التضحية والخلاص. ولا شك بأن إليوت وجد أن يكون لكل شعر ما يميزه وخصوصا في القصائد الطويلة. وبالشكل العام فقد عمل إليوت في شعره ضن مسارات عدة من بينها مساقات وحجم التنبيه الإدراكي، والتركيز والتكثيف الصارم ودعم المحتوى البنائي أثناء التكيف السردي، والإيقاع والموسيقى والذي يرى فيهما بأنهما يكفلان للشعر وحدته وكذلك إيمانه بأن النص يجب أن يبنى بعناية غايتها إحداث الأثر الكلي وتنظيم العبث والفوضى وإعطائهما شكلا ومعنى.
يعود أحسان عباس ويرى أن كل ما ذُكر من الصفات الشعرية لـــ إليوت تجتمع في موعظة النار:
تعلقت آخر أنامل الورقات
متمسكة بالضفة البليلة
مذ غاصت
وعبرت الريح الأرض الداكنة دون زفيف
وارتحلت الحوريات
أرفع صوتي
ولا أطيل كلامي
ولكني ومن ورائي
في عاصفٍ باردٍ
أسمع
قعقعة العظام
وقهقة تُنقلُ
من أُذن لأُذن
المهم في كل هذا هناك اشتباك ما بين الصور البصرية وبين الصور التخيلية وتفصيلات بجزئيات يحصل عليها الشاعر بعناية ووصف صائب محكم ومحدود وقطعا ومن خلال دراسة إليوت للفلسفة التي أثرت بشعره فأن تأملاته الفلسفية المعقدة كانت تطوع أشد الصور حسية في محاولاته للتعامل مع الروحي وجلبه إلى عالم الواقع المنظور، وكأن إليوت قد بدأ برسم الخارطة الجديدة للشعر الأوروبي.
كانت الفترة التي سبقت بدايات القرن التاسع عشر قد أضاءت اتجاهين متعارضين الإتجاه الذي يدعو إلى تبني الواقع أي إعادة الرؤيا بشكل آخر للعالم على أساس التركيب الجديد للكلمات ضمن مفهوم الإرادة والهدم الشامل، وتحويل الشعر إلى وسيلة، وليس هدفا. وهو يعني في بُعده الآخر توجيه الفوضى لمواجهة قوى التنظيم البنائي القديم والاتجاه الآخر يدعو إلى العبث في نطاق الأنا (الذات) وإنعاش عالم الحلم والإنسياح في المجهول والالغاز والغموض، وذلك بأعتقاد أصحاب هذا الرأي يضمن الوثوب إلى صميمية الإنسان وتمكينه من مواجهة غموضه في سريات ودهاليز الكون وأشكالياتها في الحياة والموت والخير والشر والسعادة والتعاسة وغيرها من الهموم الأبدية في محاولة لإستكشاف اللاوعي.
وكان كلا الرأيين ينطلقان من رؤيا أن كل شيء في هذا الكون لا بد أن يغادر ثابته إلى متحول جديد، وبذلك فقد وضع الحداثيون العقل أمام أزمة جديدة في التخلص من قوانينه وقناعاته وطرائق الوصول الى الأفكار وطرائقه الإستنتاجية وتوقعاته الى الغاء نظامه برمته، والقناعة بأن مجالات استكشافاته وخلقه لا تحددها العناصر المادية فقط بل باستطاعتها أن تجعل العقل يعمل بقوة جديدة يستطع من خلالها تحطيم الحواجز العقلية ومغادرة الواقع الى عالم الأضداد والمتناقضات لخلق واقع جديد يستوعب النتائج التي ستولد من طبيعة الصراع وإشكالياته على صعيد الفكر والأدب والفن.
ميدل ايست أونلاين