إملي نصر الله: صرخة الأنوثة المكتومة (أحمد زين الدين)
أحمد زين الدين
من الإجحاف بحق الكاتبة اللبنانية إملي نصر الله أن نختزل سلسلة أعمالها برواية وحيدة، هي "طيور ايلول" بسبب رواجها أكثر من سواها، من مؤلفاتها العديدة التي كتبتها، على مدى نصف قرن من الزمن. فالرواية المذكورة باتت من كثرة ما تداولتها أيدي الطلاب اللبنانيين على مقاعد الدراسة، رديفة المنهج الدراسي والمقررات التربوية. بل غدت تحديداً بمثابة فروضٍ أو تمارين على كيفية الكتابة الإنشائية، باقتفاء طريقتها، واحتذاء نهجها وأسلوبها، لما تتحلّى به من سلاسة العبارة وإشراقة الديباجة. لكنّ المقاربة النقدية المتأنيّة والمتابعة للمسار الروائي الطويل للكاتبة، لا بدّ أن تلحظ تحوّلاتها وتطور نظرتها وتجاربها، وإسهامها في النتاج الأدبي، وفي بلورة رواية القرية اللبنانية، ورواية المرأة، ورواية الهجرة، ورواية الإنسان، عبر أصول سردية حكائية غير معقدة تستهوي الذائقة الشعبية. وقد حملت موضوعاتها المنعقدة حول هموم الناس ومعاناتهم المعيوشة سمات اللحظة التاريخية، والمناخات الاجتماعية التي كانت سائدة في تلك الحقب الزمنية، لا سيما لحظة الحرب الأهلية اللبنانية التي استغرقتها ودفعتها في أكثر من رواية لها، إلى استجلاء العواقب الفجائعية التي هزّت ضمير اللبناني، وخلخلت حياة عائلته. ومن الطبيعي أنّ الكاتبة استجابت للمتغيرات التي طرأت على المجتمع اللبناني والعربي، واكتسبت مهارات لتحديث أدواتها وتقنياتها الفنية، لكنّها لم تبلغ حد الانقلاب على نمطها القصصي المألوف الذي اتخذت فيه الحركة السردية سياقاً خطياً، دون أي تحطيم أو انكسارٍ أو تلاعبٍ في أفق الزمن، على جاري عادة الروائيين المحدثين.
لم تكفّ إملي نصر الله عن الكتابة المتواصلة، والتأليف الأدبي بمختلف أنماطه وأنواعه للتعبير عن كينونتها، وعن حال مجتمعها، طوال فترة مديدة من الزمن. كانت تؤرقها النزعة إلى التعبير، وقد رافقتها، على ما تقول: مذ كانت فتاة صغيرة، شديدة الحياء والإحساس بالخفر. تحب الزوايا الحميمية، والكلام الهامس، وتفضّل مجالسة كتاب على حفلة اجتماعية، وتؤثر الكتابة على الكلام. وقد استمرت هذه النزعة معها، وهي على مقاعد الدراسة. كانت تجلس في الصف صامتة، وقلّما رفعت إصبعها متطوعةً بالإجابة، بل كانت تفضل أن تردّ على أسئلة الأستاذ كتابةً "من مقابلة مع كاتب المقال في صحيفة النهار اللبنانية".
أجداد وأحفاد
ولأنّ التعبير عن الذات، يُعدّ من أعمق الحاجات الإنسانية، فقد توخّت الاستمرار في خط الكتابة والإبداع، لا سيّما في موضوعات الهجرة والرحيل والبحث عن السلام والحب والتأمل في حياة الإنسان. وربما كان لقريتها، كما كان لصورة الأمكنة، شديد الأثر على اختيار موضوعاتها واستلهاماتها الروائية والقصصية. حيث تعلّقت بحكم النشأة بقريتها الكفير (قرية أمها) التي عاشت فيها وأحبّتها، وراقبت فيها حياة أهاليها، وهجرة إخوتها وأخواتها ومعظم القرويين إلى كندا التي يقيمون فيها حتى اليوم. وقد أوحت لها هذه الأجواء بموضوع الاغتراب الذي شكّل الهيكل الأساسي في معظم رواياتها. ورغم نزعة النوستالجيا التي أضفتها البيئة القروية اللبنانية، والأسلوب الغنائي الرومانسي الذي غلّف الحديث عنها، لم تحجب أي رواية الإشكالية الاجتماعية الرامية إلى انعتاق المرأة وتحرّرها من التقاليد، ومن الهيمنة الإقطاعية والذكورية عهدذاك.
طبعاً، لم تظلّ صورة القرية منذ "طيور أيلول" 1962 ماثلة على ما كانت عليه في سابق الأزمان، حتى اليوم. فقد تلاشت معالم القرية اللبنانية القديمة، وتغيّر وجهها العمراني، وتبدّلت معاناتها، وتفكّكت تقاليدها الموروثة بتأثير التطورات التحديثية وغزو القيم المدينية، وضعفت شوكة الأهل على أبنائهم. كانت القرية التي كتبت عنها إملي نصر الله قرية الأجداد والآباء. واليوم باتت قرية الأبناء والأحفاد. وإذا كانت القرية وقتذاك قد انعزلت أو كادت، عن المدينة، فإنّها اليوم موصولة بها، متناغمة معها. ولم يعد الخروج من القرية مغامرة أو مجازفة، بل هو جزء من الحركة اليومية للناس. كذلك اختلفت النظرة إلى مظلومية المرأة، ومعاني حرمانها. ولم يعد يُختصر مصير الفتاة بكلمة، أو وعد، أو قرار، أو عبارة من الأهل (تُصدر حُكماً مدى الحياة وتقوم بتنفيذه) "طيور أيلول". لم يعد الوقوف في وجه خيار الفتاة حائلاً دون تحقيق رغباتها. ولم تعد منطوية على أساها، متقبلة مصيرها، وكاتمة صرخاتها في جوفها، دون أن تصل إلى آذان الأهل. وما فعلته املي نصر الله أنّها أخرجت من رواياتها الأولى هذه التأوهات والحسرات المحبوسة إلى العلن. وكانت متفائلة بجدوى هذا الصراخ الدفين، والاحتجاج الصامت. وكانت تعدّ الرواية أو الكتابة منفذاً من منافذ وصول ضوء الوعي إلى عقل القارئ وعقل الناس، ولو بعد حين. فالوعي الاجتماعي لم يغب عن أيٍّ من رواياتها، بل هو سمة من سمات كتاباتها، وإن ظلمتها لغتها الرومانسية، وصرفت عن ذهن القارئ هذا البُعد الأساسي في أعمالها الروائية، بدءاً من "طيور أيلول" إلى "شجرة الدفلى" و"الرهينة" وإلى "الإقلاع عكس الزمن". واللغة الرومانسية التي كتبت بها لم تكن بادرة تلقائية، أو شغفاً شخصياً، بل كانت موضة العصر، وملمحاً من ملامح الكتابة في العالم العربي عن الريف، بدءاً من رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل، بما يتناسب مع الفطرة والبساطة والعيش في أحضان الطبيعة، وحملت هذه الفضاءات القروية (نكهة الطبيعة وعطرها بين سطور الكاتبة) حسب عبارتها.
احتلت قضية المرأة في روايات إملي نصر الله مكانةً أساسيةً، وتمحورت حول قضية الحرية التي بفضلها تمتلك سيادتها على جسدها وذاتها وكيانها الإنساني. الحرية التي تُفضي إلى منحها فرص الاختيار في الحياة والعمل والزواج، وانطلاق العنان لطاقتها الفكرية، لتكون جديرةً بالقيام بأيّ مهمة أو نشاط. ومع أن المرأة التي صورتها كانت مغلولة الإرادة والحركة والحسّ، ومستلحقة بقوانين الذكورية وشروطها، إلا أن الكاتبة لم تختزل المسألة بالصراع الدارج بين المرأة والرجل. ولم تقف من الرجل موقفاً عدائياً أو صدامياً. ولم تحمّله عبء الانحطاط والتخلف الذي وصلت إليه. بل نظرت إلى قضية المرأة كجزء من قضية المجتمع بأكمله، وإن حاسبته أحياناً على هذا الاختلال بين الجنسين الذي استقر لمصلحته، فإنّها نحت إلى إيثار فكرة التكامل بينهما، بدل غلبة أحد الطرفين على الآخر.
فالكاتبة لا تتحامل على الرجل، ولا تُطّهر المرأة من كل العيوب والشرور وتلقيها على عاتق الرجل، بل تميّز بين أحوال المرأة وأطوارها وموقعها من الحياة ومن الأسرة. وبين البنت والأم. والفلاحة والعاشقة. وبين ظروف الحرب وظروف السلم. وغالباً ما رسمت إلى جانب الأم المتعاطفة والمتفهمة لوضعية ابنتها، الأم الكابحة، والناطقة بلسان المجتمع التقليدي، والمنحازة إلى الثقافة البطريركية العنيفة "الرهينة ـ شجرة الدفلى".
النص النسائي
وإذا كان ظهور روايات إملي نصر الله في الستينيات مؤشراً هاماً على بداية صياغة النص النسائي العربي الذي يتمحور حول الذات الأنثوية المسحوقة والمستلبة، بما يتلاءم مع متطلبات أزمنة الحداثة والعصر. فإنّ بعض هذه الروايات، كما هي حال روايات نوال السعداوي في مصر، كانت (وما فتئت) تشوبها نظرة عدائية شرسة إزاء الرجل. وروايات ليلى بعلبكي في لبنان التي نحت إلى كتابة مضادة للذكورية. في حين ان إملي نصر الله نأت عن هذا النسق من الكتابة الأنثوية، ونأت عن لغتها الإيروتيكية الشبقية، وعن لهاثها الحار. ومع أنها رصدت معاناة المرأة اللبنانية الأمية القروية، ونبذت المظلومية التي قيّدت حركتها. بل وحثّتها على التمرّد، وتحطيم هذه السلاسل غير المرئية، لكنّ قضية المرأة ظلت لديها ملتحمة بهموم الوطن والمجتمع برجاله ونسائه.
وإذا كانت الهجرة قدراً لا بدّ منه في حياة قريتها، وكانت حركة طيور أيلول في سماء القرية حركة مألوفة عند السكان. فإنّ الحرب الأهلية اللبنانية خلقت دواعي ملحّة، لحركة هجرة اضطرارية، فراراً من الموت المحتّم، وسعياً إلى النجاة من الاحتراق بلظى الحرب الذي أصاب اللبنانيين قاطبةً. وإذا كانت إملي نصر الله قد كتبت عن موضوع الهجرة الأولى راصدةً أحاسيس الألم والفراق والغربة والحنين إلى الوطن، وبساطة الحياة الاجتماعية، الهجرة المتعلّقة بظروف حكم السلطنة العثمانية وسلطة الانتداب، وتحوّلها في بعض القرى إلى إيقاعٍ متواتر وقدرٍ مرسوم، فإنّ دوافع هجرة اليوم تتخذ إشكاليةً أخرى. هي إشكالية المثافقة، وصعوبة العلاقة بين الشرق والغرب. العلاقة التي تتحكم بها الأفكار النمطية التي يختزنها كل طرف إزاء الآخر. وقد أفرزت هذه الإشكالية على الصعيد الاجتماعي والنفسي حالات ومشاعر مختلفة، أضعفت من التعبيرات عن نوستالجيا الوطن التي حفلت بها روايتها "طيور أيلول". وشكّل النزوح المكثف من القرية إلى المدينة أحد الموضوعات الجديدة، في "تلك الذكريات". حيث قدمت الكاتبة صراعاً من نوع آخر، هو مع الرواسب والموروثات التقليدية التي حملها أبناء القرية إلى مكان إقامتهم الجديد، في إطارٍ من الواقعية السردية، دون أن يتمظهر هذا التجاذب بين القرية والمدينة بشكله العلني، بل بقي طي الكتمان، وفي منطقة الظل.