إيران وأوقاتها الصعبة
لا تبدو الأوقات الحالية سهلة على طهران، التي يتعرض محورها لهجمات متعددة الجبهات ابتداءً من المفاوضات المتعلقة بملفها النووي إلى تحالفاتها في العراق وسوريا واليمن. شتان بين الوضعية المتحركة الحالية للإقليم والتصريحات المغرقة في التفاؤل التي صدرت عن مسؤولين إيرانيين بخصوص نفوذ بلادهم في المنطقة. قبل شهرين فقط، اعتبر علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني للشؤون الدينية والأقليات أن «إيران إمبراطورية عاصمتها بغداد»، وبعدها بشهر واحد قال حيدر مصلحي وزير الاستخبارات الإيرانية السابق إن «إيران تسيطر على أربع عواصم عربية». وبخلاف الاستفزاز التي تثيره مثل تلك التصريحات، فإنها تكشف عن حقيقة أهم، مفادها أن نظرة قسم معتبر من نخبة إيران الأمنية والسياسية لم تعد مطابقة لتوازنات المنطقة. وحتى حادثة احتجاز السفينة الأميركية في الخليج العربي، المحسوبة مخاطرها بدقة إيرانية معتادة، عكست توتراً إيرانياً من تغير في ميزان القوى الإقليمي لغير مصلحة طهران وليس بالضرورة «اقتداراً إيرانياً» في مواجهة «الشيطان الأكبر».
في الشوط الأخير قبل توقيع الاتفاق النووي الشامل، يظهر باراك أوباما مهاراته التفاوضية الضاغطة وقدراته على صياغة المعادلات الإقليمية وفق المصالح الأميركية التي لا تتقاطع بالضرورة مع مصالح إيران.
المفاوضات النووية بين إيران والغرب
بدا لكثيرين أن الخلافات الواضحة والمعلنة بين إدارة أوباما والكونغرس الأميركي ستفتح نوافذ الفرص أمام طهران لإبرام اتفاق نووي مواتٍ لها ولشروطها التفاوضية، علاوة على الاحتفاظ بنفوذها الإقليمي الذي راكمته على مدار سنوات طويلة، ولم يكن محلاً لتفاوض مباشر سواء في جنيف أو في فيينا. ولكن أوباما أظهر قدرات غير منكورة في استثمار خلافاته مع الكونغرس للضغط على المفاوض الإيراني، على اعتبار أن الفرصة المتاحة أمام طهران لإبرام اتفاق نووي شامل لا يمكن اغتنامها إلا بوجوده في البيت الأبيض. على ذلك، يبدو واضحاً من الآن أن لاءات إيران النووية المتكررة على لسان أرفع مسؤوليها؛ القاضية بتزامن الرفع الكامل للعقوبات الاقتصادية مع توقيع الاتفاق النووي الشامل، غير ممكنة التحقق. ولأن العقوبات الاقتصادية تؤتي فعلها في الداخل الإيراني، بالتوازي مع الهبوط الحاد في أسعار النفط ـ سلعة إيران الأولى ـ بالأسواق الدولية، والتزام إيران ـ بموجب «اتفاق الإطار» الموقع في جنيف نهاية العام 2013- بتجميد برنامجها النووي طيلة فترة التفاوض غير المقيد بمهلة زمنية، يلعب الوقت لمصلحة واشنطن. لذلك ستضطر إيران ـ على الأرجح ـ إلى القبول بتوقيع اتفاق شامل يبقي الجسم الأساسي للعقوبات الاقتصادية عليها قائماً لسنوات طويلة مقبلة، مع التسليم بقيود غير مسبوقة في التاريخ على برنامجها النووي. ولا يقتصر ضغط أوباما على ذلك فقط، وإنما يمتد إلى تعديل التوازنات الإقليمية لغير مصلحة طهران خلال فترة التفاوض وبعدها، بحيث لا يصبح الاتفاق النووي الشامل ـ إن حدث – صكاً على بياض لإيران كي تطلق يدها في توازنات المنطقة.
أوباما وإيران وتصميمات المنطقة
يعلم أوباما أن نفوذ إيران الإقليمي المتصاعد خلال العقد الأخير هو أحد الدوافع الأساسية لطهران كي تمضي قدماً في إبرام الاتفاق النووي الشامل، لتبيعه إيران قنبلة نووية غير موجودة فعلياً لقاء نفوذ إقليمي قائم ومعترف به أميركياً. تختلف نظرة أوباما لتوازنات المنطقة عن نظرات اللاعبين الإقليميين، إذ إن أوباما يقيس التوازنات وفق المصالح الأميركية وليس بالضرورة لإرضاء الشركاء الإقليميين. على ذلك لا يناسب واشنطن قيام توازنات جديدة في الشرق الأوسط يستأثر بها أحد الأطراف، وإنما قيام اصطفافات إقليمية يحجم بعضها بعضاً ولا يقضي أيها على الآخرين. هنا ستتضرر دول الخليج العربية نسبياً لقاء تحول أميركا من ضامن لأمنها القومي إلى مجرد وسيط فاعل في نزاعاتها مع إيران، ولأن الأخيرة لم تحتل واشنطن عسكرياً حتى الآن، فمن غير المنطقي أن يسلم لها أوباما بما تريد من بسط الهيمنة وكامل النفوذ على المنطقة، لأن ذلك يتصادم مع التصورات الأميركية للشرق الأوسط. صحيح أن أوباما ليس في وارد خوض حرب ضد إيران، إلا أنه يبتغي تأهيل إيران كشريك في المنطقة مع تقليم أظافرها كي تخدم التوازن الأميركي المطلوب في الإقليم وليس أكثر من ذلك. بمعنى آخر، لن تتواجه واشنطن وطهران عسكرياً في ساحات المنطقة، إلا أن ذلك لن يمنع أوباما من تأهيل الشركاء الآخرين وتحالفاتهم المحلية لاستعادة مواقع لهم في المنطقة، خصماً من نفوذ إيران. باختصار، غرض أوباما موازنة إيران وليس القضاء عليها أو التسليم لها بكل ما تريد.
ميزان القوى الإقليمي يتغير
أحرزت فصائل المعارضة المسلحة في سوريا تقدماً على الجبهة الشمالية في إدلب وجسر الشغور وما حولهما خلال الأسابيع القليلة الماضية، بحيث حققت زخماً عز عليها خلال السنوات الثلاث الأخيرة. ولا يمكن تعقل ذلك التقدم إلا من خلال زاويتين للنظر: وصول إمدادات عسكرية كاسرة للتوازن من تركيا، وخصوصاً الصواريخ الأميركية المضادة للمدرعات، وهو أمر لا تستطيع تركيا وحدها الإقدام عليه من دون ضوء أخضر أميركي. والثانية تبلور تفاهم إقليمي واضح بين تركيا والسعودية وقطر بخصوص سوريا وتعاون الفصائل المسلحة التي تتحالف معهم ميدانياً، وهو أمر لا يتصور حدوثه من دون موافقة أميركية أيضاً. وإن كان من الصعب الآن الجزم بأن المعارك في جبهة الشمال السوري كسرت التوازن مع نظام بشار الأسد بالفعل، إلا أن تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري عن فقدان الأخير لمشروعيته وعدم قابليته ليكون جزءاً من الحل لافتة بالفعل. صحيح أن تصريحات أميركية مماثلة صدرت تكراراً عن الإدارة الأميركية خلال السنوات الأربع الماضية، إلا أن اللهجة الأميركية المهادنة خلال السنتين الأخيرتين والتصعيدية خلال الأسبوعين الماضيين تشيران إلى تواكبهما مع التطورات الميدانية ورغبة أميركا في رؤية ميزان القوى في سوريا وهو يتغير.
ولا يمكن أيضاً غض النظر عن قرار لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي بتخصيص مساعدات عسكرية أميركية للعراق من موازنة العام 2016، على أن يذهب قسم منها إلى الحكومة المركزية والأكراد والسنة مباشرة. وبعد أن تقدم وزارتا الدفاع والخارجية ما يثبت التزام الحكومة العراقية بعملية المصالحة الوطنية، يتم دفع القسم الباقي من المساعدات. وفي حال فشلت الوزارتان في إثبات ذلك، يذهب الشطر الأعظم من المبلغ المتبقي إلى القوات الكردية والسنية مباشرة. الجديد في السياسة الأميركية تجاه العراق أنها تنطلق من التعامل المباشر مع المكونات العراقية، من دون الرجوع إلى حكام بغداد المتحالفين مع إيران. بمعنى أن اعتراف واشنطن بحكومة بغداد المركزية لم يعد مطلقاً، وأن خريطة الإقليم السني المفترض ستحجز إيران عن الاتصال البري المباشر مع سوريا ولبنان، وهي نتيجة فائقة الأهمية على التوازنات الإقليمية وليست إيجابية بالضرورة لا لإيران ولا للدول العربية.
غطت واشنطن «عاصفة الحزم» ديبلوماسياً وعسكرياً ورعت قرار مجلس الأمن الرقم 2216، وبغض النظر عن قدرة السعودية على تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية في اليمن خلال المدى المنظور، إلا أن السيطرة الجوية والبحرية للتحالف الذي تقوده الرياض على ساحة القتال، تمنع إيران من إمداد حلفائها في اليمن بالأسلحة والعتاد وتنال بالتالي من هيبتها الإقليمية. كما أن المواكبة الأميركية للحرب في اليمن إلى جانب السعودية تشي بلا لبس برغبة أوباما في رؤية الدول العربية الخليجية وهي تنهض محوراً بوجه إيران وطموحاتها الإقليمية. في ضوء كل تلك المؤشرات، لا تبدو حادثة احتجاز السفينة الأميركية في مياه الخليج كاسرة للتــــوازن الإقليمي، أو مظهـــرة بالضرورة لـ «اقتدار إيراني»، بقدر ما تكشــــف عن توتر إيراني متصاعد من تبدل التوازنات في المنطقة.
ربما كان على السيدين يونسي ومصلحي أن يتذكرا الحكمة الشعبية الإيرانية القائلة: «فقط عند نهاية الشتاء يمكنك عد أفراخك»، قبل أن يطلقا شعاراتهما الإمبراطورية الغارقة في التفاؤل. أما النتيجة السياسية الأكثر أهمية من الشعارات الاستفزازية، فمفادها أن التقديرات الإيرانية بخصوص أوباما ونياته وحدود قدراته في المنطقة ليست صائبة بالضرورة! إنها بالفعل أوقات صعبة في إيران.
صحيفة السفير اللبنانية