اتساع فضاءات الكتابة القصصية الجزائرية الراهنة
تواصل القصة القصيرة في الجزائر حضورها المميز محققة تطورا لافتا في قدراتها على التجريب والتجديد والإضافة، وهذا الكتاب “أدبية القصة القصيرة.. قراءات في نماذج قصصية” للناقد الجزائري د.علاوة كوسة، والذي يقرأ المتن القصصي الجزائري في الفترة الممتدة بين عامي 2000 و2012، متوغلا في عوالم النص القصصي الجزائري بمجموعة من الأدوات القرائية والإجراءات المساعدة على استكناه هذه النصوص واستبطانها، ليشكل تأكيدا على اتساع فضاءات الكتابة القصصية الجزائرية الراهنة، وظهور بوادر تجريب واشتغال مغاير على النص القصصي عمل على تحطيم النظريات الأدبية المعيارية التي تقدس أدبية النص وتحدد له أشكالًا لا يجب الخروج عنها.
وقال د.علاوة إن القصة القصيرة الجزائرية في الفترة المدروسة حققت أدبيتها باكتسابها لهويتها الفنية، واستقلاليتها عن أجناس أدبية أخرى كالرواية والمسرح والشعر، وذلك من خلال ما تميزت به من خصائص فنية، ومكونات نصية، وبنيات داخلية بارزة، وقيم وظواهر أسلوبية خاصة، جعلت منها جنسا أدبيا ذا سلطة على القارئ/ المتلقي يستمدها من أدبيته.
وأوضح “كان النص القصصي مسيجا بنصوص موازية كثيرة جدا، وكانت بمثابة الخطاب الموازي/ الهامشي، الذي يمارس على القارئ سلطة الهامش الموازية لسلطة النص/المتن لتتحالف السلطتان/ الخطابان/ النصان على أفق القارئ. ولم ترد النصوص الموازية في بداية المجاميع القصصية ولم تكتف بتواجد مقدماتي/ أولي ممهد لولوج عوالم جسد النص، كالاستهلالات الداخلية/ الفرعية، والعناوين الثانوية، والخواتم الزمكانية والهوامش. وقد أدت النصوص الموازية وظائف عديدة، منها الإغرائية، الوصفية فالتوضيحية، واختلفت مرجعياتها بين أدبية، دينية، ثقافية، سياسية وتاريخية. وكان لبعض النصوص الموازية تأثير على بنية النص القصصي، حيث ساهمت العناوين الثانوية ـ مثلا ـ في تجزيئ القصة إلى مقاطع قصيرة، جعلتها تبدو ومضات قصصية جدا. وهذا ما مهد لحضور القصة القصيرة جدا كجنس أدبي، في المدونة القصصية الجزائرية المعاصرة. وكان للزمن ـ بوصفه مكونا سرديا مهما ـ سلطته النصية الكبيرة، إذ اشتغل القصاصون على تفاصيله، ومكوناته، بتقنيتي: الاسترجاع، والاستباق، بلمسات فردية لكل قاص.
وأشار د.علاوة إلى أن السرد الاسترجاعي سيطر على مجريات القص في هذه المرحلة، وكانت الذاكرة المنطلق الغالب لكل التجارب تقريبا، مع استعمال قليل نادر لتقنية الاستباق والاستشراف. وقد تعددت علاقات الزمن كمكون قصصي بالآخر، فكان ذا روابط مختلفة بالأمكنة كفضاءات للأحداث، وبالشخصيات كمحركات لها، وكان الزمن ذا محمولات ذاتية/ عاطفية/ شخصية لهذه الشخصيات. ومن جانب آخر تواجد الزمن في مواقع كثيرة من جسد النص القصصي بداية من النصوص الموازية، كالعناوين والإهداءات والاستهلالات، إلى الخواتم والهوامش، كما جاءت كثير من الفواتح النصية بصيغ زمنية مختلفة.
ورأى أن القاص الجزائري اشتغل على توظيف الزمن ليس بوصفه حتمية فنية تؤطر الأحداث وتموضعها حسب حالاتها فحسب، بل كان هذا التوظيف لحاجة جمالية، دلالية، عميقة رامزة، تزيد القصة تماسكا وتعبيرا.
وأكد د.علاوة أن المكان شكّل ركيزة أساسية في بناء القصة القصيرة وعكس هوية الأعمال القصصية كثيرا، وكانت له سلطته على مكونات السرد الأخرى، وتنوعت علاقاته بها، بوصفه الحيز الذي تدور فيه الأحداث وتتحرك فيه الشخصيات، وتتخذ فيه اللغة أشكالها المختلفة ومستوياتها المتعددة. كما تنوعت الأمكنة في القصة الجزائرية القصيرة، بين منفتحة ومنغلقة، وبين مقدسة ومدنسة، كما كانت لهذه الأماكن أبعاد مختلفة تنوعت بين الاجتماعية، السياسية، الثقافية/العلمية والدينية. وقد تشكلت بين المكان والآخر علاقات مختلفة، وبمستويات متباينة، فكان للشخصيات ارتباط وثيق بالمكان ذي المحمولات العاطفية النفسية والإنسانية بالنسبة إليها، نظرا للتفاعل الدائم القائم بين هذين المكونين القصصيين: المكان والشخصية.
ولفت إلى أن بعض القصّاصات الجزائريات فتحن الجدل واسعا حول احتكار الأمكنة بوصفها فضاءات حركة وحياة لكلا الجنسين، وكيف أنها صارت تحت سلطة ذكورية، تسيطر على كثير من هذه الأمكنة ورفض الذكوري لتأنيث هذه الأمكنة كالمقهى والشرفة. واستحضر القصاصون الجزائريون المكان استحضارا فنيا جميلا، وتعاملوا معه بوعي فني، بوصفه إطارا ذا محمولات وتأثيرات، تؤثث النصص القصصي بجدية، واختلفت طريقة التعامل والاحتفاء بالمكان من كاتب إلى آخر.
وتابع د.علاوة “توزعت سلطة المكان على أجزاء مختلفة من القصص القصيرة، انطلاقا من عناوينها، التي جاء الكثير منها ذا طابع مكاني، سواء العناوين الرئيسية أو الفرعية أو الثانوية، كما كانت كثير من الفواتح القصصية دالة على المكان وصفا وتأطيرا ومنطلقا، ووردت بعض الخواتم المكانية في القصص دالة على أمكنة كتابة هذه النصوص القصصية.
وأضاف “أحسست في جولتي داخل البناء اللغوي والتركيب الأسلوبي للقصص المدروسة، أن هناك رهانا كبيرا لهؤلاء القصاصين على اللغة، فعمدوا إلى اختيار الألفاظ والعبارات، وتكثيف اللغة، مبتعدين عن حشد الألفاظ على حساب حشد المعاني، مستثمرين اللغة والتوليد الدلالي.
تأرجحت لغة القصة القصيرة الجزائرية في هذه المرحلة بين مستويين رئيسيين هما: الفصيحة والعامية، وهو ما ولّد لغة ثالثة يمكن أن نطلق عليها “العامية الفصيحة أو الفصيحة العامية”، أو “اللغة الوسطى”. وذلك قد يكون مبرره الشخصيات القصصية ومستوياتها المعيشة، الاجتماعية، العلمية والثقافية، والتي تستدعي مستويات لغوية ملائمة ومنسجمة حتى تبتعد عن النشوز والارتباك التصوري/ القرائي لدى المتلقي. وقد وقفنا على ظواهر أسلوبية شائعة في المتن القصصي، لعل أبرزها ظاهرة التناص، التي لم تعد مقترنة بالخطاب الشعري فحسب، بل اجتاحت القصة القصيرة أيضا، وتنوع التناص بين الالتفات إلى النص الديني، الأدبي، والتراثي، وتباينت مستويات التناص من كاتب إلى آخر في استراتيجيات استحضار هذه النصوص الغائبة، وتنوع التكرار بين تكرار للأسماء، الأفعال، الصفات، العبارات بمدلولاتها الزمكانية. وكان لظاهرة السخرية حضور في المتن القصصي ولو بدرجة أقل، حيث استعمل القصاصون أساليب ساخرة في معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية والدينية.
ولاحظ د.علاوة أنه كان للتجريب الفني ملامح مختلفة في المدونة القصصية الجزائرية لهذا القرن الجديد، لعل أبرزها تداخل الأجناس الأدبية وحوارها داخل النص القصصي القصير، انطلاقا من الشعر الفصيح والعامي، إلى القصة القصيرة جدا، فحضور مقاطع مسرحية أيضا. وهو ما جعل من القصة القصيرة تتصف بسمات النص الموسوعي/ المفتوح، الجامع لأجناس أدبية عديدة والمنفتح على أشكالها ومقولاتها.
إشكالية الزمن بين الأنسنة والتشيؤ
من ملامح التجريب كذلك اكتساح النصوص الموازية للقصة الجزائرية، إذ لم تعد هذه المرافقات النصية مقتصرة على العناوين والتقديمات في بداية المجاميع القصصية، بل امتدت إلى أجزاء النص وداخله أيضا وفي ختامه، وكانت ذات حضور كمي كبير، ونوعي غني بالإيحاءات ومنها: الهوامش، الاستهلالات والعناوين الثانوية الداخلية. لقد كان للقصة القصيرة جدا في المجاميع القصصية المدروسة حضور مكثف أيضا، في مواضع مختلفة من المجاميع، وهو ما يطرح فرضية أن تكون القصة القصيرة معبرا أجناسيا إلى أجناس أدبية أخرى، وأن تكون القصة القصيرة جدا، بديلا أجناسيا للقصة القصيرة أيضا.
جاء كتاب د.علاوة الصادر عن دار رؤية في مقدمة فمدخل وخمسة فصول وخاتمة، أما المدخل فكان في مبحثين، الأول تطرق إلى مفهوم الأدبية عند الدارسين القدامى والمحدثين من العرب والغرب، والثاني تتبع مسارَ القصة الجزائرية القصيرة وتحولاتِها، وعواملَ تأخر هذا الجنس الأدبي في الظهور، وكافةَ الصعاب التي اعترضته سياسية كانت أم اجتماعية وثقافية، وعلاقتها بالتطور الفني/ الموضوعاتي الذي اكتنفها خلال مراحل عديدة، بداية من مرحلة الاستعمار، إلى مرحلة الثورة، بين قصة الثورة وثورة القصة، فمرحلة ما بعد الاستقلال حيث سارت العوامل المحيطة نحو اليسر والتحسن، وذلك ما انعكس على المتن القصصي الجزائري بوضوح، لتليها مرحلة السبعينيات والثمانينيات وما عرفته من ملامح التجريب والانعتاق. لتصور قصة التسعينيات واقع الجزائري، وتؤرخ للمأساة الوطنية معانقة الفنية والجمالية بتفوق، وذلك ما جسده جيل أكتوبر الثائر ليكون أكتوبر بالفعل ثورة أدبية ثالثة، وصولا إلى قصة الألفية الثالثة وأبرز معالمها الفنية وأعلامها.
تناول د.علاوة في الفصل الأوّل النصوصَ الموازية في المجموعة، لما تكتسيه هذه النصوص المصاحبة للمتن من أهمية بالغة في الدرس الأدبي/ النقدي المعاصر، من حيث هي نصوص دالة ومرافقة للنص وعلى علاقة معه. وتوقف عند مفهوم النص الموازي ووظائفه ومرجعياته وإحالاته، بوصفه سلطة هامشية توازي سلطة المتن/ النص، وعرض أقسام النصوص الموازية كمقاربة تطبيقية، منها العناوين بوصفها عتبات نصية تتصدر الأعمالَ والنصوصَ، وكونها مفاتيح فنية تساهم في فك مغاليق النص والتوغل في مساحاته الدلالية اللامتناهية، ومنها العناوين الرئيسة والفرعية والثانوية، وتتبع منظومة الإهداءات بقسميها الرئيسة والفرعية، ودلالتها في النص القصصي، بوصف الإهداء نصا موازيا يمثل تواصلا حميما موازيا بين الناص والآخر المهدى إليه.
وتطرق في الفصل الثاني إلى إشكاليات الزمن في القصة القصيرة الجزائرية، انطلاقا من مفهوم الزمن وأهميته في العمل الأدبي، إلى مستوياته تقنياته، حيث عرض للمستوى الأول وهو الزمن والذاكرة/ السرد الاسترجاعي، الذي يعتمد تقنية الفلاش باك، متكئا على الزمن الماضي، ويعمد فيه القاص إلى تسريد الذاكرة، ويبدو فيه الارتباط بالماضي جليا. أما المستوى الثاني فوسمه بالزمن القادم/ السرد الاستشرافي، الاستباقي، وتطرق لعلاقة الزمن بالآخر من حيث حوار الزمن بالمكونات النصية الأخرى كاللغة والمكان والنصوص الموازية، وفتح في مبحث أخير بعضَ إشكاليات الزمن القصصي، منها إشكالية الزمن بين المقدس/المرغوب والمدنس /المنبوذ، وإشكالية الزمن بين الأنسنة والتشيؤ.
المكان بوصفه مكونا نصيا مهما في العمل الأدبي عموما وفي القصة القصيرة على وجه الخصوص، كان محور الفصل الثالث، حيث انطلق د.علاوة من إشكالية المصطلح – الفضاء/ المكان- وما تخلل هذا المبحث المصطلحي في الدرس النقدي من اختلافات ونقاش، وتحدث عن أهميته كشريك فني في النص القصصي، وكحيز لمسرح الأحداث القصصية حيث تتحرك فيه الشخصيات. وتم تخصيص مبحث عرض فيه أنواع الأمكنة، وتقسيماتها على أساس الثنائيات الضدية، فتنوعت بين أماكن منفتحة وأخرى منغلقة، وأماكن مقدسة وأخرى مدنسة، وبين أماكن واقعية وأخرى عجائبية. وفي مبحث آخر تطرق إلى المكونات المكانية في القصة القصيرة، ومنها المكونات الاجتماعية، الدينية، الثقافية والسياسية فالتاريخية. وعرج في مبحث آخر على علاقة المكان بالآخر كعلاقته بالزمن وجسد النص والشخصية، كما تحدث عن المكان وجدل الأنوثة والذكورة.
وحلل د.علاوة في الفصل الرابع فنيات اللغة ومستوياتها، وظواهر الأسلوب في المجاميع القصصية المدروسة، أما اللغة فمن حيث أهميتها/ مستوياتها، وجدل الفصحى والعامية وتناوبهما حضوريا في المتن ودرجات الحضور، بوصف اللغة مقوما أساسيا في النص القصصي وعنصرا مهما في العمل الأدبي، وتطرقت إلى ظواهر أسلوبية بارزة في القصة الجزائرية القصيرة مثل التناص كاستحضار للغائب من النصوص، والتكرار، والخطاب الساخر.
وتوقف د.علاوة في الفصل الخامس والأخير عند ملامح التجريب الفني في القصة الجزائرية القصيرة، وذلك من خلال أكثر من مبحث، أولها كشف فيه تداخل الأجناس الأدبية في النص القصصي الواحد، كنوع من التوجه نحو النص المفتوح/ الموسوعي، حيث تضمنت القصة الجزائرية الشعرَ بنوعيه الفصيح والعامي، والقصةَ القصيرة جدا والمسرحَ أيضا. وثانيها تحدث عن سلطة النصوص الموازية والحضور المكثف لهذا الخطاب الهامشي في المتن القصصي الجزائري في هذه المرحلة، وخصص المبحث الأخير لملمح آخر من ملامح التجريب الفني وهو حضور القصة القصيرة جدا كبديل أجناسي جديد، وهو ما يفتح فرضية أن تكون القصة القصيرة معبرا سرديا إلى أنواع سردية أخرى.
ميدل إيست أونلاين