احتراب «الأخوان» وخصومهم في ديموقراطية المحافظين الجدد (قاسم عز الدين)
قاسم عز الدين
ما يحترب بشأنه الأخوان المسلمون وخصومهم من التيارات الليبرالية والمدنية هو بعض مواد الدستور التي تتيح تأويل التشريع وفق معتقدات التيارات الاسلامية المتباينة، لكنهم يتفقون على حوالى ستين مادة (من أصل 236) ترْجح إلى تجديد نظام السادات ومبارك في نموذجه وأسسه المؤسِّسة. فمواد احتراب التيارات الاسلامية وخصومها اليوم هي نفسها مادة احتراب الغد، بين التيارات الاسلامية نفسها. تقول المادة (219) على سبيل المثال: «مبادئ الشريعة الاسلامية تشمل أدلّتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرَة في مذاهب أهل السنّة والجماعة» وهو تحديداً ما احتربت بشأن تأويل «الأصول الفقهية ومصادرها المعتبرَة» التياراتُ السلفيةُ والجهاديةُ مع «الاسلاميين الوسطيين» والتيارات الصوفية، فضلاً عن الحرب على غير المسلمين وعلى المسلمين من غير أهل الجماعة والسنّة. إنما الأغرب في مسوّدة «دستور الثورة»، هو اتفاق تيارات «الجمعية التأسيسية» (ومن ورائها التيارات السياسية الدينية والمدنية) على استمرار أسس النظام السابق في إلغاء دور الدولة نحو «سياسة الانفتاح»، ثم في ديموقراطية المحافظين الجدد النيوليبرالية تالياً.
مواد هذه الأسس المؤسِّسَة التي تتوافق عليها «الجمعية التأسيسة»، جرى صوغها بأسلوب إنشائي على وصايا المؤسسات الدولية وأدبياتها التي توحي بأمر ما صياغة، من أجل الوصول إلى النقيض فعلاً وعملاً. فالمواد الدستورية العديدة التي تنصّ على كفالة الدولة الرعاية الصحية والأمومة والتعليم والأجر وغيرها، هي كفالة زبائنية أو صَدقَة من السلطة، وليست حقا يكفله تنظيم العمل الذي يؤمّن وحده حقوق الخدمات الاجتماعية. فقد جرى في مصر خوصصة الخدمات الاجتماعية والصناعات المرتبطة بها كصناعة الدواء مثلاً، بناء على اتفاقيات «منظمة التجارة العالمية» والسوق الحرة، ولا يمكن النظر في هذه الخدمات دون إعادة النظر بالخوصصة والسوق الحرة والاتفاقيات. لكن الدستور يؤكد على العكس من ذلك، حماية كل ما سبق واستمراره. فالمادة (14) تنصّ بين مواد كثيرة على «المشاركة بين الرأسمال والعمل في تحمّل تكاليف التنمية والاقتسام العادل لفوائدها…»، فهذه المشاركة في التكاليف تلغي الحقوق الاجتماعية بل تلغي القيمة الشرائية للأجر، على ما برهنت تجارب «سياسات الانفتاح» في كل البلدان «النامية» وفي عولمة حرية الرأسمال، وعلى ما تؤكده المادة نفسها بالقول: «يجب ربط العمل بالانتاج». وفي السياق عينه تنصّ المادة (17) على «حماية الدولة للصناعات الاستراتيجية ودعم التطور الصناعي…». لكن المادة (29) تقول: «لايجوز التأميم إلاّ لاعتبارات الصالح العام وبقانون ومقابل تعويض عادل». إذ إن التأميم في هذا الدستور هو استثناء (يكاد يكون مستحيلاً) في ظروف ينبغي أن تكون فيه الخوصصة استثناء لا قاعدة. فالصناعات الاستراتيجية المصرية جرى «خوصصتها» ونهبها. ومن المفترَض أن يؤكد «دستور الثورة» على إعادتها ملكية عامة ومحاسبة المستفيدين من النهب، لكنه على خلاف ذلك، يؤكد حماية النهب واستمراره في مواد دستورية عديدة.
في استمرارية النظام السابق نفسها، تنصّ المادة (15) على ان «الزراعة مقوّم أساسي للاقتصاد الوطني…..»، فيما تنصّ العديد من مواد الدستور على «صيانة الملكية الخاصة» وعلى احترام «حق المال والتجارة»….، بينما أدّى اعتماد النظام السابق وصايا البنك الدولي في «الزراعة مقوّم أساسي للاقتصاد» إلى استحواذ اصحاب «المال والتجارة» على أراضي صغار المزارعين وتشريدهم إلى العشوائيات «لزيادة النمو والدخل القومي في الاقتصاد الوطني». كما أدّت هذه الوصايا إلى تبعية غذائية تستفحل يوماً بعد يوم وإلى استحواذ «رجال الأعمال» على الأراضي المستصلَحة للتصدير إلى السوق الدولية بدعوى «التنمية» مرّة و«الأمن الغذائي» مرّات. هذا الأمر يفرض على الأقل في «دستور الثورة» إعادة النظر في وصايا «المؤسسات الدولية» نحو توطين الغذاء والزراعة واستقرار الارياف، في إحياء ثقافة الغذاء المحلي التي تعتمد على هندسة متسقة بين العديد من عناصر الزراعة الجوّانية والمزارعين. وهي أرقى وأغنى نوعاً وتعدداً في تأمين فرص العمل والسيادة الغذائية، من البرّانية النمطية المدقعة في اعتمادها فقط على عنصرَيْ زيادة الكم وضخامة الرقعة.
المفارقة أن خصوم التيارات الاسلامية لا يجدون في الدستور وفي سياسة الأخوان ما يستحق الخلاف السياسي «لتحقيق أهداف الثورة»، غير الاحتراب حول بعض المواد التي تتيح التحكّم بالسلطة وقمع الحريات، بينما يجدّد الدستور مجمل النظام السابق ويستكمله في أسسه المؤسّسة والنموذج، سواء في سياسته الداخلية أم في سياسة التبعية الاستراتيجية والاقتصادية ــ الاجتماعية. لقد أصابهم مسُّ من ديموقراطية المحافظين الجدد التي غذّتها وعمّمتها مصالح الشركات المتعددة الجنسية، ومراكز الابحاث الكبرى و«المؤسسات الدولية» ومدارس علوم الاجتماع الحديثة والإعلام…. في التحوّلات النيوليبرالية المستمرة منذ أربعة عقود ونيف. فالديمقراطية الحديثة، على ما يبشّر آباء المحافظين الجدد المؤسّسون، هي رأس جبل الجليد في السلطة، ما أن تتدمقرط بتداول صناديق الاقتراع والحريات والاصلاحات الدستورية، حتى يُتدمقرط النظام. فلا تباين المصالح بين الفئات الاجتماعية، ولا دور الدولة الناظم للسياسات الخارجية والدفاعية والاقتصادية ــ الاجتماعية، هما ما ينبغي أن يتدمقرطا لصالح الأغلبية، بل فقط بعض التقنيات الفنّية والطقوس «الحضارية» في الشفافية ومكافحة الفساد. يقول أحد هؤلاء الآباء الملهِمِين هو «دانيال بل» وهو برفسور العلوم الاجتماعية في جامعة كولومبيا الاميركية: «في مجتمع ما بعد الحداثة الذي يقوم على العلم والمعرفة ووسائط الاتصال،… لا ثورة من أجل تغيير الحياة (ليست الثورة الديموقراطية لتغيير النموذج وامتيازات الأقلية الغالبة لصالح أغلبية الناس)… بات الاصلاح عملاً يقوم به خبراء وعلماء وتقنيون وجامعيون … يتوصلون إليه باتخاذ قرارات سياسية وادارية بالتوافق والتفاهم»، خصوصاً من دون مشاركة الناس المستفيدين من التغيير الديمقراطي، بغير اختيار ممثلي السلطة في صناديق الاقتراع. يقول أيضاً في كتابه «نهاية الايديولوجيات ــ 1960) الذي سبق نهايات فوكوياما في التاريخ بشوط كبير، ما مؤداه إن إيديولوجيات الديمقراطية ــ الاجتماعية، والديمقراطية ــ الليبرالية، (والاشتراكية والشيوعية بطبيعة الحال)، انتهت إلى حالة من الارتقاء والترقي في النموذج البشري الذي ينتهي عنده نضوج «العقل الانساني» في الديموقراطية الدستورية الأميركية.
جوهر هذه الديموقراطية هو «الحرية مقابل الاستبداد» كما عبّر عنها شيخ آخر من الآباء المؤسسين هو صاحب كتاب «الاستبداد الشرقي ــ 1957)، كارل «أوغوست ويتفوجيل» مع مجموعة مجلة «ذي بوبليك أنتريست». فالمجلة جمعت رهطاً من الآباء الملهِمِين، وفي «المؤتمر من أجل حرية الثقافة» كإطار لحرب مخابراتية أميركية ضد الاتحاد السوفياتي. وكان هدف المؤتمر هو «البحث عن أجوبة أخلاقية وسياسية» فوجدوها في «حرية الثقافة»، وهي على وجه الخصوص حرية الجماعات الثقافية الاثنية والعرقية والدينية، وكذلك الحريات الفردية والمدنية و«حقوق الانسان»، لتفكيك الامبراطورية السوفياتية وقتها، وإنهاء الحرب الباردة بالسماح لاميركا قيادة العالم في تعميم نموذجها. فإفشاء هذه الحريات «قيمة القيَم» في الغابة هي عامل انفجار وتفجير، كحجبها ولجمها في حديقة الحيوان سواء بسواء. ولا يمكن تحويل طاقة الانفجار والتفجير إلى إثراء متعدد الأوجه بغير ديمقراطية الدولة التي تأخذ بحقوق الفئات الاجتماعية المتباينة المصالح، بحيث تعيق حرية الرأسمال من أجل التوافق الاجتماعي في الانتاج، لا في التوزيع فحسب. فالدولة الديموقراطية لا تأخذ بالحريات ولا تتعامل معها، بل تأخذ بتوافق المصالح بين الفئات الاجتماعية المتباينة المصالح. لكن السلطة الديموقراطية تتيح الحريات الشخصية والمدنية وحرية الرأي والاعتقاد والتنظيم… كسلطة موازية، يمكن أن تحدّ من جموح السلطة للعسف والتسلّط، لا من أجل أن تكون الحريات أساس الدولة أو أساس سلطة الحكم.
على نقيض هذه التجربة الديموقراطية التاريخية التي أخذت بها التيارات الديموقراطية الاجتماعية والديمقراطية الليبرالية بأشكال متفاوتة (قبل التحوّل النيوليبرالي الحديث)، قامت ديموقراطية المحافظين الجدد على إلغاء دور الدولة الناظم للتوافق الاجتماعي والسياسة الخارجية والدفاعية. يوضح شيخ ملهِم من الآباء هو «جيمس بورنهام»، على ما يتبحّر شيخ الشيوخ «إيفرنغ كريستول»، أن أي تدخّل للدولة في نَظْم السياسة الاقتصادية ــ الاجتماعية والحدّ من حرية الرأسمال والتجارة والاستثمار، هما بذرة «لاستبداد الدولة الراعية». بل على العكس من ذلك كما يقول، ينبغي أن تقوم «جمعيات المجتمع المدني بالرعاية الاجتماعية ريثما تُفضي حرية الرأسمال إلى حلول فُضلى على المدى الأبعد». أما دور الدولة ــ السلطة فينبغي أن ينحصر في تشجيع عولمة هذه الحرية وحماية أمنها «في مكافحة الارهاب»، وأيضاً في الدعم المادي حين يتعثّر الرأسمال، وفي الاتفاقيات الدولية والسياسة الخارجية والحرب. وما ميّز ديمقراطية المحافظين الجدد عن نظريات فريدريك هايك، ميلتون فريدمان، لودفيك فون ميزيس… الاقتصادية المشابهة، هو تحديداً «الأجوبة الاخلاقية والسياسية» لحرية الرأسمال. وهي تقريباً الأجوبة الشائعة بين تلاميذ علم الاجتماع «الحديث» والخبراء ومراكز الأبحاث الكبرى والإعلام… حول مآثر الديموقراطية «الحديثة» وصناديق الاقتراع في السلام والاستقرار، أو تشجيع الاستثمار «لخلق فرص العمل» والتنمية، أو نبذ العنف وحل النزاعات على طاولة المفاوضات، والحريات الفردية ومناهضة الاستبداد.
تشبّعت النُخب الثقافية والمعارضات السياسية العربية بهذه المآثر في الثقافة السياسية الشائعة، على مدى أربعة عقود في مستويين: أ ــ على مستوى إلغاء دور الدولة الناظم للدمقرطة الاجتماعية في مصالح وطموحات الأكثرية المغلوبة من الناس على حساب مصالح الأقلية القليلة الغالبة. وهو أمر يفرض توجّه الدولة نحو بناء الحقل الإقليمي في تبادل المصالح الوطنية والمنفعة المشترَكَة، وحماية الأمن القومي. فلا ديمقراطية للدولة ولا حقوق اجتماعية دون الاستناد إلى تبادل المنفعة في الحقل الاقليمي لتفكيك التبعية لمصالح واستراتيجيات ومؤسسات «المجتمع الدولي». فالتحوّل الديمقراطي السياسي والاجتماعي للدولة هو منحى نقيض ديمقراطية المحافظين الجدد في «ترتيب البيت الداخلي» ، وهو مدخل «للتمكين» في السلطة. ب ــ على مستوى نموذج النظام النيوليبرالي في ثالوثه المقدّس (حرية السوق والتجارة والاستثمار)، في المراهنة على «نهضة» أو تنمية وخلق فرص عمل وازدهار…. إلخ. بموازة ذلك، المراهنة على ديمقراطية السلطة بدلاً من ديموقراطية الدولة في أوهام مآثر النموذج إذا توفرت الحريات و«الثقافة الديموقراطية»، وعمل «المؤسسات والقوانين والخبراء والتقنيين في محاربة الفساد….».
فزيادة الشيء من الشيء نفسه، لا تؤدي إلى الاستبداد الذي عرفناه دهراً وحسب، إنما تؤدي إلى احتراب بين القوى السياسية على النفوذ والسلطة، وإلى احتراب الجماعات والأفراد على توزيع الثروة الخام والجغرافيا ــ السياسية، وإلى استفحال التبعية والفراغ. فالموجة الثورية الأولى في العالم العربي، دجّنتها قوى الثورة المضادة الخارجية والداخلية وكذلك القوى السياسية التي صعدت إلى السلطة على أكتاف الثورة، الموجة الثورية الثانية التي تبزغ من جديد في مصر وتونس تواجه ديموقراطية المحافظين الجدد.
صحيفة السفير اللبنانية