استنفارٌ سياسيّ وعسكريّ وتحذيرات أميركيّة: خطرٌ وجوديّ على القواعد في سوريا والعراق
جو غانم
تدرك الولايات المتحدة الأميركية أنّ لدعمها اللامحدود لكيان الاحتلال الإسرائيليّ، ولمشاركتها المباشرة في العدوان على الشعب الفلسطينيّ، أثماناً باهظة عليها دفعها أخيراً.
بعد ساعات من إعلان مسؤول كبير في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، في تصريحٍ صحافيّ، تعرّض القواعد العسكرية الأميركية في سوريا والعراق لـ 97 هجوماً بالصواريخ والطائرات المسيرة، في الفترة بين 17 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي و13 كانون الأول/ ديسمبر الحاليّ، أعلنت القيادة المركزية الأميركية قيام قائدها، الجنرال مايكل كوريلا، بزيارةٍ مفاجئة، لم يُعلن عنها مسبقاً، لعددٍ من تلك القواعد في البلدين، وبلقائه القادة العسكريين والجنود، وقادة ما سماه بيان القوات المركزية “القوات الشريكة وأعضاء الخدمة الأميركية”. وذكر البيان أنّ كوريلا أجرى مع القادة والجنود تقويماً للوضع الأمني الحالي لتلك القوات، وبحث معهم في آخر التحديثات العملياتيّة المتعلّقة بنشاطاتها وبـ”الموقف من حمايتها”، وأجرى تقويماً شاملاً لمدى التقدم الذي أحرزته تلك القوات في “الحرب ضد تنظيم داعش”.
بعيداً عن شمّاعة “الحرب على تنظيم داعش الإرهابيّ”، التي تُزيّن بها واشنطن جميع بياناتها السياسية والعسكرية المتعلّقة بوجودها الاحتلاليّ في سوريا والعراق، فإنّ زيارة كوريلا المفاجئة لم تكن إشارة القلق والغضب الوحيدة التي صدرت عن واشنطن في الأيام والأسابيع الماضية، بسبب كثافة الهجمات على القواعد والمراكز لهيمنتها في البلدين، فلقد سبقتها، خلال أيام قليلة فقط، اتّصالات وتهديدات من أرفع المستويات السياسية والعسكرية في واشنطن، تلقّاها رئيس الوزراء العراقيّ، محمد شياع السوداني، وتبلّغتها دمشق عبر أطراف ثالثة.
وخلال أسبوع واحد فقط، كرّر كلّ من وزير الدفاع الأميركيّ، لويد أوستن، ووزير الخارجية، أنتوني بلينكن، ومدير وكالة الاستخبارات الأميركية، وليام بيرنز، تحذيراتهم لرئيس الوزراء العراقيّ، وتهديداتهم بـ “عواقب وخيمة” (على حدّ تعبير بيرنز) ستواجه بها واشنطن بغداد، إنْ لم تتّخذ الأخيرة إجراءات لوقف الهجمات على القواعد الأميركية.
وتلقّت بيروت، بدورها، صياغة مماثلة من التحذيرات لإيصالها إلى قادة المقاومة الإسلامية في لبنان (حزب الله)، وخصوصاً بعد تصريح نائب الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، وقوله إنّ “الهجمات على القواعد الأميركية في سوريا والعراق مهمّة للغاية من أجل وقف العدوان الإسرائيليّ على قطاع غزّة”.
بعد مضيّ أكثر من 70 يوماً على بدء ملحمة “طوفان الأقصى” البطولية في قطاع غزّة، تدرك الولايات المتحدة الأميركية أنّ لدعمها اللامحدود لكيان الاحتلال الإسرائيليّ، ولمشاركتها المباشرة في العدوان على الشعب الفلسطينيّ، أثماناً باهظة عليها دفعها أخيراً، وبلغت هذه الأثمان في هذه المرحلة حدّ التهديد الحقيقي وفائق الخطورة، للوجود العسكريّ الأميركي في المنطقة العربية والشرق الأوسط.
وهذا الشعور بالخطر، هو تحديداً ما يقف خلف ذلك الاستنفار الأميركيّ في المنطقة، سياسيّاً وعسكريّاً، وما يدفع ساسة واشنطن إلى إطلاق كلّ تلك التهديدات والتحذيرات في وجوه الأعداء من قوى محور المقاومة، كما في وجوه الساسة الحلفاء في المنطقة، بل حتى في وجوه قادة كيان الاحتلال الإسرائيليّ ذاته. وما تصريحات الرئيس الأميركيّ، جو بايدن، الأخيرة، بشأن سياسة رئيس وزراء كيان الاحتلال، بنيامين نتنياهو، واتّهامه بالفشل، وبكونه بات يُشكّل عائقاً أمام جهود التهدئة والتسويات، والحديث عن ضرورة الإسراع في تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة قادرة على الخروج من هذا المأزق الإسرائيلي – الأميركيّ الخانق في غزّة، سوى تعبير صارخ عن مدى شعور واشنطن بالخطر الشديد من تداعيات المعركة التي امتدت من غزّة، لتصل إلى كلّ مكان تضع فيه واشنطن قدميها في المنطقة؛ أي أنّ مخاوف الإدارة الأميركية من هذا الفشل الكبير، الذي أوقعت فيه المقاومة الفلسطينية “تلّ أبيب” وواشنطن في غزّة، بات أبعد كثيراً من خلافٍ على أسلوب إدارة المعركة هناك، فلقد حوّلته قوى محور المقاومة في الإقليم والمنطقة من جهتها، إلى ورطة أميركية كبيرة تتظهّر تداعياتها يوماً بعد يوم، إلى درجة أنّ النقاش الداخلي الأميركي بشأن الحرب في غزّة، خرج إلى العلن في الأيام الأخيرة، على شكل اتّهامات أميركية لنتنياهو أوّلاً، كما لقادة حربه وأركانه.
ولعلّ في تسريب تقويم استخباري أميركيّ، خلال الأسبوع الماضي، والذي تحدث عن “القنابل الغبية” التي يطلقها جيش الاحتلال (يقول التقويم إنّ 45% من إجمالي 29 ألف قذيفة جوّ – أرض أطلقها جيش الاحتلال على مدينة غزة، كانت غير موجّهة و”غبيّة”) يأتي في سياق تصاعد الخلافات بين رأسَي جبهة العدوان، ليتطوّر النقاش الذي بات مادّة يومية في الصحف الأميركية والبريطانية إلى حديث عن “مأزق كبير” لبايدن وإدارته، وإلى جدل بشأن الفاتورة الكبيرة التي تدفعها وستدفعها واشنطن نتيجة تقدّم قوى محور المقاومة في كل الجبهات، انطلاقاً من غزّة ذاتها، التي أعادت عنوان تحرير فلسطين والمنطقة من قوى العدوان والاحتلال والهيمنة إلى واجهة الأحداث عمليّاً، وبالنار الكثيفة التي لا تكاد تنطفئ من جرّاء الهجمات المستمرة والمتزايدة على القواعد الأميركية في سوريا والعراق، منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ليبلغ الأمر فرض القوى الثورية والمقاوِمة في اليمن، سيطرتها وإرادتها على طريق الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب، وربط اليمنيين هذا الأمر بمعركة “طوفان الأقصى” وبالحرب ضد الاحتلال والهيمنة الاستعمارية على منطقتنا، وهو ما زاد الورطة الأميركية تعقيداً أمام العالم أجمع.
وفي الميدان السوريّ، الذي تحوّل إلى جبهة دائمة الاشتعال والمواجهة في معركة “طوفان الأقصى”، أقدم طيران الاحتلال الإسرائيليّ، مساء يوم الأحد 11 كانون الأول/ديسمبر، على استهداف مزرعة واقعة جنوبيّ العاصمة السورية دمشق، وعدة نقاط في محيط العاصمة. وأعلن الناطق العسكريّ السوريّ أنّ العدو الإسرائيليّ “نفّذ عدواناً جويّاً من اتّجاه الجولان السوري المحتلّ”، وأنّ وسائط الدفاع الجويّ السوريّ تصدّت للهجوم وأسقطت معظم الصواريخ المعادية. وأسفر العدوان عن سقوط شهيدين وإصابة ثلاثة آخرين.
ولم تنتظر المقاومة الإسلامية في سوريا والعراق طويلاً، بل بادرت إلى الردّ من خلال هجوم بالصواريخ والقذائف على القاعدة الأميركية في مدينة الشدّادي، الواقعة جنوبي مدينة الحسكة في الشرق السوريّ، وسُمع دوي انفجارات قوية داخل القاعدة. وأكّد شهود عيان في المنطقة سقوط طائرة أميركيّة مسيّرة بالقرب من طريق الشدّادي – تل جاير، لتفرض القوات الأميركية طوقاً أمنيّاً على المكان، وتمنع الاقتراب من مكان سقوط الطائرة.
وبالتزامن، تعرّضت قاعدة الاحتلال الأميركيّ، “عين الأسد”، الواقعة غربيّ العراق، لهجوم بطائرة مسيّرة. وخلال ساعات قليلة فقط، تعرّضت 6 قواعد عسكرية أميركية في الشرق السوري وغربيّ العراق لـ 13 هجوماً واستهدافاً بالصواريخ والقذائف والطائرات المسيّرة، وهي قواعد “الشدّادي”، التي استُهدفت بأكثر من 8 صواريخ، و”قاعدة حقل العمر النفطي”، التي استُهدفت بأكثر من 7 صواريخ، وقاعدة “خراب الجير”، الواقعة جنوبيّ حقول نفط الرميلان في ريف بلدة اليعربية الحدودية السورية، والتي تعرّضت لهجومين خلال أقل من ثلاث ساعات، بأكثر من 12 صاروخاً، وقاعدة حقل الغاز “كونيكو”، وقاعدة “عين الأسد” التي تعرّضت لثلاثة هجومات خلال خمس ساعات فقط، وقاعدة “مطار إربيل” في شماليّ العراق.
وفي 13 من هذا الشهر، تعرّضت قواعد “التنف” و”الشدادي” و”حقل العمر”، لهجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة، وذلك في إعلان تصعيديّ واضح من قوى المقاومة في المنطقة، وفي إطار الهدف المعلن والمتمثّل بنصرة أهلنا الذين يقاتلون ببسالة في قطاع غزّة، والذين يتعرّضون لأبشع المجازر اليومية التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيليّ، بمساعدة القوات الأميركية التي تدعمه، عبر مختلف وسائل القتل والتدمير، وتمدّه بجسر جويّ متواصل، بحسب تأكيد أبي عبيدة، الناطق الرسميّ باسم كتائب الشهيد عز الدّين القسام.
وإذ أثبتت قوات الاحتلال الأميركي، الموجودة في سوريا والعراق، حتى اللحظة، فشلها في صدّ هذه الهجمات المتزايدة أو الحدّ من خطرها، أو حتى تحديد الأمكنة التي تُطلق منها الصواريخ والطائرات المسيّرة، فإنها عمدت، خلال الأسبوعين الأخيرين خصوصاً، على إطلاق عدد كبير من بالونات المراقبة الجويّة في الشرق السوري والغرب العراقي وفي منطقة الحدود، وخصوصاً في الأجواء المحيطة بقواعدها تلك، كما استقدمت تعزيزات ومعدّات قتالية ولوجستية إلى معظم تلك القواعد، لكنّ ذلك لم يُؤد سوى إلى تكثيف هجمات المقاومة وضرباتها في الأيام الأخيرة.
فعمدت واشنطن إلى تحريك خلايا تنظيم “داعش” في بادية كل من التنف وتدمر وأثريا، فقابل هذه الخلايا الطيرانان السوريّ والروسيّ، ومجموعات قتالية من نخبة قوات الجيش العربي السوريّ وفصائل المقاومة في البادية، بغاراتٍ كثيفة وهجمات مباغتة على الأرض، استهدفت أوكار التنظيم ومغاوره في تلك المناطق. وأسفرت هذه العمليات عن قتل عدد من الإرهابيين وتدمير عدة مراكز ومغاور كانوا يستخدمونها وينطلقون منها، وخصوصاً في بادية أثريا.
المرجَّح هنا أنّ ضربات فصائل المقاومة في سوريا والعراق، واستهدافاتها لقواعد الاحتلال الأميركيّ، سوف تتصاعد وتتكثّف، في الكمّ والعدد، كما في نوع الأسلحة المستخدمة، خلال الفترة المقبلة، وهو إعلان واضح من جانب قادة المقاومة في سوريا والعراق، هدفه الانخراط المبدئيّ في معركة “طوفان الأقصى” وحرب تحرير فلسطين، والضغط المتواصل على القوات العسكرية الأميركية حتى طردها من البلدين. وحتى اللحظة، لا يبدو أنّ لدى واشنطن الكثير أو المؤثّر، عسكريّاً وعمليّاً، من أجل فعله أمام هذا المستوى الجديد من الحرب التي تواجهها في أماكن نفوذها واحتلالها في المنطقة، وهي تقف الآن عند نقطة التهديد والوعيد، اللذين لا يلقيان انتباهاً أو صدىً لدى قادة المقاومة وكوادرها في المنطقة.
الميادين نت