استنهاض رباعيّ الأبعاد بوجه موسكو وبكين: واشنطن ترمّم «ترسانة الديموقراطية»
تندرج القمّة الثانية للديموقراطية، والتي افتتحها الرئيس الأميركي، جو بايدن، يوم الأربعاء الماضي، بمشاركة 121 من قادة العالم، في إطار الجهود المحمومة التي تبذلها إدارته لتوسيع جبهة حلفاء الولايات المتحدة في مواجهتها الاستراتيجية مع روسيا والصين. كشفت سلسلة من التطوّرات الهامة، منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، وبينها مواقف معظم بلدان الجنوب منها، غير المنسجمة مع توجّهات واشنطن، وأيضاً تزايد الدور السياسي للصين، بعد ذلك الاقتصادي، في أكثر من منطقة حيوية في العالم، تحولاً بنيوياً في طبيعة العلاقات الدولية سِمته الأساسية، وفقاً لعالم السياسة الفرنسي، برتران بادي، الانتقال من التحالفات الثابتة إلى «التقاطعات المتقلّبة». بطبيعة الحال، يرتبط مثل هذا التحوّل بتراجع الهيمنة الأميركية، وما يصاحبه من اتّساع لهامش المناورة لدى قسم كبير من دول الجنوب. تحاول واشنطن اليوم وقف التحوّل المُشار إليه، والمبادرة إلى هجوم مضادّ لاستعادة موقعها الريادي عبر اعتماد مقاربة استقطابية، لا تختلف في العمق عن منطق «إمّا معنا وإمّا ضدنا» الذي تبنّاه بوش الابن، بين «أنصار الديموقراطية» و«خصومها». هي توظّف النزاع مع روسيا في أوكرانيا لتعزيز سطوتها على حلفائها الأوروبيين؛ وترفع منسوب التوتّر مع الصين، حيث من بين أهدافها إجبار دول جوار الأخيرة على اختيار المعسكر الغربي. وعلى الرغم من أن المذعورين، في أوروبا وفي آسيا، من صعود دور اللاعبَين الروسي والصيني يهرعون إلى الوقوف صفّاً واحداً خلف واشنطن، فإن الولايات المتحدة تحتاج من جهتها إلى هؤلاء ليتحمّلوا معها الأعباء الباهظة للمجابهة مع اللاعبَين المذكورَين. ومن النافل قوله إن التعاون المتنامي بين موسكو وبكين في شتّى المجالات، بما فيها تلك العسكرية، قد ضاعف الحاجة إلى تقاسم أعباء هذه المجابهة.
لا مجال لمقارنة الشراكة الصينية – الروسية بحلف عسكري مندمج بقيادة أميركية كحلف «الناتو». لكن إعلان وزارة الدفاع الصينية «استعداد جيشها لتنفيذ مبادرات أمنية عالمية بالتعاون مع نظيره الروسي»، والذي يأتي بعد حديث رئيسَي البلدَين خلال لقائهما في موسكو عن ضرورة تطوير التعاون بينهما، يؤشّر إلى توجّه للارتقاء بالشراكة الاستراتيجية إلى مستوى أعلى. تحرص الدولتان على عدم تقديم الشراكة بينهما، وإنْ شهدت تعزيزاً نوعياً في أكثر من مضمار، على أنها حلف موجّه ضدّ «الناتو»، لأنهما لا تريدان وضع بقيّة دول العالم، التي تملك مع قسم عظيم منها كتل مصالح ضخمة، أمام تحدّي الاختيار بين معسكرَين متقابلين. موسكو وبكين تدركان أن دولاً كتركيا وباكستان وتلك الخليجية، إضافة إلى بلدان أفريقيا وأميركا اللاتينية، تفضّل تنويع الشراكات على البقاء أسرى لعلاقات حصرية مع قوّة مهيمنة. الظروف الدولية الراهنة باتت ملائمة لتحقيق تطلّع قديم لدى بلدان الجنوب، وهو عدم الانحياز في سياستها الخارجية، وإقامة العلاقات على قاعدة المصالح المشتركة مع جميع القوى الدولية الأخرى. لم تسمح موازين القوى في الماضي بالوصول إلى الهدف المذكور، لكن الموازين السائدة حالياً قد تتيح مِثل هذا الأمر. لموسكو وبكين مصلحة في استمرار ذلك الاتّجاه في العلاقات الدولية على عكس واشنطن.
الأخيرة تريد، وفقاً لآرثر هيرمان، الزميل الرئيس في «معهد هدسون»، إعادة بناء «ترسانة للديموقراطية تستطيع هزيمة محور الصين – روسيا – إيران»، وهو عنوان مقاله في «ذي ناشيونال أنترست». مفهوم «ترسانة الديموقراطية»، الذي لجأ إليه هيرمان، كان قد استُخدم خلال الحرب العالمية الثانية من قِبل الرئيس الأميركي، فرانكلين روزفلت، للإشارة إلى تخصيص البنية التحتية الصناعية في الولايات المتحدة للإنتاج العسكري دفاعاً عن «الديموقراطية» في مواجهة دول المحور آنذاك. ما يدعو إليه الباحث، بعد إقراره بتراجع القدرات الصناعية العسكرية الأميركية وعجزها عن تلبية احتياجات «العالم الحرّ»، ناهيك عن احتياجات الولايات المتحدة وحدها في حال اندلاع نزاع بينها وبين الصين حول تايوان، هو «شراكة مع بقيّة الديموقراطيات عبر العالم لتنمية وتطوير ترسانات التكنولوجيا المتطوّرة، الراهنة والمستقبلية، لاستعمالها دفاعاً عن الحرية».
الذكاء الاصطناعي هو أول الميادين الأساسية للتعاون بين الديموقراطيات بنظر هيرمان، حيث يمكن لبلاده توحيد جهودها مع اليابان وكوريا الجنوبية وكندا، إضافة إلى فرنسا وألمانيا، وهي دول حقّقت جميعها تقدّماً فعلياً في هذا المضمار. ميدان ثانٍ هو الأسلحة الفرط صوتية، حيث لا بدّ من العمل مع الهند وأستراليا وفرنسا وألمانيا واليابان. الميدان الثالث هو أسلحة الطاقة الموجَّهة – وفي المقدّمة منها أسلحة اللايزر -، وللهند واليابان قدرات متنامية فيه. الميدان الرابع هو تكنولوجيا الفضاء، حيث للولايات المتحدة وبقيّة الديموقراطيات قدرات صناعية تسمح بتفوّقها على أعدائها. بكلام آخر، لا تستطيع الولايات المتحدة وحدها خوض غمار المنافسة التكنولوجية مع الصين أساساً، والانتصار فيها، سوى من خلال نوع من الشراكة الاندماجية مع تكتّل يتجاوز الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي، ليضمّ دولاً أخرى كالهند واليابان وكوريا الجنوبية. سياسة التوتير مع الصين، وصولاً ربّما إلى حافّة الحرب، هي السبيل الأقصر لاستتباع تلك الدول، ومحاولة وقف التراجع الأميركي قدر المستطاع.
صحيفة الأخبار اللبنانية