تاريخ

اقترحه رئيس أمريكي ورفضه الكونغرس! قصة نظام الانتداب “المخادع” والفرق بينه وبين الاحتلال

بلقيس دارغوث

كان المستعمرون في معظم الحروب الأوروبية يسيطرون على الأراضي التي احتلتها جيوشهم بشكل واضح وصريح؛ فالأرض لمن يغلب، لكنّ الحرب العالمية الأولى كسرت هذا التقليد التاريخي وغيَّرت بعض قوانين اللعبة السياسية وكيفية توزيع الغنائم تحت مسميات جديدة.

 

وبينما حافظت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان على طموحاتها الإمبريالية الواضحة، تراجعت قوى أخرى عن هذه الأطماع بعض الشيء لتظهر الولايات المتحدة قوةً عالمية تريد رسم خارطة طريق العالم الجديد آنذاك.

ما هو الانتداب؟

وفي العام 1919، انعقد مؤتمر السلم في باريس بين الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، حيث وقَّع المشاركون خلاله على 5 معاهدات مع المنهزمين (بما فيها معاهدة فرساي مع ألمانيا).

كان الهدف تنظيم “عملية الاستعمار” بشكله الجديد، معتمداً لغةً مختلفة ومصطلحات جديدة تقدم الخطط التي كانت تحضِّرها هذه الدول لأراضي الدولة العثمانية والدول التي كانت تحت سيطرة ألمانيا في قالب “إصلاحي” وإن كان هدفها استغلال موارد وثروات تلك الدول.

ويعتبر الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون العقل المدبر لنظام الانتداب، إذ قدَّم وقتها برنامجاً متألفاً من 14 بنداً، قال فيه إن عصر الغزو والتوسَّع الإقليمي يجب أن ينتهي ومعه الدبلوماسية السرية، على أن يتم أخذ مصالح شعوب الإمبراطوريات المهزومة بعين الاعتبار.

كان ذلك الخطاب الشهير الافتتاحية التي ستمهد للرأسمالية الجديدة والنظام العالمي الجديد حينها.

في ذلك المؤتمر أيضاً، قدم العسكري ووزير الحرب الإنجليزي يون سمت مقترحاً سماه “عصبة الأمم- اقتراح عملي”، شارحاً تصوراته عن المرحلة القادمة من خلال منطق “الانتداب” والذي كان بحاجة لبلورة قانونية وسياسية.

هذه السياسة الجديدة أدت إلى ظهور ما يعرف بنظام الانتداب، والذي قسم منطقة الشرق الأوسط ممهداً الطريق لاحتلال فلسطين وتأسيس إسرائيل.

بموجب هذا النظام، تم “تكليف” المنتصرين في الحرب العالمية الأولى بمسؤولية إدارة الأراضي الألمانية والعثمانية السابقة على أنها انتداب من العصبة ليعطيها الشرعية الدولية فتفعل ما تشاء في تلك الدول.

كان العنوان العام لكل هذا هو “تطوير كل دولة نحو الاستقلال النهائي”، لكن هذه التفويضات توزعت بين الدول المنتصرة وفق اتفاقيات عامة وأخرى سرية، أشهرها طبعاً اتفاقية سايكس بيكو في العام 1916 ووثيقة بلفور في العام 1917.

تطلبت المادة 22 من ميثاق العصبة أن تختلف شروط الانتداب باختلاف طبيعة كل إقليم ومدى “نضجه”، وأنشأت 3 فئات من التفويضات:

الفئة أ: هي المناطق التي كانت تحت الحكم العثماني (غير التركية) والتي يتم الاعتراف بها مؤقتاً على أنها مستقلة حتى “تثبت قدرتها على الحكم الذاتي”، وتم تصنيف فلسطين وشرق الأردن والعراق (تحت الانتداب البريطاني) وسوريا ولبنان (تحت الانتداب الفرنسي) ضمن هذه الفئة.

الفئة بـ: هي تلك المناطق التي كانت أبعد عن التأهل للاستقلال والتي تولت السلطات الإلزامية المسؤولية الكاملة عن إدارة و”تعزيز الرفاهية المادية والمعنوية للسكان”، حسب ما جاء في المادة. وضمن هذه الفئة انتُدبت المستعمرات الإفريقية السابقة التي كانت تحكمها ألمانيا في تنزانيا (انتداب بريطاني) وأجزاء من توغولاند والكاميرون (انتداب فرنسي) ورواندا-أوروندي (انتداب بلجيكي).

الفئة جـ: وهي المناطق “الأقل تقدماً”، وكانت هي الأخرى تابعة لألمانيا. ​أدارت الدول المنتدبة هذه الأقاليم باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، ومنها: جنوب غرب إفريقيا (الآن ناميبيا، المخصصة لجنوب إفريقيا)، غينيا الجديدة (المخصصة لأستراليا)، ساموا الغربية (الآن ساموا، المعينة إلى نيوزيلندا)، والجزر الواقعة شمال خط الاستواء في غرب المحيط الهادئ (اليابان)، وناورو (أستراليا مع بريطانيا ونيوزيلندا).

الفرق بين الانتداب والاحتلال

 

 

 

 

صك انتداب الأردن وفلسطين من قبل البريطانيين/ Wikimedia

 

 

صك الانتداب الفلسطيني مثالاً

تم تصنيف فلسطين من فئة أ باعتبارها “الوديعة المقدسة في عنق الحضارة” إلى جانب تضمين “تصريح بلفور”. ومن الجدير ذكره أنه لم يرد أي استثناء في أي صك انتداب آخر مثل العراق أو سوريا كما ورد في الصك الفلسطيني.

إذ نص الصك الفلسطيني في المادة (5) منه على التزام سلطة الانتداب بالمحافظة على الوحدة الإقليمية لفلسطين، فلا يجوز لها أن تجزئ أو تؤجر أي قسم من فلسطين أو تضعه تحت سيطرة دولة أجنبية، ونص في المادة (6) على التزام سلطة الانتداب بتسهيل منح الجنسية الفلسطينية لليهود الذين يقيمون إقامة دائمة في فلسطين.

وبالمقابل، جاء في نص المادة (2) التزام بريطانيا، كدولة الانتداب، بتهيئة فلسطين سياسياً وإدارياً واقتصادياً لتأمين إنشاء الوطن القومي اليهودي الذي وعد به بلفور، ومع ذلك لم ينص صك الانتداب قط على أن تُعنى جهة أو مؤسسة بمصالح الشعب الفلسطيني، على غرار ما مُنح لليهود.

ولكن في الوقت نفسه، نصت المادة (4) على الاعتراف بوكالة يهودية لتقديم النصح والتعاون لسلطة الانتداب في المسائل التي تتعلق بإنشاء الوطن القومي وتحديد المنظمة الصهيونية كوكالة يهودية ملائمة “لإسداء المشورة إلى إدارة (حكومة) فلسطين والتعاون معها في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك من الأمور التي قد تؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين”.

وكلف الصك الدولة المنتدبة بتسهيل “هجرة اليهود في أحوال ملائمة”، وتشجيع استيطان اليهود بكثافة في الأراضي الأميرية، والأراضي الموات، غير المطلوبة للمقاصد العمومية، “بالتعاون مع الوكالة اليهودية”.

وبذلك انتهكت الدول الكبرى بصك الانتداب مبدأ تقرير المصير الذي أقرته هي نفسها، وخرقت أحكام المادة 22 من عهد العصبة، وما هي إلا سنوات قبل أن تتأسس دولة إسرائيل.

العقل المدبر خلف نظام الانتداب يواجه معارضة داخلية

من اللافت تاريخياً، أنه عند عودة الرئيس الأمريكي ويلسون بعد طرح نظام الانتداب وعصبة الأمم إلى واشنطن، واجه معارضة في مجلس الشيوخ بسبب القلق من أن يجبر الانضمام إلى عصبة الأمم الولايات المتحدة على التدخل في الشؤون الأوروبية.

ورفض ما يقرب من 10 نواب جمهوريين دعمه بشكل صريح، بينما أصر أعضاء آخرون على التعديلات التي من شأنها الحفاظ على سيادة أمريكا وسلطة الكونغرس لإعلان الحرب.

ثم توفي ويلسون في عام 1924 قبل حسم الأمر، فما كان من مجلس الشيوخ إلا أن رفض معاهدة فرساي، وبالتالي رفض الاعتراف بعصبة الأمم أو حتى الانضمام إليها!

وما هو الاحتلال؟

على صعيد مقابل، فإن الاحتلال في القانون الدولي، يمتلك تعريفاً مباشراً أكثر، إذ تعتبر الأرض “محتلة” عندما تتم السيطرة عليها من قبل جيش معاد.

تم تقنين تعريف الاحتلال والتزامات سلطة الاحتلال بادئ الأمر في نهاية القرن التاسع عشر.

والتعريف الشائع هو التعريف الذي تضمنته الأنظمة المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب الملحقة باتفاقية لاهاي المبرمة في 18 أغسطس/آب 1907.

واتفاقية لاهاي عبارة عن معاهدتين دوليتين نوقشتا لأول مرة خلال مؤتمرين منفصلين للسلام عُقدا في لاهاي بهولندا؛ الأول عام 1899 والثاني عام 1907.

وتعتبر هاتان الاتفاقيتان علاوة على اتفاقية جنيف من أولى النصوص الرسمية المنظمة لقوانين الحرب وجرائم الحرب في القانون الدولي.

انعقد مؤتمر لاهاي الأول بحضور 26 دولة بدعوة من القيصر الروسي نيقولا الثاني، بهدف وضع حد لتطوير السلاح وإيجاد سبل بديلة لضمان السلم العالمي.

ورغم أن المؤتمر فشل في تحقيق أهدافه الأساسية، إلا أنه حدد الشروط الواجبة عند القتال براً وبحراً مع اعتماد اتفاقيات لتسوية النزاعات الدولية وحظر استخدام بعض الأسلحة واسترداد الديون، إلى جانب تأسيس محكمة دولية لفض النزاعات إلى جانب توصيف جرائم الحرب.

وأضاف القانون الدولي المعاصر إلى حقوق وواجبات قوات الاحتلال، وحقوق سكان الأراضي المحتلة، وقواعد إدارة هذه الأراضي.

وحسب ما جاء على موقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر ما نصه حرفياً كالتالي:

(ينظم شرعية أي احتلال معين ميثاق الأمم المتحدة والقانون المعروف باسم قانون مسوغات الحرب Jus ad bellum. فحين ترقى حالة في الواقع إلى مستوى الاحتلال، يصبح قانون الاحتلال واجب التطبيق سواء اعتبر الاحتلال شرعياً أم لا.

ولا فرق في هذا المجال إن حظي الاحتلال بموافقة مجلس الأمن؛ وما هو هدفه أو هل سمي في الواقع “اجتياحاً” أو “تحريراً”، أو “إدارة” أو “احتلالا”.

ولما كان قانون الاحتلال مدفوعاً في الأساس باعتبارات إنسانية، فإن الحقائق على الأرض وحدها هي التي تحدد طريقة تطبيقه).

ومن المبادئ على سبيل المثال لا الحصر:

  • لا يكتسب المحتل سيادة على الأرض.
  • الاحتلال ليس إلا حالة مؤقتة، وتنحصر حقوق المحتل في حدود تلك الفترة.
  • يجب على سلطة الاحتلال احترام القوانين النافذة في الأرض المحتلة ما لم تشكل تهديداً لأمنها أو عائقاً لتطبيق القانون الدولي للاحتلال.
  • يجب على القوة المحتلة اتخاذ تدابير لاستعادة وضمان النظام والسلامة العامة بقدر الإمكان.
  • يجب على القوة المحتلة باستخدام جميع الوسائل المتاحة لها ضمان كفاية معايير النظافة الصحية والصحة العامة بالإضافة إلى الإمداد بالغذاء والرعاية الطبية للسكان الواقعين تحت الاحتلال.
  • لا يجوز إجبار السكان في المنطقة المحتلة على الخدمة بالقوات المسلحة لسلطة الاحتلال.
  • تحظر عمليات النقل الجماعية أو الفردية للسكان من الأرض المحتلة أو داخلها.

وتعد هذه الأطر القانونية هي المواد التي تلجأ إليها الدول الواقعة تحت الاحتلال لرفع شكاوى إلى مجلس الأمن ومحاسبة جرائم الحرب والإبادات الجماعية والعنصرية.

الفرق بين الانتداب والاحتلال

جنود الاحتلال الأميركي في العراق/ أرشيف Istock

الفرق بين الانتداب والاحتلال

ورغم اختلاف الصيغة القانونية لكلا المصطلحين، فإن الواقع يفرض نفسه بأن المسيطر على الأرض سواء كان “منتدباً” من عصبة الأمم أو “محتلاً” بحكم القوة العسكرية، ما هي إلا نتيجة حروب تلو الأخرى غيرت خريطة العالم في أقل من قرن واحد.

ولو عدنا قليلاً إلى الوراء، لوجدنا مثلاً أن الاستعمار الاستيطاني كان الشكل السائد من الاحتلال، وتم اختيار هذا المصطلح لوصف سيطرة المستعمر؛ وذلك لاستغلال المحتل السكان الأصليين وطردهم وتهجيرهم من أرضهم؛ بهدف تفريغ الأرض من سكانها لإفساح المجال أمام مواطني الدولة المستعمرة.

أدى هذا التفكير إلى سيادة العنصرية النابعة من إيمان المحتل بتفوقه العنصري والحضاري واحتقاره حضارة وثقافة السكان الأصليين، كما حصل في أمريكا وإفريقيا وفلسطين.

إذ طبقت المنظمات الصهيونية منطق “الاستعمار الاستيطاني عبر طرد وتهجير السكان الأصليين ومصادرة أراضيهم”. ثم شيدت مستعمرات لليهود من شتى أنحاء العالم.

هجرت إسرائيل من العام 1948 حتى 1966 أكثر من 700 ألف فلسطيني من قراهم ومدنهم، ووصل عدد اللاجئين الفلسطينيين نحو 5.6 مليون حسب الأرقام الرسمية للأمم المتحدة.

الأمر نفسه حصل في جنوب إفريقيا، بعد تهجير سكان البلد الإفريقي من قبل المستعمر البريطاني وقبله الهولندي.

استمرت الحركات المقاومة ضد سياسات الفصل العنصري المسماة “أبارتيد” والتي كانت تقضي بحكم الأقلية البيضاء.

هل ينتهي الاحتلال بلا حرب؟

وفق الأعراف الدولية، تسود قاعدة مفادها أن الاحتلال يبقى قائماً إلى أن يسود القانون؛ ويمكن أن ينتهي هذا الاحتلال إما من خلال فقدان المحتل لسيطرته العسكرية أو من خلال موافقة الحكومة وأصحاب القرار ما قبل الاحتلال على شرعية الحكومة المعادية أو من خلال توقيع اتفاق سلام، أو نقل السلطة إلى الحكومة السابقة للأرض المحتلة من خلال استفتاء واعتراف دولي بشرعيتها.

لذا، إذا لم يحصل التنازل الإقليمي بالقوة وانتفاضة الشعوب، فإن التسوية السلمية هي الخيار البديل، وإلا فسيستمر الاحتلال حتى يحين أوان المواجهة.

عربي بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى