الأسئلة التأسيسية | هل يقع الفرعونُ الجديدُ في ثالوث سقوطه؟ (يوسف زيدان)

 

يوسف زيدان

بغير حقٍّ، وبتأثير توراتىٍّ، تمَّ الترويجُ لصورةٍ مشوَّهة لحاكم مصر القديمة المسمى عند الناس «الفرعون» وجرى رسم صورة كاذبة عنه فى أذهان الجهال والعوام من «شعب الله المختار» على اعتبار أن كلمة فرعون تعنى الحاكم المستبد الذى يدَّعى الألوهية الكاذبة، ولا ينصاع للدين لأنه شخصٌ متجبِّرٌ بطبعه يدعوه غروره إلى معارضة الشرائع التى جاء بها الأنبياءُ، ومن هنا يصير مصيره الخزى المؤدى بمصر إلى الهلاك. وبهذا الشكل المشوَّه للفرعون، تم توارتياً التنفيسُ عن الغلِّ اليهودىِّ تجاه مصر وأهلها، ابتداءً من الحاكم الأعلى للبلاد، مروراً بالمرأة المصرية التى صورتها التوراةُ كاذبةً مخادعةً تنساق وراء شهواتها، فتسعى هى وصويحباتها للاستمتاع بالشاب العبرانى اللقيط، الذى يستعصم منهنَّ ولا يقبل السقوط فى المعاصى.. وانتهاءً بالخراب الذى يحلُّ على البلاد نتيجة لتجبُّر الفرعون، وهو ما أدى إلى نزول الربِّ التوراتى بنفسه لتدمير مصر وإلحاق الويل بها، يوم العبور (تعنى بالعبرية: الفصح) وهو اليوم الذى لايزال الناسُ يحتفلون به، فى مصر، مع أنه العيد اليهودى السنوى للاحتفال بخراب مصر.
ومع أن القرآن الكريم لم يستعمل كلمة «الفرعون» إلا فى سياق سيرة النبى موسى، ولم يتعرَّض قَطُّ للقصة التوراتية الخاصة بإهداء زوجة البطريرك (أبو الأنبياء) المسمى فى التوراة «إبرام» إلى الفرعون، أملاً فى الحصول منه على بعض المنافع نظير استمتاعه بها، وذلك وفق ما تزعمه التوراة فى سِفر التكوين. حين تنصُّ صراحةً على أن إبرام المسمى من بعدُ إبراهيم (تعنى بالعبرية: أبوالجمهور) قال لزوجته ساراى «سارة» عندما دخل مصر: قولى إنك أختى حتى يحصل لى خيرٌ بسببك.. وقدَّمها هدية للفرعون الذى سرعان ما اكتشف الأمر، فردَّ المرأة لزوجها ولم يسترد الجارية «هاجر» التى أعطاها له الفرعون فى المقابل، ولا استرد الخيرات التى أنعم بها عليه، واكتفى بطرده من البلاد! لم يتعرض القرآن الكريم لهذه الواقعة، ولم يذكر اسم الفرعون فى قصة النبى يوسف والمصريات الخليعات، وإنما سماه «عزيز مصر» وهى لفظة قد تقال لأى رجلٍ غنىٍّ أو حاكم محلىٍّ لناحيةٍ ما.. وأما المرة التى صرَّح فيها القرآن بلفظ «الفرعون» فكانت فى سياق قصة خروج (هروب) اليهود من مصر أيام النبى موسى، سارق ذهب المصريين.
وقد قرأ الجهالُ القصة القرآنية بعيون عبرانية (توراتية) فشاع عندهم الوهمُ القائل بأن الفرعون عموماً، هو الحاكم المتجبِّر المتألِّه الزاعم ظُلماً أنه الإله الأعلى.. وهى صورةٌ ظالمة استقرت فى أذهان المعاصرين، مدعومة بتراث شعبى تراكم فى الثقافة العامة ببطءٍ حتى صار راسخاً، مع أنه يجانب الحقيقة. إذ الأصل فى كلمة «فرعون» بحسب النطق المصرى القديم (بر، عو) التى تعنى حرفياً «البيت الكبير» هو أنه المعادل الموضوعى لمفهوم الملك أو الحاكم، مثلما يُقال لمثيله الفارسى «كسرى» من دون الذم بذلك أو المدح به، إذ لا تعنى الكلمة أكثر من دلالتها على ملك البلاد أو حاكمها الأعلى، بصرف النظر عن كونه شخصاً خسيساً أو مجيداً.
وفى الزمن المصرى القديم، كان يقال للحاكم فرعون (بر، عو) لأنه كان يسكن البيت الكبير، وهو تعبيرٌ مجازىٌّ عن مركز إدارة البلاد التى يطمرها الفيضان شهوراً طويلةً لا بد خلالها من عملٍ تنظيمى دقيق لإعاشة الناس، لا سيما أولئك الذين يعملون فى بناء الأهرامات والمعابد، فيتولى «البيت الكبير» إعاشة ذويهم وتوفير احتياجاتهم الحياتية.. ولم يكن (الفرعون) يتعامل مع شعبه تعاملاً مباشراً، وكان مثلَهم يخضع للآلهة المعبودة فى البلاد، ولذلك نرى على توابيت (نواويس) الفراعنة، صورة الملك منقوشة على غطاء التابوت تحت صورة الإلهة «ماعت» رمز العدالة، وعلى رأس الملك مكتوبٌ: عاش فى ماعت.
ولم تكن «ماعت» يوماً هى الإله الأعلى فى مصر القديمة، وإنما كان ذلك هو «آمون» الذى يعنى لفظه حرفياً: المختفى، المحتجب.. ولم يُعرف ادعاء الصلة بالآلهة، أو الزعم بأن الفرعون هو الإله، إلا فى حالات قليلة معروفة بلغ فيها (الخبلان) أو (اللسعان) ببعض الملوك من أمثال المهووس «إخناتون» وأبيه من قبله، أن زعموا أنهم صورة كاملة للإله. وفيما عدا ذلك، فقد رأينا ما لا حصر له من نصوص كتب فيها ملوك مصر (الفراعنة) أعمالهم، ولم يرد فيها أنهم آلهة أو أشباه آلهة، وإنما كانوا يعتزون بتسمية أنفسهم بأسماء تصلهم بالآلهة المعبودة مثل «سيتّى، رعمسيس» وهى ألقاب لا تدل على كونهم متألهين.
نخرج من ذلك بنتيجة واضحة، هى أن كلمة «بر، عو» التى تحرَّفت فصارت بالعربية فرعون، وبالأعجمية فارو، لا تعنى بالضرورة أىَّ شىء سلبىٍّ. وبعيداً عن التهويلات التوراتية والتفسيرات القرآنية المغلوطة، فإن الفرعون هو لقب حاكم مصر، بصرف النظر عن شخصه أو أفكاره أو الاسم الخاص الذى يختاره لنفسه، فما هو فى نهاية المطاف إلا: الحاكم، الرئيس، ساكن البيت الكبير.

■ ■ ■
ولأول مرة فى تاريخ مصر، اختار الناس لهم فرعوناً جديداً لم يأت إلى سُدة الحكم بالوراثة، أو بالسطوة العسكرية، أو بادعاء صلة خاصة ببعض الآلهة، أو بانقلاب.. فقد اختار المصريون فرعونهم المنتخب بأغلبيةٍ ضئيلةٍ، وقبلوا ما جاءت به صناديق الاقتراع التى صيرت د.محمد مرسى رئيساً لمصر، أو حاكماً لها، أو فرعوناً (بالمعنى الأصلى للكلمة).
وفرعون مصر الجديد، الذى لم يجلس بعدُ على الكرسى، أمامه فرصةٌ عظيمة لدخول التاريخ إذا ما سلك الطريق القويم فى إدارة البلاد، وحوله «ثالوث سقوط» أو بعبارة أخرى «ثلاثة مخاطر محدقة» يمكن أن تؤدى به، وبمصر، إلى موارد الهلاك (لا قدَّر الله) ولسوف أسوقها فيما يلى على جهة الإيجاز:
إن أول زاوية فى ثالوث الخطر المحدق بالفرعون (الرئيس) الجديد، فيما أرى، هى المذهبية الدينية.. فقد جاء رئيسنا الجديد ليجلس على الكرسى محمولاً على أجنحة الانتماء الدينى المذهبى لجماعة الإخوان المسلمين، وهى بصرف النظر عن اختلاف الآراء حولها، تظل فى نهاية الأمر (جماعة مذهبية)، ذات مرجعية دينية «إسلامية، سُنية» لعبت دوراً سياسياً متقلِّب الأوجه حتى انتهى بها السعى السياسى إلى سُدة الحكم. لكن هذه «المذهبية» التى أعانت د. محمد مرسى على الوصول إلى الرئاسة وسُكنى البيت الكبير (القصر الجمهورى) سرعان ما سوف تصير عبئاً عليه.. فبعيداً عن تلك الإعلانات السياسية التى جرت مؤخراً، مثل حلَّ المرشد العام لبيعة الرئيس المنتخب له، ثم مبايعته هو للرئيس! وبعيداً عن تلك العبارات التى أعلنها الرئيس وسُميت (التطمينات) وهى لفظة لا أحبها فى السياق السياسى، وبعيداً عن وعود الفرعون (الرئيس الجديد) للمصريين فى خطبة توليه الأمر.. فهناك شبحُ مذهبية دينية قد تودى بالأمر كله، وقد ظهرت تجلياتها يوم إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية، وتمثلت فى «تصريحات» تفوَّه بها منتمون إلى الإخوان المسلمين، صاروا يتكلمون على اعتبار أن «الأمر» صار إليهم، ولا أحب هنا أن أشير إلى أقوالهم التى أذيعت (وبعضها بالغ القبح) وإنما المراد هو التنبيه إلى أن هؤلاء سوف تُسكرهم نشوةُ الفوز فيسعون للاستيلاء على مظاهر السلطة كلها فى مصر: الوزارة، البرلمان، الشورى، المحليات، الأنشطة الاقتصادية، العلاقات الخارجية.. إلخ، وفى ذلك خطرٌ كبير يحدق بالرئيس والمرؤوسين، ويأخذ بناصية الناس نحو مصير لا أحب لمصر أن تصير إليه.
ومن مظاهر خطر «المذهبية» البطش بالمخالفين، وهو أمرٌ قد لا يقوم به الفرعون الجديد بنفسه، لكنه قد يسمح به أو يسكت عنه أو يتغافل، فتكون النتيجة كارثية. والمثال على ذلك، ما صرَّح به أحد المهلِّلين من حاشية الفرعون الجديد، يوم إعلان النتيجة، من قوله البذىء بأنه يجب «قص ريش الأفراخ التى أعطت أصواتها للمنافس» ومثل ذلك كثيرٌ، ولسوف يكثر مستقبلاً بسبب ميل المذهبيين إلى الحماقة والاستئثار بالحق الذى يرونه ولا يرون غيره، فلا يعتدون بغيرهم.. فعلى الفرعون الجديد، أن يحذر من ذلك الأمر المريع، وأن يحظره.

■ ■ ■
والزاوية الثانية فى ثالوث السقوط الذى يهدِّد الرئيس والمرؤوسين، معاً، هى الوقوع فى فخِّ الاستهانة.. ولا يجب علينا أن نستهين بهذه «الاستهانة» لأن خطرها عظيم، ومدمِّر، وهى تتسلل إلى النفوس رويداً فلا تكاد فريستها تشعر بها إلا بعد فوات الأوان. فصاحب السطوة والسلطان يغويه دوماً أنه «الأعلى»، وبالتالى فالآخرون أقل منه، ثم يتسلَّط على نفسه الاعتقاد بأنه دوماً فى الجانب الأصح، وبالتالى فإن معارضيه مخطئون لا محالة.. وقد رأينا كيف استهان الرئيس المخلوع، ثم انقلب الأمر إلى احتقار عام اكتست به مظاهر الحياة فى مصر، حسبما ذكرت فى مقالتى النى نُشرت هنا بعد أيام من بدء اندلاع ثورة يناير، وكان عنوانها: الثورة على الاحتقار.
إذا استهان الرئيس الجديد بمخالفيه والمختلفين معه، أو بأنصاره ومؤيديه، فسوف يكون ذلك مقدمةً لسقوطه وسقوط البلاد معه فى هاوية بعيدة القرار، فنحن اليوم على شفا جرفٍ هار، ولا بد من استقامة فى الرأى والنظر بحيث يُعطى كل ذى حقٍّ حقه، بلا تزيدٍ أو إنقاص لقدر أحد.. فلا يظننَّ الرئيس الجديد أن الإخوانى أفضل من السلفى الأفضل من الليبرالى، ولا يتوهمنَّ أن مواطنه غير المتدين أقل من مثيله الذى يُطلق لحيته (وسوف يطلق كثيرون لحاهم الأيام القادمة) أو أن المسيحى المصرى له وضع أدنى من المسلم، ومن ثم تتسلل الاستهانة بهؤلاء (الأباعد) وبعد حين تصبح الاستهانة استحفافاً لا يلبث أن ينقلب احتقاراً عاماً يسود بنية المجتمع.
من هنا، أرجو من الله أن يحفظ عقل الرئيس وقلبه من الاستعلاء، والاستهانة بالآخرين، ونسيان أن الاحتقار الناتج عن استهانة سابقه، هو الذى أسقط السابق وجاء باللاحق.. ولو كان «مبارك» قد احترم الآخرين، لكان قد احترم نفسه وحفظها من الانهيار المروّع الذى أزرى به هو وكل المحيطين به، فصار عبرةً للعالمين.

■ ■ ■
والزاوية الثالثة الأخيرة فى ثالوث الخطر المحدق بفرعون مصر الجديد، هى «المركزية» التى كانت يوماً، هى الأساس الذى يعتمد عليه حكم مصر.. لكن ذلك جرى فى أزمنة قديمة، ما كانت الحياة فيها مطابقة لما يعيشه الناسُ اليوم. ففى مصر القديمة، والوسيطة، كانت السلطات كلها تتركَّز فى المركز (العاصمة، البيت الكبير) وهو أمر ربما كان مناسباً لهذه الأزمنة، لكنه لن يستقيم اليوم فى غمرة التدفق الإعلامى ووسائل الربط الإلكترونى والطفرة فى مجال الاتصالات.
إن الواقع المعاصر يتيح الحكم (والتحكم) عن بُعد، بالاعتماد على الوسائل المعاصرة، فيُعفى مؤسسة الرئاسة من تلك الكثافة المقيتة للسلطة فى مكانٍ واحد، أو يدٍ واحدة.. ولا يجب على الفرعون الجديد أن ينسى أن «الثورة» هى التى جاءت به، ولولاها ما كان لجماعة الإخوان أو لأصوات الناخبين أو مساندة المعاونين، أى أثر. وما دام الفرعون قد جاء نتاجاً لثورة، فعليه أن يتواءم مع ذلك بالسير قدماً بهذه الثورة حتى تبلغ مداها، ولن يكون ذلك إلا بقدرته على التفكير واتخاذ القرار بشكل «ثورى» لا يقع فى أحابيل الحيل والأنماط السلطوية السكونية.
على الرئيس الجديد لمصر، أن يعرف حقاً وصدقاً أننا نعيش عالماً جديداً لا يقاس على سابقه، ومن هنا عليه أن يؤسس لعصرٍ جديد.. وعقلٍ جديدٍ.. ونهجٍ جديد، لعالم جديد.

صحيفة المصري اليوم

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى