الأسواق في المدينة الإسلاميّة القديمة
يُقال إنّ المال قوام الأعمال، كما يمكن أن يُقال إنّ الأسواق بمختلف أنواعها قوام الاقتصاد والتجارة، والأسواق ظاهرة عامّة تُوجَد في القرى والمُدن، وهي ممتدّة في التاريخ البعيد وفي الجغرافيا الواسعة. وقد اهتمّ الرّحّالون العرب والمسلمون بالأسواق في مصنّفاتهم فوصفوها وذكروا أنواعها وسلعها وأسعار معروضاتها وربطوها بالمُدن التي تُعرض فيها.
لذلك احتوت كُتب الرحّالين والجغرافيّين العرب المسلمين مادّة غزيرة موصولة بالأسواق في المدينة الإسلامية العتيقة تدلّ على أهميّة هذا الجانب في حياة سكّان المدينة من حيث توفير حاجاتهم اليوميّة والكسب والربح الذي يعود على متعاطي النشاط التجاري في هذا الحيّز.
وكان ممّا يُراعى عند اختيار موضع المدينة موقعها التّجاري الذي من شأنه أن يساعد على تنشيط الحياة الاقتصاديّة في المدينة، فقد روعي هذا العامل عند اختيار موقع بغداد إذ كانت تتمتّع بموقع مُلائِم، فالبضائع تصلها برّاً وبحراً، مشرقاً ومغرباً، يقول المقدسي: “وأنتَ على الصراة تجيئك الميرة في السّفن الفراتيّة والقوافل من مصر والشّام في البادية، وتجيئك آلات من الصّين في البحر ومن الرّوم والموصل في دجلة”.
وكان موقع القيروان – هو الآخر – مُساعداً على إنعاش الحياة الاقتصاديّة وازدهارها. فقد كانت هذه المدينة – بحسب تعبير المقدسي – “فرضة المغربيّين ومتجر البحريّين”، وقد ساعد على ازدهار الميدان التّجاري فيها وفرة الإنتاج وتنوّعه. وقد تختصّ بعض الخطط أو المحلاّت بالميدان التّجاري مثل محلّة الكرخ التي أضحت في عهد ابن جبير مدينة مسوّرة؛ وعلى الرّغم من أهميّة التّجارة في هذه الخطّة، فإنّنا لا نجد تفصيلات عن أسواقها وتنظيمها وأنواع السّلع المعروضة فيها، وقد اكتفى ابن حوقل أثناء وصفه مدينة بغداد بالقول “إنّها أعمر بقعة في هذه المدينة، وإنّ بها مساكن التجّار”.
عندما نعود إلى هذه النّصوص المُعتمَدة في دراستنا للمدينة الإسلاميّة لا نجد معلومات كثيرة حول المؤسّسات الاقتصاديّة (الأسواق)، وكلّ ما يمكن أن نظفر به لا يعدو أن يكون جملة من الملاحظات العامّة، فلا نجد مثلاً حديثاً عن كيفيّة توزيع الأسواق في أنحاء المدينة وفي أرباضها ولا عن نظام مراقبتها. وممّا لا ريب فيه أنّ الأسواق في المدينة الإسلاميّة كانت موزّعة بحسب أنواع البضاعة المعروضة فيها، فهناك سلع تقتضي أن تكون في أطراف المدينة وفي أرباضها إمّا للمحافظة على نظافة المدينة وإمّا تيسيراً لحركة التنقّل في شوارعها مثل أسواق الحبوب وأسواق الموادّ ثقيلة الوزن وكبيرة الحجم التي يؤثّر نقلها إلى وسط المدينة في الشّوارع وفي حركة المرور، وكذلك الأسواق التي تحدث الدّخان والرّوائح الكريهة والصّخب. وهناك أسواق لا يضير أن توجد في وسط المدينة، بل يُفضّل أن توجد في الوسط لحاجة النّاس اليوميّة إلى موادّها.
وفي المصادر المعتمَدة، يميّز الرحّالون بين أصناف من الأسواق، فهناك الأسواق اليوميّة، ولأصحابها أماكن قارّة في الدّكاكين والحوانيت مثل حوانيت الخرزيين والعطّارين والبقّالين التي ذكرها ابن جبير أثناء وصفه لجامع دمشق، ويذكر كذلك أصحاب الصّناعات مثل الصفّارين والكمّادين والنّاطفيّين، وكلّ أصحاب هذه الحِرف متمركزون قرب جامع بني أميّة. ويذكر ابن بطّوطة حوانيت الجواهريّين والكتبيّين وصنّاع أواني الزّجاج وحوانيت الشمّاعين وسماط بيع الفواكه وسوق الورّاقين لبيع الكاغد والأقلام والمداد، وهذه الأنشطة التّجاريّة كلّها قد عاينها ابن بطّوطة في مدينة دمشق.
ومثلما وُجِدت الأسواق اليوميّة وُجِدت كذلك الأسواق الأسبوعيّة مثل سوق الثّلاثاء في بغداد، وهي من أعظم أسواق المدينة، يقول عنها ابن بطّوطة إنّ ” كلّ صناعة فيها على حدة…“، ممّا يدلّ على أنّ السّلع في السّوق الواحدة كانت تحتلّ موضعاً خاصّاً بها، فهي إذن مرتّبة بحسب نظام معيّن. وينوّه ابن جبير في رحلته بأسواق مدينة حلب وبنظامها وتوزيع السّلع فيها فيقول إنّ أسواقها واسعة كبيرة “متّصلة الانتظام مستطيلة، تخرج من سماط صنعة إلى سماط صنعة أخرى إلى أن تفرغ من جميع الصّناعات المدنيّة، وكلّها مسقّف بالخشب، فسكّانها في ظلال وارفة..”.
وقد أكّد الرحّالون أثناء حديثهم عن بغداد أنّ أسواق هذه المدينة موجودة أغلبها في الجهة الشّرقيّة منها، وهي على جانب كبير من التّنظيم. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الأسواق كانت تحمل أسماء خاصّة بكلّ واحدة منها. إلاّ أنّنا نلاحظ أنّ الرحّالين قد أهملوا ذكر أسمائها، ولم يذكروا إلاّ بعضها مثل سوق الثّلاثاء في بغداد وسوق الورّاقين في دمشق… وكانت الأسواق تُسمّى عادةً بحسب نوع البضاعة التي تعرض فيها (سوق الورّاقين) أو الصناعة التي تُتعاطى فيها (سوق النحّاسين، سوق الحدّادين)، ونظراً إلى تشابه هذه الأنشطة في البلاد الإسلاميّة فإنّ أسماء الأسواق تتكرّر في أغلب مُدنها تقريباً.
ومثلما اختلفت الأسواق من حيث أسماؤها والسّلع المعروضة فيها فإنّها تباينت كذلك من حيث العراء والتغطية، فالرّحّالون يشيرون أثناء وصفهم لمدينة دمشق إلى ضربَين من الأسواق: أسواق مغطّاة وأخرى عارية، ومن الأسواق التي تندرج ضمن الأسواق المغطّاة ما يُسمّى بالقيساريّات، وهي عبارة عن حوانيت على جانبيْ شبكة من الطّرقات الضيّقة المتّصلة المسقوفة (أنظر محمّد عبد الستّار عثمان: المدينة الإسلاميّة). وقد ذكر ابن جبير أثناء وصفه الكثير من مُدن الشّام هذا النّوعَ من الأسواق وأَبرَز إعجابه به وفضّله على غيره من أسواق المُدن.
ويذكر قيساريّات مدينة حلب فيشبّهها بحديقة البستان لجمالها ونظافتها، وهي تُطيف بجامع المدينة، يتشوّق الإنسان إلى مشاهدتها ويفضّلها على المرائي الرّياضيّة (يعني الرّياض)، ويذكر أنّ “أكثر حوانيتها خزائن من الخشب البديع الصّنعة، قد اتّصل السّماط خزانة واحدة، وتخلّلتها شُرف خشبيّة بديعة النقش وتفتّحت كلّها حوانيت، فجاء منظرها أجمل منظر. وكلّ سماط منها يتّصل بباب من أبواب الجامع المكرّم” (ابن جبير).
أمّا الأسعار فقلّما نجد الإشارة إليها، وهي إشارات ترد عامّة عادة، فقد ذكر المقدسي رخص الأسعار في كلّ من دمشق والقيروان ومُدن الأندلس، وهو لئن اقتصر على ذكر رخصها في دمشق، فإنّه ذكر أثمان بعض السّلع في القيروان، ويعود رخص الأسعار إلى وفرة الإنتاج وكثرة البضاعة المعروضة في الأسواق، ممّا يؤكّد ازدهار الحياة الفلاحيّة في القرن الرّابع الهجري.
وقد ذكر الرّحّالون العلاقة القائمة بين المدينة والقرى المحيطة بها. فالباعة كانوا يأتون المُدن من القرى المجاورة وأحياناً من الأماكن النّائية لعرض سلعهم في أسواقها، لذلك جمعت مدينة القيروان في أسواقها “أضداد الفواكه والسّهل والجبل والبحر والنّعم” (المقدسي). وكان لوفرة الماء وتعدّد منابعه في مدينة دمشق (وفي غيرها من المُدن الإسلاميّة) أثره الإيجابي في حياة هذه المدينة، لذلك أحدقت بها الأشجار وكثرت الثّمار فرخصت الأسعار بحسب تعبير المقدسي (أنظر أحسن التّقاسيم).
وممّا يدلّنا على التّفاعل القائم بين المدن وضواحيها والقرى المجاورة لها العلاقة القائمة بين بغداد الشّرقيّة وبغداد الغربيّة، فابن جبير يذكر أنّ الثانية كانت تزوّد الأولى بالفواكه لأنّ البساتين والحدائق كانت تقع في بغداد الغربيّة. ويذكر الرّحّالة الأندلسي أنّ لمدينة دُنيصر سوقاً تُسمّى “البازار” يجتمع فيها أهل الجهات المجاورة، فتتجلّى لنا بذلك العلاقة القائمة بين المدينة وضواحيها والقرى المحيطة بها، وهي علاقة قائمة على التّبادل من الجانبَين، فالرّيفيّون والقرويّون كانوا يفدون على المدن لقضاء ما هُم في حاجة إليه في حياتهم اليوميّة وفي فلاحة أرضهم.
يذكر الباحث الإسباني “بدرو شالمتيا” في مقاله “الأسواق” (المُدن الإسلاميّة، نشر سرجنت) أنّ “الريفيّين يشترون المحاريث والمجاريف وأطقم الخيل والدّلاء والأدوات الزّراعيّة”، وفي مقابل ذلك كان الفلاّحون يزوّدون المدينة بالمنتوجات الزراعيّة عن طريق عرضهم المحاصيل الفلاحيّة في أمكنة مخصّصة تقع عادةً خارج المدينة يسمّيها الباحث السّابق الذّكر بالأسواق الرّيفيّة، مثل سوق الأحد في دمشق، والثلاثاء في بغداد، والأربعاء في الموصل، والخميس في فاس ومراكش، ويذكر الباحث نفسه أنّ هذه الأسواق تتّسم بالقذارة من جرّاء الماشية المعروضة فيها.
ومن الطّريف أنّ الرّحّالين والجغرافيّين ينسبون المحاصيل الزّراعيّة إلى المُدن على الرّغم من أنّها من منتوجات القرى القريبة منها. ويذكر صاحب “صورة الأرض” (ابن حوقل) أنّ مدينة قابس تنتج الزّيتون والزّيت والغلّات، وأنّ هذه المدينة تصدّر الفواكه إلى مدينة صفاقس التي تنتج الزّيتون والزّيت ويصطاد أهلها السّمك بطُرق يسيرة، وهي تصدّر الزّيت إلى مصر. أمّا مدينة طرابلس ففيها “الفواكة الطيّبة اللّذيذة الجيّدة القليلة الشّبه بالمغرب وغيره كالخوخ الفرسك والكثمرى اللّذين لا شبه لهما بمكان”.
وعلى هذا الشّكل تتفاعل المدينة مع قراها من ناحية ومع المُدن القريبة أو البعيدة من ناحية ثانية: تصدِّر ما تحتاج إليه المُدن الأخرى وتورّد ما هي في حاجة إليه؛ ويذكر المقدسي انتشار الأسماك في كلّ المُدن السّاحليّة والموانئ، وكانت مدينة الشّحر تُصدِّر السمك إلى عُمان وعدن والبصرة وأطراف اليمن. وتكثر في إقليم الرّحاب الثروة الحيوانيّة التي تعيش في مراعيه، ويذكر الرحّالة نفسه أثناء وصفه إقليم الجبال أنّه اشتهر بالثروة الحيوانيّة وتربية النّحل، فكثر اللّبن والعسل. وفي الحقيقة لا يخلو ذكرٌ لمدينة من الحديث عن الثروة الحيوانيّة من الأغنام والجِمال والبِغال التي تُنسب إليها وإن كانت تنتمي إلى قرى المدينة وباديتها، لكنّها تُباع وتُشترى في أسواقها التي يُقيمها القرويّون وسكّان البادية خارج أسوارها عادة.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)