‘الأصوات المرتعشة’ لريفاس تكشف الجانب الآخر من الموت والديكتاتورية

رواية للكاتب الإسباني تتناول تاريخ حياة عائلة في ظل الحُكم الديكتاتوري لفرانكو بطريقة يبدو أن كل شيء فيها صحيح وأن كل شيء فيها ايضا خيال.
هناك شيء فريد في رواية “الأصوات المرتعشة” للكاتب الإسباني مانويل ريفاس، فهي من الصفحة الأولى مكتوبة بطريقة السيرة الذاتية، يبدو أن كل شيء صحيح ويبدو أن كل شيء خيال. إنه تأثير ما تحمله الذاكرة من تاريخ حياة عائلة في ظل الحُكم الديكتاتوري لفرانكو.. إنها مذكرات تسعى إلى ترتيب وتقدير دقيق لأولئك الذين تم نسيانهم، والذين تعرضوا للإذلال والإهانة، والذين تم التستر عليهم من قبل قوة قمعية غير ذكية.
إن معرفة القارئ بأن الرواية حياة كان مسرحُها الجانب الآخر من الموت والديكتاتورية، تجعلها ليست كذلك؛ لكن الحقيقة أن النص يحمل تفاصيل خافتة تَشع بالود، كما لو أن البشر يتسترون في ظلالِ حياةٍ مسالمة قلقة، عن تلك الحياة المتوحشة التي تحدث في الخارج.
تبدأ الرواية التي ترجمها جعفر العلوني وتذكرنا بـ “من كنا، وبطريقة مستترة، من أصبحنا ولماذا”، من جغرافيا حقيقية تكتشف نظرة الطفولة، بمزيج من الخوف والدهشة، وما هو غير عادي في وجود الناس. وبأسلوب حميمي تنجح في مزج القارئ مع الشخصيات والأحداث والمناظر الطبيعية، بغض النظر عن مدى اختلاف واقع كل منها. حيث أن هناك دائما رابط. حديث عن براءة الطفولة في مواجهة الخوف، كأول تجربة عظيمة في الحياة، إنها رواية تكسر أي جدار يمكن بناؤه بين الثقافات المختلفة. وذلك لأننا جميعًا كنا خائفين في مرحلة ما، عندما كنا أطفالًا.
الرواية الصادر عن دار نينوي مكتوبة بضمير المتكلم، قد يبدو أن الراوي الصحافي والشاعر هو بطل الرواية؛ ولكن الأمر ليس كذلك. “ماريا” الأخت الصغرى له هي المحور المركزي للرواية كونها تشكل انعكاسا لذاكرته. إن التواطؤ الذي يولد في مرحلة الطفولة، من خلال الألعاب والصمت، يتعزز في سن الالتزامات الاجتماعية؛ القتال دون خوف من العواقب الشخصية..
يستعيدُ الراوي، وهو صحافي يكتب الشعر أو ما يظن أنه شعرا، يرغب في أن يكون كاتبا، ذاكرة طفولته وشبابه. وعَبر الوعي البدائيّ بالأشياء، يستعيدُ لحظات الخوف الأولى، وعلاقَته مع الأحجار والحقول والطيور، ومع أهلهِ؛ مع أختهِ ماريا، ووالدتهِ، بائعة الحليب، ووالده، عامل البناء الذي يخشى المرتفعات، وجده العامل في مكتب البريد والذي كان يكتب رسائل المهاجرين، وخاله صاحب صالون الحلاقة والقاص الماهر الذي يطور شخصياته وحبكاته مع كل زبون له. والإذاعي الكوميدي الشهير أوكسيستال الذي القي القبض عليه ضمن من عدّوا “شخصيات خطرة على المجتمع”.
وخلال ذلك يستعرض بسحر وروح الدعابة حيوات هؤلاء الأقارب الذين كانوا جزءا من تلك الجنة المضطربة. أم تتحدث إلى نفسها وتأخذ العزاء في الكتب، أعمام حالمون، معلمون مختلفون، أجداد لديهم ما يؤهلهم لأبطال غير مرئيين لأنه في خضم الحرب الأهلية والديكتاتورية اللاحقة، أين يمكن أن يكون الأبطال إن لم يتم إخفاؤهم مع الظلال؟ كلهم أشخاص فريدون، مع أهمية الحياة اليومية وتفردهم، يساهمون بأصواتهم وهم جزء من عالم ريفاس، لكنهم أيضا يشكلون جزءا من التاريخ الذي يحدث. ربما تكون الحيوات قصيرة وغير مهمة، لكن مع التواضع، مع الخداع، مع حبة الرمل، قد تخرج منها صرخة خالصة من أجل الحرية.
كل هذا العالم الثري بالتفاصيل الحميمة يَلتَقِطُه الراوي جنبا الى جنب عالم الحرب والدكتاتورية وآثارهما، من خلال تناقضاتٍ تبدو غير ذاتِ بال. يتحدّث عن أيامهِ الأولى في المدرسة، وعبث مقاومة العالم خارج المنزل، واستعاضتهِ مع أختهِ عن البكاء بالاندفاع و”أخذ المقاعد” في رَكْب الحياة. في الصف، يسمع أحاديث الأستاذ عن الإمبراطورية الإسبانية المجيدة، ويسمعُ في الآن نفسهِ الصرخة الفرحة لزميلهِ، تعبيراً عن حلم الأطفال بأن يصيروا مهاجرين عندما يكبرون، كما يستعيدُ فترة كان فيها صحفيا متدربا في صحيفة “الإيديال”، وما كانت تعانيه الصحافة والصحفيين في زمن حكم فرانكو من اضطرابات سياسية ورقابية.
يرسم مانويل، في الرواية زمن فرانكو، من غير أن يخبرنا حكايات القمع والإجرام. إنّه يخبرنا، فحسب، بلسان الأطفال، عن رغبة الجميع مغادرةَ وطنهم. رغبةٌ تشي بفقدان الأمل بالبقاء، على الرغم من جمال المقاطعة التي تشكّل مسرحاً للحياة الهادئة ولتفاصيل الرواية، وهي إقليم غاليسيا في إسبانيا. “دائماً ما يتحدّث الناس، حين الهجرة، عن الحنين والشوق الذي يشعره المرء نحو أرضه عندما يهاجر إلى أرض أخرى. وبالفعل، مَن يهاجر كان يشعر بالحزن والأسى، لكنْ بالأمل كذلك. أمّا الحزن، الملازم دائماً، فكان لذلك الذي لم يستطع المغادرة”.
يقول ريفاس “الشيء الوحيد الذي يمكن أن أفكر فيه هو الكتابة عن ذكرياتي من أجل إحياء موتي. أفترض أن هناك شيئا من ذلك في هذه الرواية، محاولة التأكد أنهم لا يموتون أبدا. أنهم جميعا موجودون، لكن بما أنني أخرجهم جميعا، فإن هذا الراوي يأتي للتفكير لإحياء قصصهم، وفي هذا إحياء لكل العالم الذي عاشوه.. إنها محاولة لتكريم الأرواح التي لم يسمحوا لها بالعيش.
ويرى إن كرامة بناء الذات هي قيمة يصعب رؤيتها في هذا الوقت، وتجهيز سريرك للموت، كما تفعل الأم، أمر لا يمكن تصوره، لكن هذه الكرامة شيء رائع، تحمل ضمنيا العار الاجتماعي لعدم وجود مساحة للبناء والتواصل. وهذا هو المكان الذي يمكننا فيه أن ندرك ما أوصلنا إليه اليوم، لإعطاء القوة لتلك الحماقة الخفية، لعدم معرفة كيفية التعرف على مكان الكلمات. إن هذا الفضاء الحي ليس فكرة شعرية، هذه الرواية على وجه التحديد عبارة عن مجموعة من الصور التي تظهره. هناك عالمان: عالم الشعب وعالم السلطة المحدودة غير المتبلورة التي لا تظهر وجهها، والتي ليس لها محتوى، وهدفها الوحيد هو قمع الأفواه.
ويضيف ريفاس “يتم هنا اختيار الصور من الطفل الذي يأخذ الكلمات كمنفذ وينتهي به الأمر في صحيفة مع وهم وجود وسيلة اتصال. يجب على الناس البقاء على قيد الحياة وهم يفعلون ذلك بالعمل والكلمات. الكلمات هي التي تسمح بالكرامة، فهي تخلق نسيجا وقائيا، عالما قائما على القصص حتى لا ننسى الإنسان. أن القصص هي طريقة للتدريس، والحميمية، والترابط، والتغلب على الأزمات، والضحك، في أعماقها، والحرية. الحياة بالنسبة لشخصيات الرواية، والتي تصادف أنها حقيقية، هي نوع من الفوضى لا يمكنك مواجهته. السلطة لا تظهر وجهها أبدا، فهي موجودة حتى عندما تصل الديمقراطية، كما لو أنها لن تختفي أبدا. السلطة المقيدة الحقيقية هي نوع من الفساد السخيف، والذي بالطبع ليس له كلمات.
ميدل إيست أونلاين