الأمن رؤية لا هراوة (سمير عطا الله)
سمير عطاالله
حُرمتُ أن يكون توقيعي الى جانب توقيعه في كتابين، احدهما عن الاستقلال، هو، المعلم، كان يؤمن بلبنان، ويصدق اللبنانيين، ويسامح فيهم غريزة السقوط. تفترض هذه الشجاعة والعلو، رجلا مثل غسان تويني. أنا، ولدت أحب لبنان، ولم يبلغ بي كبر القلب ان اتغاضى عن الخيانة. غسان تويني كان فيه شيء من المسيح، ربما لكثرة ما رأى حوله من مسحاء كذابين. اختلفنا حول كتابه عن الاستقلال. هو يعتبره عملا وطنيا انجزه اللبنانيون. وانا اعتبره حدثا تاريخيا، في مرحلة تاريخية، تولاه عدد من افاضل اللبنانيين، وطلبه بعض محبي الحرية ورفضه نصف اللبنانيين. فقدنا في حرب الاستقلال مجموعة ضئيلة من الشهداء وكانت الخسائر المادية تزال آثارها بصهريج للاطفاء. سقط عشرة قتلى في يوم واحد في طرابلس في حرب يعرف جميع الناس انها ليست من اجل احد سوى تدمير لبنان، بدءا بالمدينة المستعدة ابدا للاستقلال.
مجرد استمرار لما سماه غسان تويني "حرب من اجل الآخرين". لكن ادواتها، دائما، مجموعات هائلة من اللبنانيين، المتطوعين او المأجورين، المتأهبين دوما لأن يبيعوا لبنان – ليس جزءا منه، بل كله. ليس ارضه، بل سماءه. ليس بلاط الارصفة، بل ارواح الرجال وأفئدة النساء. الشيخ الطرابلسي سقط برصاص قناص. يجب تكرار الموت لكي تحيا الفتنة.
هذا النوع من الآثام الوطنية الكبرى لا يرتكبه القناصون الصغار، بل يعده كبار المجرمين وتمده الجماعات والصحف والتلفزيونات، ويدافع عنه المكلفون وصغار النفوس. لكل دوره. ولكن في نهاية الأمر "لكل نفس ما سعت". ما من ساقط الا سقط. وبما ان الجماعات الكبرى هي التي تتشارك، بوعيها الكامل او جهلها القبيح، في تزيين الموت الوطني، فلا يمكن الا ان يؤدي توسيع القبور اليها ايضا.
تسمى بقعة الارض وطنا عندما يستحقها المقيمون عليها. امير الشعراء العرب، احمد شوقي، كان تركياً كردياً شركسياً، في اصول امه وابيه. وجعله الاستحقاق امير جميع الشعراء العرب. ومحمد علي باني مصر الحديثة جاء من البانيا. سجل النفوس لا يعني شيئا. نابليون جاء الى باريس من كورسيكا، ليصنع الامبراطورية، وكان كبار ضباطه من الالمان. دعك من مكان الولادة، فهو لا يشكل شهادة لأحد. هو مجرد افادة مثل السجل العقاري. ومثله يباع، كلما تحسنت ظروف العرض والطلب.
خضنا على هذه الارض جميع حروب العالم وحروب جميع العالم. رفعنا جميع الاعلام. ولم نعط لبنان سوى السير في جنازات اهله. واحيانا كان يتقدم الجنازة آمر الموت. قناص طرابلس مجرم صغير من زعران الزواريب. لا يمكن ان يكون والده قناصا لأن اباه عاش حياته لا يستطيع النوم من فظاعة كوابيسه. يطلب من القناص ان يشاهد دماء ضحيته، بعكس صاحب الامر، الذي يشاهدها على التلفزيون، قبل ان ينصرف الى مسلسله المفضل.
كان كل شيء زائفا في الاستقلاليات والحريات والثورات، التي تزامنت في القرن الماضي، والتي تتهاوى متزامنة الآن. لم يتوقف طنين الوحدة لكننا لم نعرفها. ولم يستكن هتاف الحرية لكن احدا لم يرها. ولم يزدهر شيء في بلدان الوحدة والحرية سوى السجون والقمع والقهر والذل المكنون.
لماذا لم تترمد بلدان الكتلة السوفياتية بعد انهيار الشيوعية؟ كيف قامت ومضت الى نظام آخر من دون ضرر. كيف دخلت المانيا الشرقية في حضن المانيا الغربية كأنها تركتها بالأمس؟ السبب انها كانت قائمة على مؤسسات. مات ليونيد بريجنيف فماتت معه هواية جمع السيارات السريعة الخيالية الثمن في مقر الاشتراكية "العلمية". مات، فدفن، وباعت ابنته المهووسة بالالماس، الاساور والعقود. لم يسمح له الحزب ان يتملك الدولة. تملك ولايته. جمع عدي صدام حسين 200 سيارة سريعة لكنه اراد ان يضم اليها ايضا بلاد ما بين النهرين ومعها النهرين ايضا. ولاحقا ما خلفهما.
ولدت الشيوعية السوفياتية مع لينين وخطفها ستالين واعاد لها خروشوف بشريتها وانتقلت الى الثلاثي بريجنيف – كوسيغين – بودغورني ثم الى صاحب الحاجبين الغليظين وحده، ليونيد ايليتش.
ولكن في كل هذه المراحل، كانت المؤسسات تستمر وتتطور. وزير الدفاع كان بطل روسيا لا زلمة الزعيم. الجيش كان في امرة الدولة لا في امرة مكتب المخابرات. والمخابرات تملكت الامن، لا النفط. ومنظّر الحزب كان كوزنتسوف لا المهداوي. والاشتراكية كانت مبدأ وممارسة، لا خياراً انتقائياً يدوسه الاقرباء وينخره الازلام. الجيش السوفياتي استرد لينيغراد وستالينغراد ثم توجه الى برلين. كانت هناك صور تعلق على جدران الامة لا تحت هزائمها.
سقط نظام الامن في موسكو لكن الدولة لم تسقط. وبما ان الامن رؤية وليس فقط هراوة، فإن مدير المخابرات يوري اندروبوف هو الذي قال للرفاق في الكرملين: لقد انتهى الامر. احزموا حقائبكم. الشعب جاد في مسألة الحرية، لا يمكن ان يكون جميع الشعب الروسي خونة وجلادوه وحدهم وطنيين.
كان الاساتذة العراقيون قد ملأوا جامعات اميركا وكندا وبريطانيا، فيما ظل صدام حسين يفاخر بأنه يطلق النار من بندقيته بيد واحدة. ومن خلفه وريثاه. ومن امامه تحت الشرفة، الشعب العراقي. التفاصيل التي يرسلها الى الموت في الحروب او في السجون. تلك هي معالم النظام العربي الذي قام باسم الثورة والحرية، ناسيا، او غير مدرك اصلا، الشعار الثالث: الاخلاق حيال الاهل والجار.
رأى صاحب الفاتح ان اهم معالم العروبة الخيمة وحليب النوق فأخذ الاثنين معه الى اوروبا (قبل ان يمحوها وليد المعلم عن الخريطة). اما ابنه، فأخذ معه الى الجامعة في فيينا، نمرين. الجامعة كانت ادنى منه. ألغت قواعدها وقبلت قوانين سيف بن معمر بن منيار.
جاء معظم انقلابيي العرب من حرب فلسطين. اهانتهم حرب النكبة فقرروا الانتصار وصاروا حرب النكسة. حسني الزعيم كان في فلسطين. وعبد الكريم قاسم كان. وعبد الحميد السراج كان ايضا. عادوا فقلبوا النظام البرلماني ثم راحوا ينقلبون بعضهم على البعض. 22 عاما امضاها الرئيس السوري نور الدين الاتاسي في السجن بلا تهمة او محاكمة او محام او زيارة من رجال الحزب الذي كان امينه العام. عندما مات ارسلت ادارة السجن حوائجه الى العائلة: حقيبة فيها بطانية وبيجاما.
عرض العسكريون على العرب انتصار الثكن الداخلية لا الجبهات. وثلاث من الاوسمة على الصدور المنفوخة. والملازم الليبي جعلها بكل الالوان. وفي بلد محافظ مثل بلده ارسل جنوده يغتصبون النساء. مرت الحرب العالمية الثانية على ليبيا بجيوش رومل ومونتغومري ولم تذكر حادثة اغتصاب واحدة. ومرّ الاستعمار الايطالي بوحوش الجنرال غرازياني، ولم تخش ليبية موت الاغتصاب.
ولكن يقال لنا الآن انها الحرب العالمية الثالثة. او هكذا بدت على تلفزيونات لبنان. وقد وصفت الدكتورة نهلة الشهال ذلك العرض الدميم بأنه فيلم اباحي رديء. اي حالة اغتصاب علني لبقايا الذوق ولمم الذمة.
هل كان ذلك لبنان حقا؟ لم يكن ذلك الا لبنان. في شقيه، السري والعلني، العتم والضوء. ولم يعد غسان تويني هنا كي يحاول اقناعنا بأن ما نرى ونسمع ويصار الى طمسه، ليس ما نرى. كانت له قدرة خارقة على تجاهل ضمائر الكبريت، من اجل ان "يصير لبنان وطنا لا فندقا". ولكي ينفي ما يرى كان يخلع نظارتيه ويمسح زجاجهما ثم ينفخ عليهما من جديد ثم يبعدهما ثم يتأملهما. ثم يقلب شفتيه.
فماذا لو انه صدق ما يرى؟ ماذا لو ألحّت نظارتاه عليه؟ على الاقل، وانا اقرأ الصحف واشاهد تلفزيونات الجمهورية اللبنانية، لم يخامرني اي شعور بالخيبة. فما اشاهده كنت قد رأيته سابقا. رجال يتلفعون بالعلم اللبناني لكي يخفوا اللون والرائحة.
صحيفة النهار اللبنانية