“الأمّة والدين”: حول صناعة الهوية القومية في أوروبا وآسيا
تطرح مجموعة المقالات الواردة في هذا الكتاب، ومحورها التجربة التاريخية في أوروبا الغربية (أي بريطانيا وهولندا وألمانيا)، وفي آسيا (أي الهند واليابان)، إشكالية في ما يختص بفهمنا الحداثة الغربية ووظيفتها، باعتبارها أنموذجاً بالنسبة إلى باقي العالم.
يقول محرّرا الكتاب، بيترفان درفير وهارتموت ليمان، في مقدّمة هذا الكتاب، إن المقالات الواردة فيه تناقش التطور التاريخي للدين والقومية في الهند واليابان وبريطانيا وهولندا. ولا تُعتبر العلاقة بين الدين والقومية أمراً مسلّماً به، وإنما تستكشف مكانة الدين في ما يتعلق بأفكار مثل اللغة والعِرق والتاريخ في تكوين القومية.
كما تفحص المزايا المعيّنة للخطاب والممارسة الدينية التي يمكن استخدامها لأهداف قومية. مثلاً، إذا كانت الأمّة أمراً يستحق أن يموت المرء من أجله، فيوفّر الدين الطرئق لفهم تضحية أولئك الذين ماتوا من أجل الأمّة، ولتذكرهم وتحتفي بهم.
يستكشف هذا الكتاب ثلاثة موضوعات عامة: أولاً، يدرس تأميم الدين في العصر الحديث؛ ثانياً، يناقش العلاقة بين القوميات العلمانية والدينية؛ ثالثاً، يستكشف الطرائق التي تتحوّل فيها الآراء عن الموت والحياة ما بعد الموت في الاحتفال بالماضي العنيف للأمّة والمجتمع الديني.
في المقالة الأولى “الدولة الأخلاقية: الدين والأمّة والإمبراطورية في بريطانيا الفيكتورية والهند البريطانية”، يقول بيترفان درفير إن المسلمين البريطانيين رفعوا، في عام 1988، عريضة إلى حكومتهم، طالبين منها منع كتاب سلمان رشدي، “الآيات الشيطانية”؛ لكنهم اكتشفوا أن قانون التكفير القائم لا يمنع توجيه الإهانات إلى النبي محمد، فهو يُطبّق على المسيحية فحسب؛ وبالتالي، رفضت الحكومة تلك العريضة.
ومن ثمّ كتب وزير الداخلية المختص بالعلاقات العِرقية، جون باتن، وثيقة يخاطب فيها المسلمين والرأي العام بعنوان «أن تكون بريطانياً»؛ ووفقاً لباتن، «يمكن العثور على «ثقافة قومية مشتركة» في ديمقراطيتنا وقوانيننا في اللغة الإنكليزية والتاريخ الذي كوّن بريطانيا الحديثة».
لكن بيترفان درفير يتناول في مقالته نقطتين لم تُذكرا في نقاش باتن المتعلق بكون الشخص «بريطانياً»: «المسيحية والإمبراطورية»؛ مع إبدائه تفهّماً لإغفال السياسي ذكر المسيحية باعتبارها مكوّناً أسياسياً في الثقافة البريطانية في ذروة قضية رشدي.
وعلى النحو نفسه، هناك افتراض غير معلن في أطروحة باتن بأن تكون القِيم المتضاربة، كما برزت في قضية رشدي، مشكلة جديدة حملها المهاجرون معهم إلى بريطانيا، وهي لا تتعلق بالإمبراطورية إلاّ من حيث إن المهاجرين قدموا من الإمبراطورية السابقة، ما يشكّل مثلاً آخر على مقولة أن «الإمبراطورية تردّ الضربة بمثلها».
ومن وجهة نظر الكاتب، فإن العلاقة التي يجب تحليلها هي علاقة الدولة والأمّة والدين. فالدولة الحديثة هي دولة – أمّة؛ وتشير الواصلة بين الكلمتين (-) إلى أن الدولة الحديثة تتطلب أمّة، والعكس صحيح.
وعلى الرغم من أن بريطانيا والهند دولتان – أمّتان الآن، إلاّ أن بريطانيا فحسب كانت دولة – أمّة في فترة الاستعمار، بينما كانت الهند مستعمرة.
وبعد خوض الكاتب في الجدالات التي حصلت في تلك المرحلة حول دور الدين في كلٍ من بريطانيا والهند، وتحديداً التأثير الكبير الذي كان للإنجيلية في الثقافة الدينية برمّتها في بريطانيا، وفي المسار السياسي البريطاني، يتوقف عند محاولة الكثير من البريطانيين إخفاء الجذور المسيحية لسياساتهم الاستعمارية خلف قناع الحياد الديني؛ إلاّ أنهم لم يستطيعوا خداع «السكان الأصليين» للبلدان المستعمرة.
ويستنتج الكاتب أن الدين كان مهماً في تكوين الدولة والأمّة في بريطانيا والهند على حدٍ سواء؛ وأن عمليات بناء الأمّة في هذين البلدين ارتبطت من خلال الإمبرطورية، وأن العلاقة الإمبراطورية أثّرت في موقع الدين في بريطانيا والهند.
كذلك، استنتج الكاتب بأن افتراض الدولة البريطانية علمانية والدولة الهندية دينية، هو افتراض مغلوط، مقترحاً أنه لا يمكن القيام بتمييز بنيوي حاد بين الأمّة والدولة.
في المقالة الثانية “البروتستانتية والهوية القومية البريطانية – 1815 / 1945″، يعرض هيوماكليود لدور البروتستانتية المركزي في تشكيل الهوية القومية لبريطانيا، والتي كانت تعرّف بأنها دولة مسيحية – بروتستانتية مزدهرة ومتحضرة.
وكمثال، فإن الأساس الرئيس للتهجم البريطاني على الإيرلنديين، رغم المصطلحات العِرقية التي كانت تُستخدم في الخطب الدعائية البريطانية المناهضة للإيرلندية بطريقة فضفاضة، كان الاعتراض على ديانتهم؛ فكان يُنظر إلى كاثوليكيتهم باعتبارها ديناً مزيّفاً.
ويضيف الكاتب: في خلال القرن التاسع عشر، اعتقد كثر من الناس أن الجوانب الخمسة للهوية القومية البريطانية مترابطة، وأن ما يربطها هو البروتستانتية. وقد أسهمت الكنائس ومدارس الأحد والمدارس اليومية وطيف واسع من الصحافة في دعم هذا الاعتقاد.
وقد نجح البروتستانت المتشدّدون في تثبيت جذور عميقة في الأماكن التي كان فيها عدد كبير من السكان الكاثوليك المحليين، الذين يمكن أن يشكّلوا تهديداً مباشراً وواضحاً.
وكان المثل الأبرز للتأثير المتزايد للأفكار العرقية وللاحتقار المتزايد لعدم التسامح الديني الظاهر، يتمثل بالحملة ضد الهجرة الإيرلندية الكاثوليكية التي قامت بها مجموعة مؤثّرة من رجال دين كنيسة اسكتلندا في عشرينيات القرن العشرين.
لكن، في مرحلة لاحقة، حصلت انقسامات عميقة ضمن البروتستانتية البريطانية. وكان الانقسام الديني الأكبر بين البروتستانت المنتمين إلى الكنائس القائمة، وهؤلاء المنتمين إلى الكنائس أو المصلّيات الحرّة. وعلى الرغم من تراجع العدد في عضوية الكنيسة البروتستانتية وفي الحضور الذي يرتادها في أوائل القرن العشرين، فإن الأغلبية الساحقة من السكان استمرّت في اعتبار نفسها بروتستانتية.
كما أسهمت عوامل في تراجع أهمية البروتستانتية كركيزة للهوية القومية في بريطانيا، ومنها تقسيم إيرلندا في عام 1921، وابتعاد البروتستانتية عن الصراعات العالمية التي كانت بريطانيا مشتركة فيها؛ ففي الحرب العالمية الأولى، مثلاً، لم يكن للاختلافات الدينية أي علاقة بنمط التحالفات والعداءات القائمة.
وفي الحرب العالمية الثانية، ساعد المفهوم الشائع أن بريطانيا كانت تخوض حرباً من أجل الحضارة المسيحية ضد النازيين «الملحدين»، في تقديم حافز إيجابي لوجود هدف مشترك بين الكاثوليك والبروتستانت والمتحمسين لارتياد الكنائس وهؤلاء الذين يقفون على هامشها.
ويستنتج الكاتب، أن النماذج البروتستانتية المحدّدة للهوية القومية أبقت على حيويتها وتأثيرها حتى خلال القرن التاسع عشر.
لكن المناقشات في المؤتمر الكنسي في عام 1898، وما تلاه من مجادلات داخل المجتمع البريطاني، وخاصة عبر الصحف المؤثّرة في الرأي العام، أدّت إلى سقوط الادّعاء بأن الازدهار كان نتيجة البروتستانتية، حيث كان اثنان من أكثر أجزاء العالم تقدماً من الناحية الاقتصادية، بلجيكا وبلاد الراين، بلدين كاثوليكيين في الأساس؛ كما لم يعد الادّعاء البروتستانتي بامتلاك الحقيقة الكاملة يحمل أيّ قيمة.
وفي نهاية القرن التاسع عشر، كان الداعمون للقومية البروتستانتية يخسرون بعض نفوذهم، فيما بقيت بريطانيا مزدهرة بكلّ المقاييس؛ لكنها خسرت موقعها الاقتصادي المسيطر، ولم يعد في استطاعتها الادّعاء بأنها مسيحية بشكل فريد.
“العِرق في بريطانيا والهند”، هو عنوان المقالة الثالثة لسوزان بايلي، والتي حدّدت أهداف مقالتها المزدوجة؛ أولاً بفهم الطريقة التي طبّق فيها المنظّرون الأوروبيون ما اعتبروه المبادئ العلمية للنظرية العِرقية في القرنين التاسع عشر والعشرين، على فهم التجربة الدينية المعاصرة في الهند الاستعمارية؛ وثانياً باستكشاف ما قاله مفكّرو جنوب آسيا أنفسهم عن معنى العِرق باعتباره مصدر إلهام للمنادين بإعادة الإحياء الروحي والسياسي في تكوين التحديات القومية للحكم الاستعماري.
لقد اعتبر منظّرو العِرق الفيكتوري أن القدرة على تمدين الآخرين كانت علامة أساسية للقدرات الإثنولوجية المتطورة. وكان الأمر المحوري للفكر الاستعماري منصباً على أن البريطانيين جلبوا نِعمَ الحضارة الحديثة إلى الهند، على نحوٍ خاص، من خلال فوائد قيمهم المسيحية المفترض تفوّقها.
لكن تلك كانت «الهند» التي تُعتبر مسكونة من أقارب البريطانيين العرقيين، أو من نظرائهم الآريين. وجعلت تعاليم الإثنولوجيا (علم الأعراق – علم دراسة الإنسان ككائن ثقافي) من الصعب تصوير هؤلاء المتحدّرين من العِرق الآري الأبيض الأعلى بأنهم مجبورون على أن يتخذوا دور المستعمرين السلبيين.
واستنتجت الكاتبة أن الاهتمام الملحّ والحازم بالدين كان صلب كتابات المستشرقين منذ المراحل الأولى من التجربة الاستعمارية الغربية. وفي عصر الإمبراطورية الحديثة، كان مفهوم القومية فكرة أساسية لدى كثير من المفكّرين في عاصمة الإمبراطورية والمفكّرين الرسميين الاستعماريين، الذين حاولوا تعريف المجتمعات الإنسانية على أسس التطور العِرقي.
وقد شاركت مجموعة كبيرة من المفكّرين في جنوب آسيا في صناعة الأيديولوجيات القومية الهندية في تلك المرحلة. وكان هؤلاء المهندسون الأوائل للهوية الوطنية الجنوب آسيوية يشتركون في أمرين مع المفكّرين البريطانيين الذين استوعبوا أعمالهم في مفاهيمهم البدائية الخاصة المتعلقة بالعِرق والإيمان والانتماء القومي: أوّلهما، أن تأكيدهم الانتماء القومي كان أعلى إنجازاً في التطور الإنساني؛ وثانيهما، كان اعتقادهم أنه من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي القومي، يجب على الأشخاص الذين لهم صلة الدم نفسها، إيجاد الوسائل من أجل تحقيق قدراتهم الروحية، إضافة إلى تنقية أنفسهم من مواضع النقص الفيزيولوجية والأخلاقية التي وصفها الله والعلم، على حدٍ سواء، بأنها مؤذية لصحّة الأمّة.
وفي أواخر القرن العشرين، صارت هذه الأفكار متأصلة تماماً في شعوب جنوب آسيا، وفي أنحاء أخرى من العالم.
في المقالة الرابعة وعنوانها “التاريخ والأمّة والدين – التحولات في الماضي الديني الهولندي”، يبحث بيترفان رودن في الطرائق المختلفة التي ربطت فيها الكنيسة الرسمية في الجمهورية (هولندا) نفسها بماضيها. إن تصوّر الكنيسة العامة في الجمهورية عن موقعها المميّز كجزء من النظام العام في المجتمع الهولندي، هو الذي يفسّر لماذا رأت ماضيها على أنه «أصل أوّلي» وليس تاريخاً.
يقول الكاتب: حين دخلت هولندا فترة من التصنيع والتمييز المجتمعي في سبعينيات القرن التاسع عشر وثمانينياته، بدت البلاد أنها على وشك السير في الطريق التي تشهد فيها تحدياً للإجماع العريض للنخبة حول الهوية القومية، بسبب بروز الاشتراكية وبناء ثقافة كاثوليكية فرعية. ومع فشل الاشتراكية الأوروبية المفضوح في توفير بديل عملي لمفهوم الأمّة كمجتمع أخلاقي نهائي، والموقع الدائم للكاثوليك كأقليّة في هولندا، كان احتمال ألاّ تتوافر فرصة لهذه التحديات التي واجهت مفهوم الأمّة البروتستانتية.
وفي الواقع، حدث أمر مختلف تماماً، في ستينيات القرن التاسع عشر وسبعينياته، حيث تمكنت البروتستانتية الهولندية من استقطاب الناحيتين الإكليركية والسياسية. فظهر في جامعة ليدن علم لاهوتي ليبرالي راديكالي، رفض المعجزات والوحي الكتابي المنزل، على السواء.
وقد حاول الكاتب، من خلال استقرائه لبعض أفكار أدولف إيبي وإسحق ديرموت، والتي وردت في أربعة مجلدات بعنوان (تاريخ الكنيسة المصلِحة الهولندية)، إظهار كيف ارتبطت التغييرات التي أُنتج من خلالها الماضي الديني، بشكل وثيق، مع التحولات الأساسية في مكانة الدين في المجتمع الهولندي.
و”عن القوميات الدينية واللغوية – التقسيم الثاني للبنغال”، تحدثت بارتا تشاترجي، في المقالة الخامسة في الكتاب، من خلال مقارنتها بين التقسيم الأوّل للبنغال في عام 1905 والثاني في عام 1947.
وكان التقسيم الأول يعود في الأساس إلى الاستراتيجية الاستعمارية المعتمدة في مبدأ «فرّق تسد»؛ وكما عبّر هـ.هـ. ريسلي، الإداري وعالم الإثنوغرافيا، بقوله في جملتين: «البنغال المتحدة قوّة؛ والبنغال المقسّمة ستتجه في مسارات مختلفة… ويتمثّل أحد أهم أهدافنا في التقسيم؛ وبالتالي في إضعاف جسم الخصوم الأقوياء وإخضاعهم لسلطتنا». وكثيراً ما رأى المؤرّخون، في الحقيقة المتعلقة بكون الفلاّحين في شرق البنغال يتحدّرون من أغلبية إسلامية، في حين يتحدّر مالكو الأراضي من غالبية هندوسية، أنها الوضع البنيوي المهم الذي سمح بالتعبير عن العداء الطبقي بشكل سافر بين مجموعات دينية، ومكّن البريطانيين من التلاعب بالمؤسسات السياسية الهندية المختلفة في ما يتعلق بهذه القضية. وتستنتج الكاتبة بأنه لا يصح من الناحية التاريخية القول إن قرار تقسيم مقاطعة البنغال وفق خطوط دينية – ديموغرافية، شاركت فيه الجماهير الشعبية.
ومن المثير للاهتمام أنه مع التجاوز التدرّجي لمحنة التقسيم، واستطاعة عدد كبير من السكان الذين استؤصلوا من جذورهم أن يستقروا ويبدؤوا حياتهم من جديد، كانت القومية التي سيطرت على غرب البنغال، في فترة حكم حزب المؤتمر، ولاحقاً في ظل حكم الاتجاه اليساري، هي القومية التي سادت في عهد سواديشي: قومية متجذرة في ماضٍ من الحضارة الهندوسية، وشعور بالهوية البنغالية راسخ بقوّة في هذه القومية (مهما كانت علاقتها الاستراتيجية متوترة مع المركز السياسي) وخطاب دعائي للوحدة الهندوسية – الإسلامية (التي تسمّى الآن سياسة العلمانية). وعليه، تبدو مسألة البنغال كأنها تشير إلى مظهر من مظاهر الدولة – الأمّة الحديثة، التي لم يعترف بها إلاّ قليل في الكتابات التي تناولت القومية. ويرتبط ذلك بالوجود المتكرر، لكن السرّي بالضرورة، للدين كعنصر ثقافي – ديموغرافي في تكوين الأيديولوجيات القومية المهيمنة.
“القومية والحداثة والهوية الإسلامية في الهند قبل عام 1947″؛ هو عنوان المقالة السادسة، للكاتبة برباراد متكالف، والتي تبدأ مقالتها بإيراد فقرة من خطاب لمحمد علي جناح، في العام 1930، بقوله: «إذا كانت هناك من خطيئة أخرى أتّهم بريطانيا العظمى بارتكابها، إضافة إلى إضعاف الهند، فهي صنع روايات تاريخية خاطئة عن الهند وتعليمها لنا في مدارسنا».
ويمثّل هذا التعليق، حسب الكاتبة، دعوة إلى إعادة التفكير في مكانة الحركات الإسلامية «التقليدية» و«غير السياسية»، مثل جماعة التبليغ (تبليغي جماعت)، في رواية التاريخ الهندي في القرن العشرين. وتسعى الكاتبة، أوّلاً لوصف نشاط هذه الحركة من أجل تقدير تعقيداتها، وثانياً الاعتراف بالخلاف الضمني لحركة «تبليغي جماعت» مع الروايات التي تشملها؛ ومن ثم، في القسم الأخير، إثارة جوانب العلاقة الحميمة والمتداخلة بين الحركات والمقاربات التي لا تمثّل الثنائيات التي تدّعي تمثيلها.
وبعنوان “تبليغي جماعت: الإصلاح الاجتماعي والصمت السياسي”، تحلّل الكاتبة مسارات الجماعة، التي تصنّف حسب معظم الروايات التاريخية، كجزء من ردّة فعل أهلية عدائية متبادلة، تجاه فشل حركة الخلافة وحركة عدم التعاون في أوائل عشرينيات القرن العشرين. ولقد ظهر استغراق «تبليغي جماعت» في تكوين شخصية إسلامية فردية مقولبة ذاتياً، وتجنّب المشاركة في الحياة العامة، بشكل كبير، في إطار شمال الهند في تلك المرحلة.
لكن، في حين تنظر «جماعة التبليغ» إلى نفسها بأنها غير سياسية، فإنها لمجرّد وجودها تمثّل مواقف سياسية. وغالباً ما يُكتب عنها ضمن سردية القومية الموجودة دائماً و«الطبيعية» من الناحية المفهومية؛ أي كنوع من «ما قبل القومية» الثقافية التي تنتظر تحققها كأمّة إسلامية أو مجموعة مصالح (Interest Group).
وسواء أكانت حركة (تبليغي جماعت) ناشطة سياسياً أم لم تكن ناشطة سياسياً، فهي أسهمت في تحويل المسلمين (في الهند) إلى «إثنية» مميّزة ثقافياً وشديدة الوضوح.
“الذاكرة والحداد والمثل العليا القومية: مزار ياسوكوني وإعادة توحيد الدولة والدين في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية”، هو عنوان المقالة السابعة في الكتاب، والتي تحدث فيها هاري هاروتنيان عن موقعية مزار ياسوكوني باعتباره الحارس الرئيس للذاكرة والحداد الوطني الذي يحيي ذكر موتى الحرب اليابانية؛ وتحديداً ضحايا القنبلتين الذرّيتين اللتين ألقتهما الولايات المتحدة على مدينتي هيروشيما وناغازاكي، في عام 1945.
والمثير للاستغراب أن الكاتب يبدأ مقالته بإدانة اليابان، التي يجب أن تعيد كتابة تاريخها من أجل تحمّل المسؤولية، بسبب الدور الذي أدّته هذه «الدولة الإمبريالية» في آسيا، والدمار الذي سبّبته.
وبحسب الكاتب، فقد أصبح مزار ياسوكوني المكان الذي يضم ذاكرة حروب اليابان وأرواح الأبطال الذين قدّموا حياتهم بكلّ سرور للأمّة. وفي مزار ياسوكوني، لا أحد يسأل عن سبب حصول الحرب، أو ما إذا كانت «حرباً عادلة»، لأن كلّ حروب اليابان كانت «عادلة». وللمرء أن يتساءل هنا، أليس هذا هو المنطق أو «العقل» الذي يتحكّم بصنّاع القرار الأميركي، في مرحلة الحربين العالميتين، وما تلاها من حروب شنّها الولايات المتحدة ضد دول كثيرة في العالم.
يقول الكاتب: إذا ما كان الهدف من مزار ياسوكوني توفير ملجأ لموتى الحرب الذين قدّموا حياتهم من أجل «حماية الأمّة»، فإن من الصحيح أيضاً أن التقديس شكّل مكافأة للإمبراطور. وبهذه الطريقة، كان المزار منذ بدايته، مكاناً مصمّماً لحفظ الذاكرة، لايميّز بين خدمة الأمّة وخدمة الإمبراطور. ويضيف: في حين كان المزار يُعتبر مركزاً للتعبير الأقوى عن القومية قبل الحرب، كان على الرغم من ذلك يعبّر عن قومية دينية كانت تشمل السياسة والدين في آن.
ويستنتج الكاتب أن المجتمع الياباني الحالي ليس ديمقراطياً. فلا يزال الإمبراطور موجوداً، وأكثر قوة من أيّ وقت مضى، كرمز ونقطة ارتكاز للهوية الثقافية والتجانس العرقي. ولا يزال مزار ياسوكوني المكان الذي يحفظ الذاكرة القومية، وإنما يعتمد هذه المرّة على التطابق بين الحداد والخسارة، الذي يمثّل التعبير عن المشاعر القومية، والأخلاق القومية المعزّزة بإقامة الاحتفالات العامة بشكل منتظم ومميّز.
في المقالة الثامنة “البابويون والشحّاذون: الاحتفالات القومية وبناء الأمّة في هولندا في القرن التاسع عشر”، يبحث كاتبها، فرانز غروت، في الطريقة التي أصبحت فيها الشريحة الكاثوليكية من السكان، عنصراً جديداً، مشاركاً في الأمّة الهولندية. وهو يركّز، بالارتباط مع الفكرة الأساسية في مجموعة مقالات الكتاب، على التفاعل بين بناء الأمّة والتعددية الدينية، من خلال مراجعة دور الاحتفالات القومية في عملية بناء الأمّة.
ويضيف: ليس من مبالغة القول إنه جرى استيراد الأمّة والتعددية الدينية إلى هولندا في عام 1815، كإحدى ثمار الثورة الفرنسية. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ازدادت وتيرة التوتر بين عملية بناء الأمّة والتحرك تجاه التعددية الدينية. وكما هي الحال في البلدان الأوروبية الأخرى، كانت الرياح تجري بما تشتهي أشرعة سفن السياسيين الليبراليين؛ إلاّ أنهم واجهوا مشكلة مثيرة. فقد ارتكز مفهوم الأمّة الليبرالية على افتراض أن المواطنين كانوا أحراراً ومسؤولين؛ لكن ما الذي كان يتوجب فعله عندما كانت نسبة كبيرة من المواطنين تتبنّى آراء دينية وسياسية كانت تبدو أنها تهدّد الأمّة؟ كيف كان بالإمكان غرس الولاء أولاً في نفوس المواطنين من أجل مصلحة الجميع؟ كيف يمكن تعليمهم المشاعر الاجتماعية التي لا يمكن أن يصبح المواطن من دونها مواطناً جيداً يتحلّى بالوفاء؟
في هذه العملية التعليمية، يمكن للمناسبات التي تحيي الذكرى والاحتفالات الأخرى أن تؤدّي دوراً مهماً، إلى جانب المدارس الابتدائية الرسمية والمتحف القومي، مثلاً، إذ يمكن أن تخدم كطقوس من أجل إدخال الشرائح المختلفة من السكان في المجتمع.
ولقد اعتبر بعض المؤرّخين الهولنديين أن التطور نحو التعدديتين الدينية والسياسية وعملية الانصهار القومي كانا عمليتين يعزّز بعضهما بعضاً بشكل متبادل. وقد أنشأ القادة الكاثوليك وقادة الاتجاهات الرئيسة ضمن البروتستانت، منظمات على المستوى القومي لمواجهة سيطرة النخب الليبرالية. وبهذه الطريقة سمحوا للأشخاص الذين يعيشون في القرى والبلدات بالاحتكاك مع الأفكار والممارسات الخارجية.
في المقالة التاسعة وعنوانها “الدين والدولة – الأمّة والعلمانية”، يحلّل طلال أسد فكرة العلمانية، والعلاقة بين الدين السياسة، في طروحات مفكرين غربيين معاصرين.
ويستنتج أسد أن من يدعم فكرة أن الدين غير المخصخص (المعمّم) يتماشى مع الحداثة لا يوضح دائماً ما يعني ذلك بالتحديد. فهل هو الافتراض بأنه من خلال مخاطبة وعي الأمّة يمكن للمتحدثين (الخطباء) الدينيين إثارة الحساسيات الأخلاقية؟ تكمن الصعوبة هنا في أنه مع الأخذ في الحسبان عدم التجانس الأخلاقي في المجتمع الحديث، فإنه لا يمكن تحديد أي أمر على أنه يمثّل الوعي القومي أو حساسية أخلاقية جماعية.
ومن ثم يتساءل الكاتب أسد: هل تمثّل القومية، بتأكيدها التضامن الجماعي، دين الدولة – الأمّة؟ هل هذه هي الطريقة التي يستمد من خلالها المتحدثون الدينيون سلطتهم في المجال العام، عبر تشديدهم على المجتمع القومي كأنه مجتمع ديني أيضاً؟ هناك بالتأكيد تقليد طويل، مثير، يشير إلى أن القومية هي، بالفعل، دين. وبالتالي، منذ وقت طويل، يعود إلى عام 1926، علّق كارلتون هيز بقوله إن «لدى القومية عدداً كبيراً من الفِرق المشاغبة، لكنها، بالإجمال، تمثّل المقاربة الأحدث والأقرب إلى ديانة عالمية».
وحول العلمانية، يقول أسد إنه تكمن إعادة الأصول الأيديولوجية للعلمانية، جزئياً، إلى مبدأ النزعة الإنسانية في عصر النهضة؛ وفي جزء آخر، إلى مفهوم الطبيعة المنتمي إلى عصر الأنوار؛ وفي جزء آخر أيضاً، إلى فلسفة التاريخ لدى هيغل، الذي رأى، وهو من أوائل منظّري العلمنة، حركة التاريخ باعتبارها تبلغ أوجها في حقيقة وحريّة ما يسمّى «الحقبة الحديثة».
وفي تقدير الكاتب، فإن الإصرار على اعتبار القومية ديناً، أو حتى يشكّلها الدين، يعود إلى اغفال طبيعة الصورة التي حدثت نتيجة المذهب التنويري للعلمانية وتداعياتها، في بُنية المتخيلات والممارسات الجماعية الحديثة. وبالتأكيد تعتمد القومية الحديثة على لغات وممارسات موجودة من قبل، بما فيها ما نسمّيه، وللمفارقة التاريخية «دينياً»؛ وماذا يمكنها أن تكون غير ذلك؟ لكن لا يستتبع هذا القول إن الدين يشكّل القومية.
ويستنتج أسد أن الدين والسياسة يرتبط بعضهما ببعض بطريقة أعمق بكثير ممّا نظن؛ وهو اكتشاف ترافق مع فهمنا المتزايد لقوى الدولة – الأمّة الحديثة. إن مفهوم الأمّة العلمانية لا يمكن أن يشتغل من دون فكرة الدين.
في المقالة الأخيرة وعنوانها “الخير لدى الأمم”، يتحدث بندكت ر. أندرس عن الموضوع السابق، لكن من زاوية مختلفة، ترتبط بمكانة الدين والقومية لدى الشعوب والأمم، بإيراده نماذج عدّة تؤكد على عمق تأثير المشاعر الدينية والأفكار أو النزعات القومية في الممارسات أو الاحتفالات التي تُقام لإحياء ذكرى ضحايا الحروب والنزاعات، مثل تشييد النصب التذكارية للموتى الأبطال، والذين لن تكون لهم أي فاعلية، بخلاف القدّيسين، إذ لا يمكننا طلب شفاعتهم لتحقيق المعجزات لنا.
الميادين نت