الائتلافات الحكومية التركية: حسابات العائد والتكلفة
ما زالت تداعيات الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة تلقي بظلالها على المشهد التركي، حيث فقد أردوغان وحزبه الغالبية البرلمانية التي تمتعا بها لمدة تناهز ثلاثة عشر عاماً. على ذلك سيضطر «حزب العدالة والتنمية» (258 مقعداً) إلى الدخول في مفاوضات مع الأحزاب الممثلة في البرلمان الجديد لتشكيل ائتلاف حكومي، لتأمين غالبية 276 مقعداً من مقاعد البرلمان التركي البالغة 550 مقعداً (النصف زائداً واحداً). هنا تنفتح مجموعة من السيناريوهات والحسابات والتفضيلات أمام «حزب الشعب الجمهوري» (132 مقعداً) و «حزب الحركة القومية» (80 مقعداً) و «حزب الشعوب الديموقراطي» (80 مقعداً) للانضمام إلى ائتلاف حكومي أو الابتعاد عنه. تنشغل السطور القادمة بالاحتمالات المختلفة لتشكيل ائتلاف حكومي في تركيا، وتلقي الضوء على حسابات العائد والتكلفة لكل منها، ثم تختتم بخلاصة أولية.
(1) حكومة أقلية يشكلها«حزب العدالة والتنمية» منفرداً
تشكيل حكومة أقلية لا تبدو مقنعة كفاية لأردوغان وحزبه، بسبب عدم وجود حوافز كافية لأي من أحزاب المعارضة لقبولها. ومرد ذلك أن القبول بالسياسات السابقة ذاتها يلغي عملياً نتائج الانتخابات، وهو أمر يتصادم مع المنطق والواقع. وبرغم توافر ثمانية عشر نائباً من «حزب الحركة القومية» مستعدون لدعم حكومة أقلية من تحت الطاولة ـ كما يقول العالمون ببواطن الأمور- إلا أن التكلفة المتوقعة لهذا السيناريو ستتساوى مع التكلفة المتوقعة لتحالف صريح بين «حزب العدالة والتنمية» و «حزب الحركة القومية»، وهي تكلفة تبدو باهظة الثمن كما سيأتي في الاحتمال التالي مباشرة. وفقاً لهذا السيناريو، يستطيع أي من أحزاب المعارضة تقديم طلبات حجب الثقة عن الحكومة دورياً، ما يضعها في موقف غير مريح على الدوام.
(2) ائتلاف بين «حزب العدالة والتنمية»و«حزب الحركة القومية»
إن تشكيل حكومة ائتلافية بين حزبي «العدالة والتنمية» و «الحركة القومية» يبدو أمراً صعباً حتى مع انضواء الحزبين في تركيبة اليمين التركي. وبرغم وجود مرشحين من الوزن الثقيل على قوائم «حزب الحركة القومية» مثل دورموش يلماظ محافظ البنك المركزي السابق، إلا أن الحزب برغم ذلك معروف بزعيمه المزمن دولت باهشلي وأجندته ذات الموضوع الواحد: مواجهة الأكراد. وقد أعلن دولت باهشلي مراراً أن شرطه للدخول في ائتلاف هو تجميد مفاوضات السلام مع الأكراد، الأمر الذي سيجهز على أي تأييد لأردوغان بين الأكراد (يعتقد بأن نسبة غير قليلة من الأكراد صوتت لحزب أردوغان في الانتخابات الأخيرة على خلفية إسلامية). كما سيعني هذا السيناريو تجميد مباحثات السلام التركية ـ الكردية، ما قد يؤدي إلى نشوء موجات عنف تتجاوز الحدود التركية لتصل إلى مناطق تواجد الأكراد في دول جوار تركيا. وبالإضافة إلى ذلك، سيوتر الائتلاف اليميني المذكور علاقات تركيا مع جيرانها في اليونان وأرمينيا وقبرص، ما سيحطم في النهاية صورة تركيا الدولية.
(3) ائتلاف المعارضة في مواجهة «حزب العدالة والتنمية»
هذا سيناريو مستبعد، لأسباب عدة. أولها التناقض الواضح بين «حزب الحركة القومية» و «حزب الشعوب الديموقراطي». ثانيها، لا يمكن تصور سياسة إقليمية تركية حيال أي من التحديات المهمة في جوار تركيا الجغرافي في ظل هذا السيناريو. ثالث الأسباب يتلخص في عدم حماس دوائر غربية نافذة لتحالف كهذا، لأنه سيهدد النجاحات الاقتصادية التركية ومستوى الاستثمارات الأجنبية من وجهة نظر هذه الدوائر.
(4) ائتلاف كبير يضم الأحزاب الأربعة الممثلة في البرلمان التركي
سيناريو مائع بسبب وجود تناقضات عدة بداخله، بحيث يجعل الأحزاب الأربعة المنضوية فيه تتحرك مثل لعبة الكراسي الموسيقية تجاه القضايا المختلفة. هناك أولاً تناقض يساري – يميني («حزب الشعب الجمهوري» و «حزب الشعوب الديموقراطي» ممثلان لليسار في مقابل «حزب العدالة والتنمية» و»حزب الحركة القومية» ممثلان لليمين)، وثانياً تناقض علماني – إسلامي («حزب العدالة والتنمية» ذو التوجه الإسلامي في مواجهة الأحزاب الثلاثة الأخرى) وثالثاً تناقض قومي بين الأتراك والأكراد («حزب الشعوب الديموقراطي» المؤيد من الأكراد في مواجهة الأحزاب الثلاثة الأخرى).
(5) ائتلاف بين «حزب العدالة والتنمية» و «حزب الحركة القومية» و «حزب الشعب الجمهوري»
هذا سيناريو مستبعد، لأسباب عدة. أولها أن أردوغان لا يحتاج إلى تقديم تنازلات على جبهتين يسارية وقومية لتشكيل الحكومة، إذ ينقصه ثمانية عشر مقعداً برلمانياً فقط لحيازة الأغلبية. وثانيها أن تحالفاً كهذا سيضعف مواقع «حزب الشعب الجمهوري» لدى قاعدته الانتخابية العلمانية، وثالثها أن «حزب الحركة القومية» سيضطر إلى مسايرة الحزبين الآخرين في محادثات السلام مع الأكراد، ما يضر بصدقيته لدى قاعدته الانتخابية. كما ينطوي هذا السيناريو لتحالف غير متجانس أيديولوجياً على استبعاد الأكراد من الحكومة على خلفية قومية تركية – كردية، الأمر الذي لا يلحظ نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة بالشكل الكافي ويعمق من مشاكل تركيا الداخلية ويزيد من التحديات الإقليمية لتركيا في سوريا والعراق.
(6) ائتلاف بين «حزب العدالة والتنمية» و «حزب الشعب الجمهوري» و «حزب الشعوب الديموقراطي»
يعد هذا السيناريو مستبعداً نسبياً، لأسباب عدة. أولها أن أردوغان غير مضطر لتقديم تنازلات على جبهتين يسارية وكردية لتشكيل ائتلاف حكومي، ما يضعف مواقعه ضمن هذا السيناريو التحالفي. ثانيها أن «حزب الشعب الجمهوري» يستطيع الحصول على تأييد ضمني من الأكراد من دون وجودهم في الحكومة فعلياً. ثالثها أن «حزب الشعوب الديموقراطي» ربما يفضل الابتعاد عن الائتلاف الحكومي الآن، حتى لا يتحمل تبعات الأداء الاقتصادي المتردي نسبياً في الفترة السابقة، والذي سينعكس في كل الأحوال على تركيا خلال الفترة المقبلة. ورابعها ينطوي هذا السيناريو على استبعاد القوميين الأتراك وحدهم من المعادلة، ما يضعف اليمين في تركيا الذي يمثله «حزب العدالة والتنمية» و«حزب الحركة القومية»، وهو ما لا يتساوق مع النتائج الانتخابية الأخيرة (338 مقعداً لليمين مقابل 212 مقعداً لليسار).
(7) ائتلاف بين «حزب العدالة والتنمية» و«حزب الشعوب الديموقراطي»
ينضوي هذا الائتلاف على ميزات وعيوب للطرفين، لذلك فهو غير مستبعد من قائمة الاحتمالات. تتمثل ميزة تحالف كهذا في تسريع مفاوضات السلام القائمة بين الحكومة التركية والأكراد، التي ستصبح ركناً مركزياً لاتفاق الحزبين. وفي حال تم نزع سلاح الأكراد في تركيا بموجب الاتفاق، لن يخشى الأتراك طموحات استقلالية كردية من سوريا أو العراق، وعلى المدى الطويل ربما تجد أنقره أن العمل مع أكراد سوريا ربما يعزز نفوذها في جوارها الإقليمي، نظراً لتنامي العلاقات بين الحكومة التركية وأكراد العراق. تظهر عيوب هذا التحالف كالتالي: من منظار «حزب العدالة والتنمية»، يرتب هذا الائتلاف التزامات بشأن عملية السلام مع الأكراد في وقت يلتهب فيه الصراع الإقليمي وتزداد معه الطموحات الكردية، ما يأخذ السياسة الإقليمية التركية إلى مسارات جديدة لا ترضي بالضرورة كل مؤيدي الحزب. من منظار «حزب الشعوب الديموقراطي» ربما يكون البقاء بعيداً عن الحكومة منجاة في الفترة القليلة المقبلة، كي يستوعب ويهضم ويرسخ النجاحات الانتخابية التي حققها.
(8) ائتلاف بين «حزب العدالة والتنمية» و«حزب الشعب الجمهوري»
خرج حزب «الشعب الجمهوري» من الحكومة العام 1979 ولم يعد إليها منذ ذلك الحين. ولعل ذلك أحد الدوافع الرئيسة له للقبول بائتلاف مع أردوغان وحزبه. ولكي يحافظ زعيم الحزب كمال كليشيدار أوغلو على قاعدته الانتخابية، سيتوجب عليه أن يبرم اتفاقاً للائتلاف يقوم على إصلاح النظام الانتخابي بتقليل نسبة العشرة في المئة اللازمة للتمثيل بالبرلمان، والتأكيد على الحريات الفردية وحق التعبير وتكوين الجمعيات، فضلاً على الحصول على ضمانات بأن الائتلاف لن يمنع البرلمان من التحقيق في قضايا فساد تطال أعضاء في «حزب العدالة والتنمية».
كما سيضغط كليشيدار أوغلو باتجاه تعريف دقيق لصلاحيات الرئاسة وعلاقتها بالحكومة الائتلافية، ما سيصطدم بأردوغان وطموحاته العارمة ويجعله يدفع ثمناً سياسياً كبيراً مقابل تشكيل هذا الائتلاف الحكومي. بالمقابل يبدو هذا السيناريو مقبولاً نسبياً من منظار أردوغان، إذ سيعني هذا الائتلاف حكومة وسطية (يمين الوســط مع يسار الوسط) في مــــقابل اليمين ممـــثلاً في «حــــزب الحركة القومية» واليسار في «حزب الشعـــوب الديموقراطي»، ما سيرمم صــورته في الخارج.
خلاصة أولية
لا يمكن استبعاد انتخابات برلمانية مبكرة في تركيا يدعو لها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تهرّبا من قائمة الاحتمالات، نظراً للتكلفة السياسية الكبيرة المتوقعة في حال تم تشكيل ائتلاف حكومي بين «حزب العدالة والتنمية» وأي من «حزب الشعب الجمهوري» أو «حزب الشعوب الديموقراطي». وفقاً للمعطيات الحالية، يبدو سيناريو الائتلاف بين «حزب العدالة والتنمية» و «حزب الشعب الجمهوري» الأكثر احتمالية، يليه سيناريو ائتلاف بين «حزب العدالة والتنمية» و «حزب الشعوب الديموقراطي». في حال تحقق أي من السيناريوهين، سنشهد تحولاً ما في موقف تركيا المتردد تجاه تنظيم «داعش» وبالتالي في رسم السياسة التركية حيال سوريا والعراق، وانكماشاً للمكون الأيديولوجي «الإخواني» في السياسة الخارجية التركية، وهما نتيجتان على قدر كبير من الأهمية!
صحيفة السفير اللبنانية