الاتفاقية الصينية – الإيرانية تستنفر تل أبيب …
أشعل توقيع الاتفاقية الصينية – الإيرانية للتعاون الاستراتيجي الضوء الأحمر لدى الأجهزة المختصّة ومعاهد الأبحاث والخبراء في كيان العدو؛ لكون ذلك يُمثّل، بحسب تقديراتهم ومخاوفهم، متغيِّراً استراتيجياً ستكون له تداعياته على مجمل الوضع الإقليمي، وعلى الأمن القومي الإسرائيلي.
تعامَلت إسرائيل، ولا تزال، مع صمود إيران الاقتصادي وتجاوُزها مفاعيل الحصار و»الضغوط القصوى» على أنه تحدٍّ استراتيجي يفرض عليها أن تدرس في ضوئه خياراتها البديلة. ولذلك، تتجاوَز معطيات الوضع الاقتصادي في إيران، بالنسبة إلى تل أبيب، أبعادها المهنية والتقنية، إلى كونها معطيات ساحة المواجهة الرئيسة التي تخوضها الولايات المتحدة والمعسكر الغربي، لمصلحة إسراالاتفاقية الصينية ئيل، وللحفاظ على هيمنتهما على المنطقة. فكيف إذا ما اقترن هذا الصمود، في ظلّ استمرار تعاظُم القدرات العسكرية النوعية والكمّية، بتعاوُن استراتيجي شامل مع الدولة التي تنافس على المكانة الاقتصادية الأولى في العالم؟
يُشكّل الاتفاق بين بكين وطهران مؤشّراً كاشفاً إلى فشل السياسة الأميركية – الإسرائيلية حيال إيران، سواءً في ولايتَي باراك أوباما أو دونالد ترامب؛ فلا الأوّل نجح في إحداث تحوُّلات في الداخل الإيراني، ولا الثاني حصَد نتائج من سياسة «الضغوط القصوى». كذلك، يؤكّد الاتفاق أن إيران أبعد ما تكون عن السناريوات التي تُروّج لها إسرائيل، إن لجهة مفاعيل العقوبات الأميركية، أو حتى العزلة الدولية. فما جرى بين بكين وطهران يمثّل صفعة، في المضمون والتوقيت، لمحاولات إدارة جو بايدن تثمير عقوبات ترامب، بهدف انتزاع تنازُلات نووية وصاروخية وإقليمية من الجمهورية الإسلامية. وما يُضاعف أهمّية فشل الرهان على العقوبات، قبل اتفاق التعاون الصيني – الإيراني وبعده، أنه يُبطل الخيار الرئيس الذي تُراهن عليه تل أبيب ومعها واشنطن، خاصة في ظلّ الارتداع الأميركي – الإسرائيلي عن الخيار العسكري في مواجهة البرنامج النووي الإيراني، تجنُّباً لتداعيات تؤدي إلى إشعال المنطقة بأكملها، إضافة الى المخاوف من اليوم الذي يلي أيّ سيناريو عسكري، لجهة خيارات إيران النووية.
في البُعد الدولي، يمثّل اتّفاق التعاون مع إيران، أيضاً، تحدّياً صينياً للإدارة الأميركية، لكونه يحصل مع الجمهورية الإسلامية التي تُشكّل قاعدة المواجهة ضدّ الولايات المتحدة. وتدرك تل أبيب أن تفاقُم الصراع الصيني – الأميركي، والروسي – الأميركي، يمنح طهران هامشاً أوسع للاستفادة من هذا التناقُض لمصلحة تعزيز موقعها وحلفائها في التوازنات والمعادلات الإقليمية القائمة. وفي ضوء هذه المعادلة، يتشكّل تركيب رباعي شديد التعقيد: إسرائيل، الحليف الاستراتيجي الخاص للولايات المتحدة، والتي تُعتبر شريكاً اقتصادياً للصين، التي تُعدّ في الوقت نفسه خصماً استراتيجياً للولايات المتحدة وتحدّياً لها على المستوى العالمي؛ والصين، التي تُمثّل شريكاً اقتصادياً لإسرائيل، تعقد اتفاقاً للتعاون الاستراتيجي مع إيران، التي تُمثّل تهديداً استراتيجياً للأمن القومي الإسرائيلي، وتهديداً وجودياً للكيان على مستوى المستقبل.
أمام هذا المشهد، لا تستطيع تل أبيب إخفاء مخاوفها من أن نتائج تنفيذ اتفاق التعاون الإيراني – الصيني «تُحيّد إلى حدّ كبير رافعة الضغط الاقتصادي الأميركي، وتُعزّز الموقف التفاوضي الإيراني»، وهو ما يعني، عملياً، تبديد الرهان على خيار إخضاع إيران أو على الأقلّ إضعاف موقفها نسبياً في أيّ مفاوضات لاحقة، وما سيسهم، أيضاً، في تعزيز مكانتها الاستراتيجية وحلفائها في المنطقة. ويتزايد القلق، لدى الأجهزة الإسرائيلية المختصّة، من حقيقة أن إيران التي صمدت سابقاً في مواجهة الضغوط الأميركية القصوى، سيكون حالها أفضل كثيراً بعد بدء تنفيذ المشاريع الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية بموجب المعاهدة المُوقّعة مع الصين، الأمر الذي سينعكس على المنطقة بالمجمل.
انطلاقاً من هذه الوقائع، كان تحذير الباحث في شؤون الأمن القومي، دان شيفتان، من أن التهديد الذي يُمثّله تطوُّر التعاون الإيراني – الصيني ينطوي على أبعاد وجودية. وشيفتان، كما بقية الخبراء في كيان العدو، يُقدّرون مفاعيل أيّ متغيِّر بهذا الحجم، ليس بالنظر إلى اللحظة السياسية والنتائج الفورية والمباشرة، بل ينظرون إليه بعيون المستقبل. وليس الأمر حِكراً على هذا الاتفاق تحديداً، بل ينسحب على كلّ ما يُسهم في تعزيز قوة إيران الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، والذي ينعكس بدوره على مكانة إسرائيل الاستراتيجية، وعلى المعادلات الإقليمية، ويسهم في تعزيز المسار التصاعُدي لمحور المقاومة. في المقابل، تُراهن إسرائيل على أن المدى الذي يمكن أن يبلغه هذا الاتفاق، على مستوى التطبيق العملي، مرتبط إلى حدّ حاسم بالعلاقات الأميركية – الصينية، وخاصة أن توقيعه أتى في لحظة احتدام الصراع مع الولايات المتحدة. وبهذا المعنى، كان التوقيت الصيني مقصوداً وهادفاً. وبالنسبة إلى إيران، فإن التعاوُن مع الصين يمثّل ترجمة لخيار إيراني استراتيجي في تعزيز العلاقات مع الشرق في مقابل الغرب، الذي يحاول إخضاعها وانتزاع التنازلات منها.
وانطلاقاً من الخطورة التي ينطوي عليها هذا المستجدّ في بيئة إسرائيل الإقليمية، ولما يؤشّر إليه من مآلات تتّصل بالبيئة الدولية، أوصى «معهد أبحاث الأمن القومي» في تل أبيب بمجموعة خطوات تمثّل انعكاساً للضوء الأحمر الذي يبدو أنه خَيّم على جهات التقدير والأبحاث في تل أبيب. ومن ضمن تلك التوصيات التي قدّمها رئيس دائرة التخطيط الاستراتيجي في شعبة التخطيط في الجيش الإسرائيلي، العميد أساف أوريون، دعوته إلى ضرورة الحفاظ على متابعة استخبارية منظّمة ومنهجية للعلاقات الصينية – الإيرانية، لجهة ما قد يترتّب عليها من تطوُّر للتهديدات على إسرائيل. وفي الوقت نفسه، دعا أوريون، أيضاً، إلى حوار رفيع المستوى مع الصين، يتمّ خلاله طرح قلق إسرائيل من التهديد الذي تُمثّله إيران، وإلى العمل عبر قنوات إقليمية ودولية من أجل التخفيف من تهديدات طهران وإبعادها عن إنتاج أسلحة نووية.
وإدراكاً لمحدودية الدور والتأثير الذي يمكن أن تُحقّقه تل أبيب في هذا المسار، أوصى أوريون صنّاع القرار في تل أبيب بالسعي إلى حوار استراتيجي مع الولايات المتحدة حول العلاقات الصينية – الإيرانية، على المستويات كافة، مقترِحاً صياغة «مخطّط مرجعي» يتمّ تحديثه بشكل دائم لإدارة المخاطر الخاصة بالعلاقات مع الصين، وإجراء مسح للمخاطر التي تنطوي عليها العلاقات بين الأخيرة وإيران، والعمل على الموازنة بين الأبعاد الاستراتيجية والأمنية في السياسة الصينية، في إطار تقدير وضع للأجهزة الاستخبارية والتخطيط الاستراتيجي وتخطيط السياسات.
هكذا، تجد إسرائيل نفسها أمام تقاطعات شديدة التعقيد، وفي مواجهة معضلة حقيقية. فلا هي قادرة على تجاوُز الخطوط الحمر الأميركية في علاقاتها مع الصين، ولا في استطاعتها الاصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة في استعداء الصين، وهو خيار تَعرف أنها ستدفع ثمنه غالياً في الاقتصاد والأمن القومي، من بوّابة إيران وحلفائها. كما أنها لا تقدر على تجاهل المخاطر التي سيُرتّبها اتفاق التعاون الصيني – الإيراني. باختصار، يكشف القلق الإسرائيلي من ذلك الاتّفاق، مرّة أخرى، الضعف الاستراتيجي الذاتي لكيان العدو، حتى في ظلّ تحالُفه الخاص مع الولايات المتحدة.