الاحتلال الإيطالي لليبيا معرضاً في روما: الصور من الماضي… أبطالها على أرصفة الحاضر
ليس غريباً أن تكون الصور أقل من الأحداث وأن يكون المتفرجون بدورهم أقل تورطاً في الصور ممن في داخلها. لكن عنوان المعرض الذي يقام في العاصمة الإيطالية، لا يترك مجالاً لأي نوعٍ من أنواع الحياد: «الاحتلال الإيطالي لليبيا: العنف والاستعمار 1911 ــ 1943». ما هو مشجّع، إذاً، أن العنوان لا يدعو إلى الدوران حول التاريخ، وليس معرضاً مُحضّراً بصيغة استعمارية عن الاستعمار، كما يحدث في كثير من الأحيان. نحن أمام «جانبٍ من الحقيقة» في بيت الذاكرة والتاريخ.
رغم أن المعرض يُظهِر مئات الصور الفوتوغرافية، إضافةٍ إلى شروحات ووثائق، إلا أن صوراً محددة قد تستدعي انتباه الناظر إليها. علينا أن لا ننسى أن المعرض الذي يتحدث عن احتلال ليبيا يُقام في روما (بيت الذاكرة والفن)، وقد أقيم قبلاً في مناطق أخرى من إيطاليا ولا سيما في توسكانا، التي تعد مكاناً «أرستقراطياً» مقارنةً بالعاصمة.
لكن هذه ملاحظات تتخفف من أهميتها سريعاً، عندما نتذكر أن وزير خارجية إيطاليا حالياً هو ماتيو سالفيني. وجود المعرض في روما، للوهلة الأولى، سيمنح المعرض طابعاً يقوم على التسامح، بما أن العرض البصري المتقن هنا، يمنح العرض طابعاً تحفياً. ولكن لا نزال بحاجةٍ إلى التاريخ لندخل الحاضر بأقل قدرٍ ممكن من الأوهام.
في أي حال، تتحدث الصور عن الاستعمار أفضل مما يتحدث عن نفسه بكثير، ولا سيما الجندي الإيطالي الذي يعتمر خوذةً، تذكّر بما تذكّر به قبعة ميلانيا ترامب الكريهة في كينيا. الاستعمار يسبح بين أزمنة ويقيم في عدة أمكنة.
الاستعمار هو الاستعمار، هذا ما يقوله المعرض. وما نشاهده عن ليبيا شاهدناه في الجزائر. ونشاهده في الخارج على الرصيف الذي يؤدي إلى جسر مازيني أو إلى القلعة حيث يتجمهر السياح، ويتجمهر حولهم جيش من المهاجرين. الطفل الذي يقف في إحدى الصور أمام القرية الإيطالية النموذجية أصبح كبيراً.
وربما صار حفيده يسارياً، أو التحق بحركة «خمس نجوم» في كبره، أو ربما صار في «رابطة الشمال» قبل أن تصير «الرابطة»، وقبل أن يرث سالفيني نفسه «روح» هذه الصور الشنيعة في معرض عذابات الأفريقيين. ولعل المؤرخ الإيطالي المسؤول عن المعرض، كونستاتينو دي سانتي، يعرف كإيطالي أكثر مما قد نعرفه كمشاهدين آخرين عن الاستعمار.
يقول في إحدى مقابلاته ما معناه أن المعرض ليس فنياً خالصاً، وليس نظرة تتعالى على الماضي. فالاستعمار، كما تُظهِر الصور، يقوم في أساسه على شعور المستعمِر الأبيض بامتلاك الحضارة. تلك الكلمة التي تبدو كنكتة في عين الجنرال الإيطالي الذي يحمل منظاراً وينظر إلى الصحراء. لقد ذهبت الفاشية إلى ليبيا كي «تعلّم الليبيين وتأتي إليهم بالحضارة».
وهذه الفكرة لا تزال قائمة حتى اليوم، وقد يظهرها معرض التقطت صوره قبل أسابيع أو شهور، كما تُظهرها صور الجيش الإيطالي والمستوطنين من 1911 إلى 1943. إنها العقلية الأوروبية البيضاء التي تتناسل وتنجب أشخاصاً مثل سالفيني ومارين لوبين وغيرهما. وهذه هي أهمية المعرض بالضبط: بالإمكان أن يقرأ راهنياً. الذهاب إلى ليبيا واحتلالها ما زال مشروعاً.
الاستيطان في ليبيا ما زال مشروعاً. النظرة إلى الليبيين ما زالت نظرة كولونيالية. دي سانتي يعرف هذا جيداً، وينتقد كل شيء، لكن المعرض يفتح نافذة من دون أن يكثر في الكلام. الهِجرة التي تحدث الآن لم تنزل من السماء.
العرض الشجاع في روما، لا يدل على بضعة أشخاص صودف أنهم صاروا فاشيين أو كانوا أدوات للتوسع الإمبريالي، والتقطت لهم هذه الصور المحفوظة في الأرشيف الوطني في طرابلس. إنه عرض ضدّ الكولونيالية في الأصل. فما يلفت في الصور ليس طفرة العنف الفاشي لأن ذلك كان رائجاً ضدّ الإيطاليين أيضاً، الذين تخلصوا منه بأنفسهم في نهاية الأمر. ما سنشاهده هو عنف كولونيالي خالص، محاولة مستمرة لمحو الأرض من وجوه أصحابها، ومحوهم عن وجهها: الكولونيالية بوصفها حجراً أساسياً في البناء الفاشي.
وعندما ينهار البناء فوق المسجونين فيه، فإن الأنقاض تصير أثقل من الصور بكثير. كثير من العرب بدورهم لا يعرفون عن ليبيا إلا ما نقله الاستبداد. حتى الاستعمار بصيته السيئ وأحواله الكريهة عرفناه ممجوجاً بسرديات الاستبداد السيئ الذكر هو الآخر الذي لحقه، ليس في ليبيا وحدها إنما في سوريا والعراق وأمكنة لا تنتهي. حتى اليوم، قد نشعر بأننا نملك تصوراً واضحاً وحلاً جاهزاً لمِحنة الليبيين، لأننا لا نعرف القبائل ولا تاريخ الليبيين ولا نعرف وجوههم الحقيقية.
لوهلة قد نشعر بأن مستعمِراً صغيراً في داخلنا يجب طرده سريعاً قبل أن يتطفل على الأولاد الذين في الصور. ما ينقص في تلك الصور هو المرحلة الزمنية بين نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية مرحلة ما بعد الناتو. ذلك أن مسلسل الاستبداد كان تركة الاستعمار لحظة خروج الاحتلال الإيطالي المباشر من ليبيا، وكان مطية العودة إلى الحديث عن التحديث والحضارة بعد تدخل الناتو العسكري في البلاد.
ما يلفت أن العنف الكولونيالي ليس عنفاً محنّطاً، أو عنفاً يسكن الصور، بل إن تردداته واضحة في أفريقيا وفي المستعمرات السابقة. إنه عنف متواصل، وقادر على إنتاج نفسه بصيغ تتواتر ألف مرة في النهار. وبدلاً من الصحراء الطافحة عمداً في صور التاريخ، هناك البحر الذي يفيض ألف مرة في صور اليوم.
يقول كريستيان ميتز إن السرد يملك بداية ونهاية، وإن هذا ما يميّزه في لحظةٍ واحدة عن كل شيء آخر في العالم. وانطلاقاً من نظرية ميتز هذه في العلاقات التتابعية، فإن المعرض ــــ بالصور والنصوص على السواء ــــ لا يمكنه أن يكون سرداً، مهما كان مشبعاً بالتفاصيل. ذلك أن لا بداية محددة له. وإن اتفقنا أن هذه البداية هي الاستعمار في 1911، فلا يمكننا إلغاء كل الآثار في 1943، وهذا واضح للذين كتبوا النصوص.
الاستعمار لم ينتهِ لأن آثاره لم تنتهِ، وإن كانت هذه وجهة نظر متساهلة للغاية. ربما تكون الحقيقة في وجوه المهاجرين الأفارقة الذين ينتظرون خارج الصالة. انتظار ضدّ الماضي بكليته.
هؤلاء الذين لم يكترثوا للتاريخ، ربما لأنهم يعرفونه، أو لا يوافقون على أنه تاريخ منقطع عن الحاضر. ربما لأنه تحت جلدهم. هؤلاء الذين ينتظرون المارة على الأرصفة لكي يخبروهم: نحن المهاجرين الذين تشاهدون قواربهم على التلفزيون، وتفتحون أفواهكم حزناً. هؤلاء هم أنفسهم الذين يُظهر المعرض صور أجدادهم في صحراء الاستعمار.
صحيفة الاخبار اللبنانية