النصر الفلسطيني : بين التقييم الحسابي والنوعي
التركيز على الخسائر البشرية والمادية في غزة لإنكار النصر الفلسطيني يجافي التقييم النوعي والاستراتيجي للأهداف المحقَّقة.
كما في حرب “إسرائيل” على لبنان في تموز/يوليو 2006، كذلك في الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين عام 2021، تقوم مجموعة من السياسيين والإعلاميين والنشطاء في وسائل التواصل، بالتركيز على الخسائر البشرية والمادية في غزة، لإنكار النصر الفلسطيني المتحقَّق، ولتعلن أن “إسرائيل انتصرت”، بدليل تفاوت الخسائر بينها وبين الفلسطينيين.
واللافت هو اختلاف التقييم هذا مع التقييم الإسرائيلي. ففي حرب تموز/يوليو أيضاً، خرجت أصوات لبنانية تُنكر على المقاومة انتصارّها، بينما خرجت الأصوات الإسرائيلية، وتقرير لجنة فينوغراد الإسرائيلية (المسؤولة عن تقييم حرب تموز)، لتتحدث عن هزيمة إسرائيلية فيما سمَّته “حرب لبنان الثانية”. وكذلك في فلسطين اليوم، تخرج أصوات عربية تتحدَّث عن انكسار فلسطيني، في وقت يتحدّث السياسيون والإعلام الإسرائيلي عن أن “المبادرة الإسرائيلية بشأن وقف إطلاق النار من جانب واحد، هي إقرار بالهزيمة أمام حماس، التي سجَّلت في هذه الحرب أداءً لافتاً، سياسياً وعسكرياً، في مقابل تراجع الحكومة الإسرائيلية”.
وهكذا، وبعيداً عن التقييم السريع والمرحليّ، سنحاول أن نقارب الانتصار الفلسطيني من زاوية استراتيجية متوسطة المدى، إن لم يكن في استطاعتنا قياسٌ كامل لجميع نتائجها في المدى الطويل، وعلى وجود الكيان الإسرائيلي ككل، ولنلفت النظر إلى عدم صوابية التقييم الحسابي للقضية، بل من الأجدى التركيز على التقييم النوعي للأهداف المحقَّقة.
1- عدم دقة التقييم الحسابي
بدايةً، لا بدَّ من الإشارة الى أن التقييم الحسابي الصِّرف للحرب بين الطرفين، وإقامة معادلات حسابية للخسائر المادية والبشرية، لا يستويان في حرب “لامتماثلة”، كالتي حدثت في فلسطين، وقبلها في لبنان.
تختلف الحرب اللامتماثلة في أهدافها عن الحرب التقليدية، التي يكون الهدف فيها هو الحسمَ العسكري، عبر تدمير العدو،ّ وضرب مراكز قوته العسكرية والاقتصادية، وإجباره على تبنّي مواقف كان يرفضها قبل الحرب. إن تحقيق مثل هذا الهدف في الحروب اللامتماثلة، هو مهمة صعبة للغاية. وهنا، بما أن الطرف الضعيف لا يستطيع تحقيق النصر العسكري بسبب افتقاده عواملَ القوة المادية التي تؤهّله لفعل ذلك، يصبح هدفه الأساسي التأثير السياسي، لا الحسم العسكري.
في الإطار نفسه، يقول بريجنسكي، في كتابه “الاختيار”، إن النصر لا يُعرف في الحرب اللامتماثلة بنتائجه، بقدر ما يُعرف بالعمل نفسه. ويصف اللاتماثل بأنه “قوة الضعف”، بحيث ينزلق القويّ في ردود أفعال مذعورة ومبالَغ فيها، الأمر الذي يجعله يتحوّل، من حيث لا يدري، إلى رهينة في يد الضعيف.
وهكذا، يمكن القول إن منع نتنياهو من تحقيق أهدافه، وعجز الجيش الاسرائيلي عن اقتحام غزة، يشيران إلى “عجز القوة”، وبالتالي يكون الفلسطيني الضعيف قد انتصر ما دام أنه لم يسمح للقوي بتحقيق أهدافه، بالرغم من الفارق حسابياً في الخسائر البشرية والمادية بين الطرفين.
2– في تقييم الربح النوعيّ
منذ زمن بعيد، أنتجت “إسرائيل” عن نفسها صورة سياسية وإعلامية سوّقتها في العالم، وركّزتها في ذهن الرأي العام العالمي، وفيها:
– “إسرائيل” تتمتّع بـ”تفوق، أخلاقياً وحضارياً” في مقابل أعداء “إرهابيين منحطّين أخلاقياً، ومتخلّفين حضارياً”، وهم في المُجمل “معادون للسامية”.
– “إسرائيل” هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط.
– لـ”إسرائيل” دور ووظيفة تؤدّيهما، ووجودها ضروريّ لحماية المصالح الأميركية والغربية في المنطقة.
– هي الضحية المظلومة التي تقاتل للدفاع عن نفسها ضد أعداء يريدون إلغاءها.
– “الجيش” الإسرائيلي هو الجيش الأقوى، والذي لا يُقهر، وأيّ حرب يخوضها يخرج منها منتصراً بسهولة (سقطت هذه الصورة بعد حرب تموز/يوليو).
وعلى الرغم من تناقض صورة الضحية مع صورة القوة التي لا تُقهَر، فإن “إسرائيل” استطاعت أن تجعل العقل الغربي يقبل صورتين متناقضتين: صورة الضحية المغلوب على أمرها، والمهدَّدة في وجودها، وصورة القوة العاتية والتي لا تٌقهر، فبرَّرت بطشَ القوة بناءً على مبدأ “الدفاع عن النفس”.
اليوم، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت في قدرة الرواية الفلسطينية على اختراق الحظر المفروض، غربياً وعالمياً، على كل صوت مُعادٍ لـ”إسرائيل”، تمّ تجييش الشعوب حول العالم نُصرةً لفلسطين، فانتشرت المَسِيرات المؤيدة لفلسطين، وخرجت الأصوات المندِّدة بالجرائم الإسرائيلية، حتى داخل الكونغرس الأميركي نفسه.
أمّا صورة “الدولة الديمقراطية”، فلا شكّ في أنها بدأت تتهاوى بعد انخراط فلسطينيي أراضي الـ 48 في التظاهرات، وحدوث الاشتباكات في مناطق مختلطة يسكنها فلسطينيون ومستوطنون لم تشهد أيَّ تظاهرات في السابق، وتنديد العالم بما يفعله الاحتلال من تهجير واقتلاع للفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. فأيّ دولة ديمقراطية هذه تمارس التمييز والفصل العنصريَّين، ويفجّر رئيس وزرائها المنتهية ولايته نتنياهو الحربَ هرباً من المساءلة أمام القضاء بتُهم الفساد؟
أمّا فائض القوة، والذي بدأ يتهاوى منذ عام 2006 وما بعده، فخسارته ليست بالأمر اليسير على الكيان، إذ يذكر تقرير فينوغراد، في فقرته الـ 63، ما يلي: “إن صحة مقولة (لا يوجد حلّ عسكري) تعني أن إسرائيل لن تستطيع البقاء في هذه المنطقة، ولن تستطيع الاستمرار فيها بسلام أو هدوء، من دون أن تعتقد هي نفسها، فضلاً عن محيطها، أن الجيش يمكن أن ينتصر، وأنه يوجد لدى إسرائيل قيادتان سياسية وعسكرية وقدرات عسكرية ومناعة اجتماعية تسمح لها بالردع، وأنها قادرة، لدى الحاجة، على إلحاق الهزيمة بجيرانها الذين يريدون تصفيتها، ومنعهم – حتى بالقوة – من النجاح في تحقيق رغبتهم”.
لا شكّ في أن خسائر “إسرائيل” السياسية، وتغيّر الصورة الإعلامية، وخروج الأصوات والتظاهرات المندِّدة بالعدوان الإسرائيلي، وسقوط وهم القوة الإسرائيلية، سوف تؤدي إلى خسارة “إسرائيل” دورَها الوظيفيّ في الشرق الأوسط، الأمر الذي يعني أن “القاعدة المتقدمة للدفاع عن المصالح الغربية في الشرق الأوسط” باتت في حاجة دائماً الى مَن يحميها. فأي وظيفة تؤديها؟
إن هذه الخسائر الإسرائيلية ليست بالأمر الهيّن، فلقد أسقطت محصّلة عقود من الجهود السياسية والإعلامية والدبلوماسية والعسكرية، وستَظهر نتائجها مع القادم من الأيام، كما ظهرت نتائج حرب تموز/يوليو، والتي كرّست معادلات ردع لم تستطع “إسرائيل”، حتى اليوم، تخطِّيَها مع لبنان.