«البدروم» أو السماء الأولى
إنهما إنهما أبى وأمي، لعلهما هما الاثنان معاً أول من صعد بي إلى السماء الأولى، في طفولتي وبسبب وجه الله الطالع لي من كل زاوية، كنت أظن أن الجسد أضيق كثيراً من الروح، وكنت ألجأ إلى أبي وأسأله فلا يجيبني إجابات مباشرة، كان أبي يفتنني بحكاياته القديمة المنسوجة من أجساد تتهارش وتتداخل وتتخارج، وبعدها ألجأ إلى أمي، التي ستضمني وتفتنني بأغانيها الحسية دون مواربة وخجل، كانت أمي تجعل النهود رمّانا يدّحرج، والأفخاذ أشجاراً تورق إذا ارتوت، كانت تغني وتغني، كأنها سوف تدخل الجنة بصوتها، وكأنني سأتبعها، وعلى حدود النشوة، سوف نجد أختي تزهو بما وهبها الله من مفاتن ومثيرات، في مراهقتي، كانت الجوهرة تكاد تضيع مني، الغالبية اعتبرت دائماً أن هذا الطور هو طور الوحشة، الغالبية اعتبرته الأسوأ في حياة كل إنسان، لكنني الآن أستعيده وأنا أسيان على فقدانه، وأكشف عنه غطاءه، فيخايلني كونه فترة الكشوفات والأسئلة، فترة السفر بعيداً عن الله، وبعيداً عن الحكمة، الفترة المثال، في المراهقة، كنت أخاف من اكتشاف جسدي، ومن الرنوّ إلى أجساد الآخرين، ما عدا جسد أختي، الذي أذاب جفوني، وأنا صبيّ، وفتحها عن آخرها، أيامها عكفت على القصائد والروايات العاطفية، وكلها تآلفت كي تنتصر على حكايات أبي وأغنيات أمي وجحيم أختي، لولا أنني أدركت فجأة أن المراهقة هي أول الشعر، وكان أن تلقيت المعونة بسخاء من أول دواوين نزار قباني، فأصبحت السماء الأولى عامرة بهم، أبي وأمي وأختي ونزار، في أول كل ليل يحكي لنا أبي عن نسائه ورجاله التاريخيين، فإذا انجلى وتجلى، أنشد قصائد صريحة لا أعرف أصحابها، وفي آخر كل ليل كنت أقرأ أشعار ابراهيم ناجي ومحمود حسن اسماعيل والهمشري وعلي محمود طه وأبي القاسم الشابي والتيجاني يوسف بشير، كنت آنذاك ألبس عمامة الرومانسيين وأحكمها على رأسي، وأحسها وكأنها دوامة هادئة تحيط العالم، وبعد أن تمسكه من أطرافه، تنبسط وتتحول إلى سيل وبذخ في التعبير عن الحب، وبعد آخر كل ليل كنت أصادف أحيانا المطربة التي تنتظرني، أنا المفتون الهائم، وتذهب معي إلى أيظن وماذا أقول له، وكانت بعد الفراغ من هذه الرحلة، ثمة فكرة تتناثر أجزاؤها وتحاول أن تتكون وتصبح على هيئة بلاغ مفهوم، ولكنها تفشل ولا تستطيع، فأتوهم كأن صوتاً ما داخلي يقول لي بحزم: إن التاريخ الأدبي ما كان لينطوي على كل هذه الحماقات الشعرية والأدبية، وكل هذه الأطياف الدالة على الجمود، لو كان للجسد، ولقصيدة الجسد، ونحته، وفنونه عموما، اليد العليا في ما نفعله ونكتبه، يتوقف الصوت ثم يعود: إن توالي عهود الرخاوة والانحطاط في كتاباتنا الشعرية إنما يعود إلى خلاف ما تظنه الأغلبية الرصينة، يعود إلى غياب الجسد، إلى غياب طور المراهقة، وقبل أن أفيق، أتوهّم ثانية كأن صوتا ما داخلي يقول لي: إن شيوع فنون الجسد قد يكون هو وحده الأقرب إلى المثل العليا من كل ما ظهر حتى الآن طوال فترات احتكار الفنون المتجهمة الجادة صدارة كل مشهد.
في فترة ما بعد مراهقتي اكتشفت أنني أجري في كل الدروب، ذات مرة كنت وحدي أمام أكثر من سبعة دواوين لنزار، بالتحديد أمام مجلده الأول، قالت لي السمراء، طفولة نهد، سامبا، أنت لي، قصائد، حبيبتي، الرسم بالكلمات، قصائد متوحشة، كتاب الحب، سألت نفسي هل يجوز لي أن أزعم أنني أعرف حقا نزاراً بعد قراءاتي له، وفوجئت بإجابتي القاطعة، إن نزار قباني الذي أعرفه من القصائد، صنعه نزار قباني الذي لا أعرفه على الإطلاق، وكانت الرومانسية قد علمتني أن أبحث عن الشاعر في شعره، وإذا كنت سأهجر الرومانسية وألومها على بحثها، فإنني سأصر على عدم اعتناق طريقة نزار في تأليفه لقناع يختفي وراءه، ذات مرة سعيت أنا ومحمد خلاف وراء أرشيبالد ماكليش الذي أخذ يردد أمامنا، ويشير بإصبعه السبابة إلى الفراغ الذي يريد أن يملأه بصوته حتى أجبرنا أن نفعل مثله، ونقول ما يقوله، على الشاعر أن يتعلم كيف يعمل من الكلمات والألفاظ شباكاً متقنة الصنع كي يصطاد بها طيور المعنى، ومنذ هذه المرة، ومحمد خلاف الحبيس في خزانته، يعتقد أن نزاراً يتقن صنع الشباك لكنه لا يجيد الصيد، ذوات مرات تالية فاجأني العقاد برومانسيته الخشنة الهشة وهو ينعت نزار قباني بأنه دخل مخدع المرأة ولم يخرج، حتى أنني تمنيت لنفسي هذا المصير، ذوات مرات أخرى، قال لي محمود درويش ساعة كنا جالسين في بهو الفندق ببرلين، تعلم أن نزاراً كان عم زوجتي السورية السيدة رنا قباني، ولقد دخلت بيته في باريس أكثر من مرة ولم أجد كتاباً واحداً في أي ركن، الرجل كان يعيش بغير كتب، حتى أنني لم أجد ما يمكن أن يدل عليه، إلا أناقته ولباقته.
ذوات مرات فاجأني طه حسين باعتقاده أن الغزل وهو عنده فن شعري قائم بذاته، لم يوجد ويزدهر إلا مرة واحدة، في ظل الأمويين واستبدادهم السياسي، الجاهليون لم يكونوا غزلين، حتى الملك الضليل لم يهب حياته كلها للغزل الحسي، كما وهبها من سنمجده بعد قليل، الجاهليون كانوا رهبان الصحراء، والعباسيون جنحوا إلى العبث والمجون، جنحوا إلى الخلاعة، والعباس بن الأحنف شاعر غزل من طبقة أدنى من أبي نواس وبشار وأبي تمام والبحتري والشريف الرضي، طبقة العباس لا تسمح له بامتلاك خشبة مسرح شعر العباسيين، العباسيون كانوا رهبان الخلاعة، فقط عمر بن أبي ربيعة كان شاعر الغزل الحسي الذي يملأ المنزلة بين المنزلتين، منزلة الحسية بين منزلتي العذرية والمجون، يملأها ويفيض، حول عمر انتشر الشعراء العذريون كأنهم بعض حمام مكة، بعض حمامها الزائف أحيانا، لكن بذخ العذريين أصبح القنطرة التي عبرها عمر ليصل إلى سلطان الجسد، وسرعان ما ملأ الأرض وطار وارتفع حتى بلغ السماء الأولى، كان بذخ العذريين في زمانهم بمثابة الطبعة الأولى لبذخ أشباههم من الرومانسيين الذين ملكوا نفوسنا طوال القرن العشرين وحتى ثلثه الأخير تقريباً، وكان ظهور عمر هو أيضا الطبعة الأولى لظهور نزار وعبوره قنطرة الرومانسية التي وطأها وداسها ليصل كما وصل قرينه إلى سلطان الجسد، ثم إلى السماء الأولى، والأخبار التي نقلتها الكتب القديمة عن عمر، وشعره المجموع في ديوانه، الاثنان سوف يجعلاننا نعرف كليهما مرة، ولا نعرف أياً منهما مرة أخرى، فكل منهما صنع الآخر وألّفه، إلى حد أن يصبح عمر الشاعر وعمر الكائن غير حقيقيين، كلاهما قناع، ويصبح شعرهما أكثر حقيقية عموماً، مما أكد لي أن نزار قباني بلغ سماءه، هو رؤيتي الدائمة لأطراف من ظله الكبير تكسو وجوه فتيان وفتيات ممّن أصادف، وكما أن كولمبوس لم يخترع قارة أميركا، لكنه اكتشفها، فإن السماء هي محض فكرة بسيطة واضحة، هي قارة، إنها إحدى حقائق الواقع التي توجد مستقلة وتحتاج لأن يكتشفها الإنسان، قال لي أحد الأولياء، كلما انتقل شخص ما من سماء أدنى إلى سماء أعلى، كلما تباعدت ظلاله عن الأرض وتجلت آثارها على أناس مغمورين بثقافاتهم الأعمق، وصدقت الولي لأن الشاهد عندي كان قلة الظلال التي يبثها وجه أدونيس وأنسي الحاج على وجوه العامة، وشيوع نفاذها عند خاصة الخاصة، وهؤلاء، أعني الخاصة، خذلوا لويس عوض عندما اتجه اليهم بديوانه بلوتولاند، وقال هذا ديوان للخاصة، فلم يدركوه ولم يدركهم، إن أجلى ما خسرناه في أزمنة حداثتنا هو نظراتنا المتعالية وقلة اعتدادنا بهؤلاء السكان المقيمين في السماء الأولى وبمحبيهم، والذين لولاهم ما استطعنا أن نواصل صناعة القراءة، وأن نصعد جميعا بسلالم من ورق إلى تلك السماء ونتعرف على سكانها، وبعدها تهبط أغلبيتنا، ويستمر المثابرون منا في الصعود، إلى السماء التالية، ثم يصعد الأكثر مثابرة إلى ما يليها، حتى يصل النفر القليل الأعمق ذوقاً وحساسية ومعرفة إلى السماء السابعة، اللافت أن نزاراً ظل طوال الوقت من سكان السماء الأولى، لم يغادرها قط إلى ما يليها، رغم إلحاحه المتواصل، فيما آخرون مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي وبدوي الجبل وسعيد عقل بدوا لنا في أول عهدنا بالقراءة، وكأنهم لا بد يسكنون في المنازل المجاورة لمنزل نزار، وفي السماء ذاتها، ولما عدنا إليهم كنا في كل مرة نجد نزاراً في مكانه المعتاد، ونجد متاعه لا يزيد ولا ينقص، ونجد بعض متاع نجيب محفوظ ما زال في السماء الأولى، يمكننا أن نسميها البدروم، وبعض متاعه ارتفع إلى الطوابق الأعلى، وسوف تقابله، أي نجيب، في كل تلك السماوات، في كل مرة كان حارس السماء الأولى ينظر إلينا كأننا حمقى ومغفلون، كأننا ملائكة، ثم يدلنا على علو شأن سكانه ومدى أهميتهم وجدواهم، فهم الصنانير والشباك الأولى التي تصيد القراء وتهيئ بعضهم لرحلات الصعود والترقي، هم الذين يصنعون القراءة وعاداتها، ويساعدون الطبيعة في سبيل أداء عملها، يشير الحارس إلى منزل نزار ويقول، لم يكن شعره شعر جماعة، فنهز رؤوسنا ونقول نعم، ولم يكن صادرا عن الإحساس بالعزلة، نهز ونقول نعم، ولكنه شعر الفرد الذي يحب أن يظل عضواً في جماعة، أحدنا يسأل الحارس بصوت عال وبتفكه: هل غزل نزار الحسي، هو شعر الإنسان الدون جوان، أم شعر الإنسان الروميو، وقبل أن نضحك يقول الحارس هو شعر عاشق الجسد، أي شعر الروميو الدون جوان، الروميو الكازانوفا، فننفجر ضاحكين.
مع تقدم نزار في العمر، وإيغاله في الشيخوخة، شعر بأعباء زيادة الخبرة ونقص البراءة، فتوقف عن أن يكون فرداً داخل جماعة، وآثر أن يصبح فرداً بحجم الجماعة، آثر أن يصبح الجماعة كلها، وأمعن في إنكار فرديته، خاصة أن قصيدته أصبحت تتعرض لمضايقات عدة، شعراء الأرض المحتلة يحاولون أن يزيحوه، فينفلت ويصبح شاعر كل الأراضي المحتلة، وقصيدة النثر تحاول أن تزيحه، فيدخل محرابها دون استعداد ودون دربة ودون وعي بها، مساحات الصمت التي كانت موجودة في شعره الأول، وهي أمارة فتنة وجمال، حيث لا شعر بلا صمت، لا فن بلا صمت، تراجعت حتى امحت تماما، صار نزار مشغولاً بالبحث عن مكان جديد، يبدأ بخبرة محدودة، آملا استعادة براءته، هو الخبير في التمويه على البراءة والخبرة، الحارس يقول، الغريب أن أغلب زواره يريدون منه أن ينشد قصائده كما ينشدها المغنون المقطوعون من شجرة سوداء، هؤلاء الذين استخدموه وأهانوه، فبعد عبد الوهاب ونجاة وفيروز وأم كلثوم وفايزة أحمد وهم كانوا على مقاسه، جاء الهؤلاء، لم يتوقف الحارس عن الثرثرة بل أخذ يغني لا تسألوني ما اسمه حبيبي، كنا نسمع أصداء صوته في أثناء هبوطنا من السماء الأولى، وكان ضجيج الذاهبين إليه، أي نزار، يفوق بكثير ضجيج الذاهبين إلى غيره، ما عدا جبران، وعندما وصلنا إلى الأرض، تمنيت أن يوزعوا على كل الفتيان والفتيات كتبه الشعرية الأولى، خاصة الأولى، ليصطادهم ويفتنهم، بعدما أصبح الشعر غريبا لا يقرأه أحد، بعدما أصبح الشعر بندقية المهزوم، بندقية الهارب، بندقية العولمة وما بعد الحداثة، بعدما أصبح الشعر بندقيتي أنا أيضا.
صحيفة السفير اللبنانية