كتب

«البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور… رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

أنيسة مخالدي

فاز الروائي الفرنسي لوران موفينييه بجائزة الغونكور إحدى أرفع الجوائز الأدبية في فرنسا عن روايته «البيت الفارغ» (دار نشر مينوي)، حيث حصل على الجائزة من الدورة الأولى للتصويت بستة أصوات مقابل أربعة أصوات للكاتبة البلجيكية كارولين لامارش عن روايتها «الغامض الجميل»، في قرار وصفه فيليب كلوديل رئيس أكاديمية الغونكور على أمواج إذاعة «فرانس إنفو» بأنه «تحية لكاتب يملك إرثاً أدبياً مهماً للغاية».

 

تمتد رواية «البيت الفارغ» على مدى 750 صفحة من السرد المحكم. يبدأ عام 1976 عندما يعيد والد الراوي فتح منزل ظلّ مهجوراً لفترة طويلة. كاشفاً عن آثار ماضٍ مدفون: آلة البيانو، وسام شرف، وصور فوتوغرافية مشوّهة أيضا. من خلال هذا الاكتشاف، ينسج موفينييه ملحمة عائلية تمتد عبر ثلاثة أجيال من النساء الفرنسيات اللواتي عشن تحولات القرن العشرين المضطربة: ماري – إرنستين، الجدّة الكبرى للراوي. موسيقية قمِعت مواهبها وحرِمت من تحقيق ذاتها الفنّية أيضا. يرمز إليها البيانو المهجور في البيت. ثم تأتي مارغريت، الجدّة. التي عانت من وصمة العار بعد أن حلِق شعرها عقاباً لها في زمن التحرير. فانزوت في عزلةٍ مريرةٍ حتى أزيل وجهها من جميع الصور العائلية بمقصٍّ حادٍّ أو طمِس بقلمٍ غاضب. أمّا الشخصية الثالثة فهي جان – ماري. الزوجة السلطوية التي تحوَّلت من مجرّد امرأةٍ مكلَّفةٍ بالمربّيات وترقيع الجوارب إلى سيّدةِ البيت الحازمة وحارسةِ المظاهر الاجتماعية.

وحول هؤلاء النسوة يدور رجالٌ كفيرمان صاحب المزرعة الأصلي. وجول الجدّ الأكبر المتوفّى في الحرب العالمية الأولى والحائز وسام جوقة الشرف. كماوأندريه زوج مارغريت الذي عاد من الأسر محطَّماً فاقداً لصوابه. يحرِّك هذه الشخصيات جميعاً صوت الراوي الذي يكتشف في عام 1976 أسرارَ عائلته المدفونة في ذلك البيت الذي ظلَّ موصَداً عشرين عاماً. ليعيد بناء ذاكرةٍ جماعيةٍ ممزَّقة بين الحروب والصمت والخيبات المتوارثة.

رواية البيت الفارغ شهادة حية على تحولات فرنسا الريفية والعمالية .

تتجاوز رواية «البيت الفارغ شهادة حية على تحولات فرنسا الريفية والعمالية خلال القرن العشرين. يشرح موفينييه أن قصته العائلية تشبه قصة ملايين الفرنسيين، بمناطقها المظلمة وأجزائها الأكثر مجداً، حيث تستحضر أهوال الحربين العالميتين، وحرب الجزائر، وتأثيرها المدمر على الأجيال المتعاقبة. النساء يلعبن دوراً محورياً في السرد لأنهن «من يحملن العبء، كما كان الحال غالباً في الأرياف وبالأخص في أوقات الحرب».

عدّ موفينييه هذه الجائزة «إشارة ساخرة» لأصوله الاجتماعية البسيطة، حيث وُلد في السادس من يوليو (تموز) عام 1967 في مدينة تور، في أحضان أسرة عمالية بسيطة تضم خمسة أطفال استقرت في مدينة ديكارت بإقليم توران غرب فرنسا. والده كان عامل نظافة، وأمه خادمة في المنازل.

كانت طفولة لوران موفينييه محطّة حاسمة في تكوين وعيه الأدبي. ففي الثامنة من عمره، دخل المستشفى لفترة طويلة. وهناك تلقّى هدية غيّرت مجرى حياته. نسخة من رواية «شيطان صغير طيّب» للكونتيسة دو سيغور. فكانت تجربة قوية ومؤثرة: زرعت فيه رغبة عارمة في الكتابة، وفي الإبداع، حتى وهو طريح الفراش.

ذكريات مريرة للكاتب الفرنسي في المستشفيات أهمها: الاستعلاء والتكبّر .

ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي عرف فيها الكاتب الفرنسي المستشفيات. فطفولته كانت مطبوعة بالأمراض المتكررة والزيارات الطبية المتعددة. وكان يحتفظ من تلك الفترة بذكريات مريرة أهمها: الاستعلاء والتكبّر اللذان كان يبديهما الأطباء تجاه أمّه البسيطة. ثم جاءت الصدمة الكبرى. في عام 1983، عندما كان لوران في السادسة عشرة من عمره، أقدم والده على الانتحار. وبعد عقود، عندما شرع في كتابة روايته الضخمة «البيت الخالي»، عادت المحنة الصحية لتطرق بابه، حيث كتب جزءاً من هذا العمل الروائي البالغ سبعمائة صفحة وهو يصارع مرض السرطان، وكان غالباً ما يكتب من على سرير المستشفى.

استقبلت الصحافة الثقافية الفرنسية الرواية بحماس منقطع النظير. حيث أشادت مجلة نوفيل أوبس بالرواية، قائلة إن موفينييه حرّر النساء من قيودهن، ومنحهن النعمة والعدالة والمجد. صحيفة «لو بوان» وصفت الرواية بأنها «عمل يعيد كل بريقه للأدب الفرنسي، بالجمع بين جواهر تاريخه وجرأة حداثته» أيضا. فيما عدّتها مجلة «ليزانروكس» «واحدة من أجمل روايات الموسم الأدبي… ونصاً لا يشبه أي نص آخر». صحيفة «لو فيغارو» عدّتها «واحدة من أعظم روايات القرن الحادي والعشرين»، مؤكدة أن موفينييه بلغ ذروة فنه الروائي مع هذا العمل الاستثنائي.

رواية البيت الفارغ – رواية قوية وما يميزها براعة الأسلوب.

في الموقع الأدبي «في انتظار نادو»، وصف هوغو براديل في مقال بعنوان «مقاومة الأدب» رواية «البيت الفارغ» بـ«الرواية القوية». وما يميزها ليس فقط عمق الموضوع، بل براعة الأسلوب. فنصّ الرواية يتميز بجمل طويلة متدفقة تذكّرنا بأسلوب مارسيل بروست، يتلاعب فيها الكاتب بالزمن السردي ببراعة منقطعة النظير.متنقلاً بين الماضي والحاضر في حركة دائرية. وبالنسبة لصحيفة «لوموند». الرواية رواية شاملة لأنها مع احتفاظها ببنيتها وقصتها الخاصة أيضا. تلخّص جميع أعمال المؤلف السابقة. هذا التكثيف الأدبي يجعل من «البيت الفارغ» عملاً تأسيسياً في مسيرة موفينييه الإبداعية. ومن بين أعماله المشهورة «بعيداً عنهم» (1999)، و«رجال» عن ذكريات حرب الجزائر، و«قصص الليل» (2020).

وقد بيع من رواية «البيت الفارغ» نحو 82.000 نسخة قبل الإعلان عن الجائزة، ومن المتوقع أن تشهد مبيعاتها ارتفاعاً هائلاً بعد وضع الشريط الأحمر لجائزة الغونكور على غلافها. هذا النجاح يأتي في وقت حرج لصناعة النشر الفرنسية التي تواجه تحديات اقتصادية. توماس سيمونيه، مدير دار نشر مينوي التي نشرت الرواية، وصف الفوز بأنه «أجمل شيء يمكن أن يحدث لدار نشر مينوي»، مؤكداً أن هذا التتويج يعني قبل كل شيء «انتصار الأدب».

صحيفة الشرق الأوسط اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى